فولكر كامينسكي (دويتشه ﭭيله موبايـل) : بعد نشر ترجمتها الألمانية عام 2014 أثارت رواية "
آخر الملائكة" التي ألفها قبل 25 عاما الكاتب العراقي المعروف فاضل العزاوي ضجة كبيرة في الأوساط الأدبية. الناقد الأدبي الألماني فولكر كامينسكي يستعرض الرواية لموقع قنطرة.
كان فاضل العزاوي يريد كتابة رواية حول العراق، حتى قبل مغادرته العراق في عام 1977. غير أنَّه لم يتمكّن إلاَّ في منفاه في برلين من تنسيق الأحداث المحيطة ببعض الأشخاص، الذين وصفهم - في حوار أجري معه - بأنَّهم كانوا من "أصدقائه ومعارفه الجيدين"، بحيث تكوّن من ذلك عالم روائي.
ومثلما أكّد في الدورة الأخيرة من المهرجان الدولي للأدب في برلين، لم يكن فاضل العزاوي يريد فقط كتابة مذكرات حول مسقط رأسه مدينة كركوك، بل كتابة عمل شامل حول "العالم العربي برمّته". وهكذا تبدو هذه الرواية من النظرة الأولى فقط مقتصرة على حقبة الخمسينيات في العراق. بيد أنَّها في الواقع تصوّر عالمًا رائعًا، تمتزج فيه مصائر غير عادية وقصص حقيقية ورؤى تنذر بنهاية العالم بصورة شيقة تخطف الأنفاس.
لا يمكن نقل مضمون هذه الرواية إلاَّ بصورة مقتضبة، نظرًا إلى كونها غنية بالشخصيات والأبطال: ومن بين أبطالها السائق حميد نايلون، الذي يفقد عمله لدى شركة النفط البريطانية العاملة هناك ويقرّر تأسيس نقابة مهنية ويضع خطط انقلاب ثورية موضع التنفيذ.
ملائكة شيطانية باعتبارها مرآة للمجتمع
وكذلك يلعب برهان عبد الله دورًا كبيرًا، وهو صبي يبلغ عمره سبعة أعوام وله موهبة خارقة. وبرهان يتواصل مع ثلاثة ملائكة يظهرون في شكل رجال كبار في السنّ، يصبح لهم تأثير عليه وعلى حي جقور الذي يتصدّر الرواية - ولكن ليس فقط بالمعنى الجيد. ومع مرور الوقت يظهر أنَّ هذه الملائكة هي قوى ظلامية وشيطانية: وهي صور رمزية لتطوّر كلّ المجتمع العراقي، الذي يغرق مرارًا وتكرارًا بعد مراحل مؤقتة من الأمل في الفوضى والعنف.
يرى الناقد الأدبي الألماني فولكر كامينسكي أنَّ رواية "آخر الملائكة" وعلى الرغم من الجانب المعتم فيها فهي أقرب ما تكون إلى كونها رواية مفعمة بالبهجة، يتم فيها استكشاف ما هو سلبي من خلال الدقة المفصّلة بكلّ التفاصيل وتحويلها إلى سخرية غريبة.
من المثير للدهشة أنَّ هناك الكثير من الإشارات الواقعية إلى الوضع الراهن في العراق، والتي تظهر في رواية العزاوي، وكأنما قد توقّع هذا المؤلف من خلال نطرته إلى حقبة الخمسينيات سيناريوهات الحرب الأهلية القادمة. وعلى الرغم من انتقال بعض حلقات هذه الرواية إلى الخرافة وإلى -مثلما يرد في الرواية- "إلغاء الحدود بين الممكن والمستحيل"، فإنَّ السؤال الملح حول إيجاد حلّ سلمي للتعايش بين الأهالي -في هذا البلد المتعدّد الأعراق والمتعدّد الأديان- يحتل بالنسبة للمؤلف مكان الصدارة.
في هذه الرواية أيضًا لا يخلو مزيج العرب والتركمان والأكراد واليهود والمسيحيين من التوترات والعداوات والخلافات، ولكن مع ذلك فقد كانت تسود لدى الأهالي في فترة الملكية في الخمسينيات رغبة في التعايش السلمي. ويعود هذا أيضًا إلى التدخّل الشجاع من قبل بعض الأشخاص البارزين، الذين يتحمّلون المسؤولية بشجاعة عن المجتمع في اللحظات الحرجة.
يقوم خضر موسى، وهو تاجر أغنام، بتنظيم زيارة رسمية من تلقاء نفسه إلى الملك فيصل الثاني، من أجل تجنّب الوقوع في صراع وشيك مع المحتلين البريطانيين. تثبت طريقة وصف العزاوي لهذا العمل في تفاصيله موهبة الأسلوب الهزلي الكبيرة التي يتمتع بها هذا الكاتب. تبدو زيارة قصر الملك من أجل طلب المساعدة مجرّد محاولة غير مجدية، ولكن مع ذلك يتمكن وفد أهالي كركوك من الوصول إلى القصر ومن تقديم طلبهم إلى الملك الشاب - غير المؤهل سياسيًا.
وأمَّا كون مهمة السلام هذه قد أسفرت أخيرًا عن تجدّد العنف والاضطرابات الدموية أثناء النقاش مع الجيش، فهذا يبدو في منطق هذه الرواية أمرًا حتميًا تمامًا، حيث تحل محلّ كلّ فترة أمل بصورة منتظمة أعمال العنف، التي يعلق الراوي عليها بأسلوب هزلي ساخط.
بين التقليد والحداثة
وعلى الرغم من هذا الجانب المعتم في الرواية إلاَّ أنَّ "آخر الملائكة" أقرب ما تكون إلى كونها رواية مفعمة بالبهجة، يتم فيها استكشاف ما هو سلبي من خلال الدقة المفصّلة بكلّ التفاصيل وتحويله إلى سخرية غريبة. ويعود سبب ذلك من ناحية إلى أشخاص الرواية غير العاديين، الذين يؤمنون بقيام الأولياء من موتهم، ويتواصلون مع الملائكة ويحافظون على سيطرتهم على أنفسهم حتى في أثناء لقائهم مع الموت المجسّد -وهو رجل كهوف مسن وحميد يرتدي قبعة حمراء وقبقابين خشبيين.
ولكن مع ذلك يعود الفضل في سهولة أسلوب العزاوي قبل كلّ شيء إلى فنّه الروائي، الذي يستمده من الشعر التقليدي الشرقي مثل "حكايات ألف ليلة وليلة" ويستند إلى نصوص دينية مثل القرآن والعهد القديم والعهد الجديد، غير أنَّه على وجه الإجمال يحافظ على أسلوب النثر الموضوعي الحديث.
لقد أتاح هذا الدمج بين التقليد والحداثة المجال للكاتب فاضل العزاوي من أجل كتابة هذه الملحمة الشرقية -التي كان يخطط لكتابتها- وفي الوقت نفسه مكّنه أيضًا من تتبُّع أسئلة واقعية جدًا حول هموم الناس وعنائهم.
رحالة لا يعرف الهدوء
عندما يعود برهان عبد الله في نهاية الرواية إلى كركوك، بعد أن تجوّل طيلة ستة وأربعين عامًا من دون انقطاع في أصقاع العالم، فعندئذ يمكن للمرء أن يجد في ذلك إشارة إلى صورة المؤلف الذاتية الطوباوية، على الرغم من أنَّ الكاتب فاضل العزاوي قد أخفق حتى يومنا هذا في العودة إلى العراق.
وذلك لأنَّ الوضع السياسي لا يسمح -حسب رأيه- بهذه العودة. ولكن على العكس مما توهم به الصور المعتمة في نهاية الرواية فإنَّ فاضل العزاوي يرى بصيصًا من الأمل لمستقبل يسوده السلام في العراق.
فهو يعتقد أن ميليشيا تنظيم الدولة الإسلامية المتنامية في الوقت الراهن واستراتيجيتها الإرهابية لا تمثّل إلاَّ مجرّد حلقة، كما أنَّه على قناعة بأنَّ العراق سوف ينعم بالسلام، عندما تكون هناك حكومة منتخبة ديمقراطيًا تعامل جميع المواطنين العراقيين بالعدل والمساواة، من دون النظر إلى انتماءاتهم الدينية أو العرقية.
إنَّ رواية فاضل العزاوي هذه تعرض بأسلوب مثير وممتع للغاية الطرقات المنحرفة والمتعرّجة التي يضطر الناس في بعض الأحيان إلى اجتيازها من أجل المضي في طريقهم الخاص والنجاة بأنفسهم.
فولكر كامينسكي
ترجمة: رائد الباش - حقوق النشر: قنطرة 2014
مواقع النشر