[align=justify]ليلةٌ ظلماء بلا قمرٍ، ومن الجنوب، مرَّت راعِبِيَّةٌ حمامةٌ وشجنتْ بصوتها الأسيف، فتثاءبتِ الكثبان وأوَّبتْ[1]، فانشرط ستر الليل الحالك والفضاء.
في الضَّجيج البعيد، والدُّخان، ورائحة البارود التي تحملها ريح النَّعامَى[2]، كانت قد ضلَّت سربها، جزعتْ، طلبتْه هناك، وهناك، وهناك خلف أوهامها، فلم تجدْه، وعندما مرَّتْ وحدها من فوق السَّهب[3] السَّاكن، حتى اجتازتْ، كان قد بلغ بها الوهنُ واللَّوعة مبلغَهما، وترنَّحتْ، حتى فقدتْ وعيها وهوتْ، تلفلف حول نفسها كأنها في قلب زوبعةٍ، قذيفةٌ بريئةٌ باتِّجاه الأرض، غيرَ أنها فجأةً تشبَّثتْ بالحياة، تماسكتْ بصعوبةٍ، وأخذتْ تكبح سقوطها، حتى استقرَّتْ بعد مسافةٍ أخرى، في فضاءٍ يعلو على النَّخل الرِّقال[4]، توزِّع نظراتها حولها، تريد أن تتأكَّد من كونها ما زالتْ في عالم الشَّهادة، ولا شيء واضحٌ في ليلةٍ بلا قمرٍ، هذه أخيلةٌ لحشائش طويلةٍ متناثرةٍ على وجه السَّهب، تسمع حفيفَها والرِّيحُ الباردة تنفضها نفضًا، وهذه طيور (نعَّار اليمن)[5] تغرِّد قلقةً بشكلٍ متقطِّعٍ وواهنٍ ويائسٍ، كهمس المصدومين، أو أنين جرحَى ينزفون في الرَّمق الأخير.
نجتْ وما نجتْ؛ ما أن فرغتْ من فزع السُّقوط، حتى أفقدها دُوارُها حسَّ الاتِّجاه، وأصابها بشيءٍ من الخبل والرُّعونة، وتشابهتْ عليها السَّماء والأرض في هذا الظَّلام، فمالتْ للأرض أكثر، ثمَّ أكثر، مهلاً مهلاً؛ تلك أحجارٌ وعشبٌ، إذًا هذا هو البرُّ، وتطير أعلى الأحجار المنتثرة، في أرضٍ لا شيء فيها غير أحجارٍ وشوكٍ، ورغم هذا فالأرضُ تقترب، تقترب جدًّا، حَذارِ، جِدار، نشطتْ قليلاً وصعدتْ شيئًا يسيرًا في اللَّحظة الأخيرة، فتفادتْ مصرعًا محقَّقًا، كادت أن ترتطم بظهر بيتٍ طينيٍّ عتيقٍ، يحدُّ تلك القرية الصَّغيرة من جنوبها، بيتٌ ظهره للأرض الحجِرة[6] والسَّهب والطُّيور وأشباح الجنوب، تفادتِ الجدار العالي بفارق شبرٍ لا أكثر، ومرَّتْ فوق حوش البيت المكشوف وهي تكبح سرعتها مرةً أخرى، وحطَّتْ على السَّعف والأعواد الجافَّة التي تسقف باقي البيت، حطَّتْ كأنها ترمي بنفسها من فرط إعيائها، فكُبكِبتْ على صدرها ووجهها.
وبعد قليلٍ، شجنتْ[7] بعينين ناعستين وهي راقدةٌ، ثمَّ أخذتْ تلتقط أنفاسها وتمطُّ عنقها وتضمُّه، قليلٌ ونفشتْ ذيلَها معلنةً نجاحَها في الهبوط الاضطراريِّ، بغير زهو النَّاجحين، ومشتْ خطواتٍ متعثرةً متمايلةً تتعرَّف السَّطح.
جدار الحوش من ناحية الجنوب، ذاك الذي تفادتْه الحمامة، كان أعلى من باقي جدران البيت، رغم أن خلفه تلك الأرضَ المنعة الشَّائكة التي تتناثر بها أحجارٌ بارتفاع الركبة، ولا يمرُّ بها أحدٌ، كأن أحجارها تبقتْ من زلزلةٍ وقعتْ في زمنٍ غابرٍ، فأبادتْ مدينةً لم يبقَ منها إلاَّ تلك الأحجار، أحجارٌ صلبةٌ، ومن سار في تُهمة اللَّيل إلى جدار عائشةَ بسوءٍ ترضَّض[8].
عائشة تجلس في الدِّهليز تعجن قليلاً من الدَّقيق، وتتذكَّر الرَّاحلين، وتترحَّم عليهم وهي ترقُّ قرص العجين، وبنتُها العروس التي ستزفُّ إلى عريسها قريبًا، كانت منهمكةً في أشغال الإبرة كعادتها، تطرِّز ثوبًا لها في المجلس، تتذكَّر مبتسمةً كيف سها عريسُها عن هديَّته لها ولنساء العائلة من قماشٍ، وحمل صُوانًا[9] آخر يحوي لفافةً واحدةً من صوفٍ غليظٍ كأنه لخيمةٍ خضراء، على أية حالٍ، كانتا تتلهيَّان عن أصوات الطلقات المتقطِّعة على بعد ميلين منهما، وعن هواجسهما، وعن ترعيب[10] الرَّاعبيَّة المكلومة الذي يسيل على قلبيهما من السَّقف، والشِّفاه جافَّةٌ ومتأسيةٌ، والنَّوم هاربٌ، والقرية حزينةٌ، والبرد شديدٌ، لكن لا عذر أبدًا لمن يشبُّ النَّار في الحطب اللَّيلة، إلاَّ تحت جدرانٍ وسقفٍ؛ حتى لا يهتدي العيَّارون[11] للقرية بالظَّلام.
يدٌ حزينةٌ تطرق الباب الخشبيَّ العتيق، ففرَّتِ الحمامة، قامتْ عائشة، واربَتِ الباب لصوت القريب الشَّابِّ، جاءها النَّاعي حزينَ النَّبرة وأخبرها أنْ يا عمَّة، أحسَنَ الله عزاءكِ، عريس بنتكِ، مات في سبيل الله على ترابنا الطيِّب، تصبَّري يا عمَّة، وصبِّري بنتكِ، لا أدري ما أقول.
شهقتْ، وقالتْ بصوتٍ مخنوقٍ: إنا لله وإنا إليه راجعون، حسبي الله عليهم.
• غالي ترابنا يا عمَّة، رواه الحبيبُ بدمه، أقول لكِ وصدِّقيني.
• وأنت صادقٌ.
• أبشِّركِ: شممتُ رائحة المسك من جسمه الطَّاهر، إلى الحين في أنفي وصدري وفي يديَّ.
• قالت - وهي تبكي بكاءً مكتومًا وتبتسم -: عجيب!
• قولي لبُنيَّتك: إن ابتسامةً كانت على وجهه اليوم لم أرَ مثلها منه قطُّ، ما عطَّره الله إلاَّ من أجل جنَّةٍ عرَّفها له.
وبكَى وانسحب.
أخذتْ تغلق الباب بيدٍ مرتعشةٍ، وهي تسمع الصَّرير الحزين، وارتكنتْ على حائط الدِّهليز، ونزلتْ ببطءٍ وجلستْ قليلاً، ثمَّ قامتْ ثقيلةً لا تعرف هل تحكي أو تصمت، ولملمتْ بعض الحَطب، وذهبت به إلى حيث تجلس بنتُها بالمجلس، وقالت لبنتها بصوتٍ نازفٍ - وهي تعطيها ظهرها -: كفى تطريزًا الآن، وأطفأتْ مصباح الغرفة، وأشعلتِ الحطب في مشبِّ النَّار وجلستْ إليه، وتركتْ لعينيها الحريَّةَ في أن تدمعا بغير كبتٍ، انسالتْ منها دموعُها وهي تتصفَّح وجه بنتها، ويداها تفركهما فوق النَّار كأنها تستدفئ.
• ما بكِ؟ فيمَ دموعكِ؟
• أبدًا، دمعتْ عيناي من الدُّخان.
• أمَّاه، هناك شيءٌ تخفيه عنِّي، من كان بالباب؟
• هزتْ رأسها نافيةً بغير كلامٍ، ثمَّ مسحتْ بكفَّيها الدُّموع.
• وبعد يا أمَّاه؟! لا يا أمَّاه، إنك تبكين، ماذا جرَى؟
وقامتْ واحتضنتْ أمَّها الجالسة من خلفها، سعلتْ طويلاً، ثمَّ ألقتْ إليها بهدوءٍ خبرَ مقتل عريسها ابن الخالة.
بعد مدَّةٍ من الصَّمت اللَّيليِّ المطبق، أكلتِ النَّارُ كلَّ الحطب، آخر خيطٍ من النَّار كان حزينًا وجنائزيًّا، أرسل في آخر شجنه خيطًا دخانيًّا إلى السَّقف ثمَّ انطفأ، فغرقتِ الغرفة في الظَّلام كأنها قبرٌ مغلقٌ.
أمَّا الأمُّ فأخذتْ ترجو لطف الله كثيرًا، إلى أن نامتْ في جلستها، و قامتِ الفتاة، وهي تتلمَّس طريقها بيديها المرتعشتين في أنينٍ، ودخلت غرفتها واهتدتْ لأدواتها، وقبضتْ عليها كأنها على كنزٍ قبضتْ، ومضت إلى الحوش وهي تتحسَّس الجدران، ووضعتها في زاويةٍ تحت جدار الحوش العالي، وعادتْ وسحبتْ بصعوبةٍ المطويَّة الكبيرة من القماش السَّميك من صوانٍ تحت سريرها وجرَّتها، خلعتْ نعليها خارج الحوش، وفردتِ القماش على أرضه فغطَّاها كلَّها، وأخذتْ تعمل فيه بشكلٍ محمومٍ، كأنها تسابق الوقت، بالخيط السَّميك والإبرة المسلَّة، وبالدُّموع، ولا ترى حتى يديها اللَّتين تشتغلان؛ من شدة الظُّلمة.
كلَّما تقدَّم اللَّيل، ازدادتْ نشاطًا، وازداد الأمر سوءًا، واقترب القصف، حتى صار على بُعد ميلٍ واحدٍ فقط أو أقلَّ، وهي كما هي، وذئبٌ على تلَّةٍ كان يعوي في وجه اللَّيل، ولهيبٌ يومض وينطفئ من ها هنا ومن ها هنا كالنُّجوم، وصياحٌ وأصوات فزعٍ ونداءٍ تصلها ضعيفةً ومخيفةً جدًّا، وأنفاسٌ، وأنفاثٌ، وأوجاسٌ، وأهجاسٌ، ووسوسةٌ، وعزيفٌ[12]،كأنها لأمَّةٍ من السَّعالي[13] الحقودة هاجتْ في ليل هذه الصَّحراء التي تحيط بالقرية الصَّغيرة.
قبيل الفجر، طوتِ القماش كسجَّادةٍ كما كان وحملته على رأسها، وصعدتْ على السُّلَّم الخشبيِّ حذرةً وهي تنوء بحملها تلتقط أنفاسها على الدَّرجات، وجعلتِ الوجه الذي اشتغلتْ عليه إلى الجدار، وأخذتْ تتنقَّل بالسُّلَّم حتى ثبَّتتْ طرف القماش على حرف الحائط من الدَّاخل بالمسامير وهي مخفضة الرَّأس، ثمَّ رمت القماش إلى الخارج وانخفضتْ بسرعةٍ، وهي تبكي فرحةً، مقشعرَّة البدن، راضيةً عن نفسها، ونزلت إلى أرض الحوش متعرِّقةً مجهدةً، تتنفَّس أنفاسًا عميقةً كمن شفَى غليلَه.
في الصُّبح، كانت الحافلات والشَّاحنات قد وصلتْ لتقلَّ سكَّان القرية وأثاثهم ودوابَّهم إلى مخيَّمٍ آمنٍ، بعيدًا عن النَّار التي تضطرم ليلاً، في هذا الصُّبح دمدم على العيَّارين أسودٌ من حفدة الصَّحابة ومن أصلاب البدريِّين، فاندحروا إلى بعيدٍ، مخلِّفين وراءهم أرجاسًا من سواقطهم: بقعٌ من الدِّماء ونِعال وحُزَم قاتٍ، وأحرازٌ بالنداء السُّريانيِّ، وصكوكٌ لدخول الجنَّة.
ركبتْ هي وأمُّها في الحافلة، وتحرَّكت بهم من أمام القرية لتدور حولها، اجتازت البئرَ المبلَّلة من دمع المرتحلين، وقطعتْ ملعب الكرة الذي سيفتقد ضجيج صبيانه، ثمَّ حاذت الكرم الأخير الذي دنتْ قطوفُه من نوافذ الحافلة، ودخلتْ للراحلين، كأن أشجاره تصافحهم وتهديهم شيئًا أخيرًا إلى حين اللقاء، ثمَّ صعدتْ على طريقٍ ضيِّقٍ غير ممهَّدٍ، توشك أن تمرَّ من خلف البيت، بين السَّهب والأرض الحجِرة، كانت في الخلف، وجهها ملتصقٌ بالزُّجاج تمامًا، تنتظر بفارغ الصَّبر رؤية عمل يديها الذي أنجزته في الظَّلام الدَّامس والأجواء المخيفة، خائفة من أن تعلن جداريَّتها عن رسمٍ طفوليٍّ، وعن خطٍّ تناشير[14]، متى؟! متى؟! ها قد اقتربنا، قليلاً وأراه، قلبي يكاد أن يقفز من صدري شوقًا وخوفًا، اقتربَ، أوشك أن يُرَى، يا ليته سويًّا بغير عيبٍ، يا ليته، ها هو! الله! الله! الله! سِيري ببطءٍ أيتها السيَّارة؛ بل قفي قليلاً، ما هذا الجمال؟! وما هذه السَّكينة؟! هذا هو على جدارنا، بهيبته وجلاله واخضراره: عَلَم التَّوحيد على جدار عائشة، لن يتسوَّر الأفَّاكون بيتنا، هذا يسدُّ بيتَنا أمامهم، فيسدُّ القرية؛ بل يسدُّ الجنوب، لا؛ بل يسدُّ السُّعوديَّة كلَّها.
حقَّ لها أن تبكي وتضحك في آنٍ واحدٍ ووجهها على زجاج الحافلة؛ فمن أمامها علم التَّوحيد على جدار عائشة، ترفرف عنده راعبيَّةٌ تودِّع النَّازحين، وتبشِّرهم بعودةٍ قريبةٍ.
إهداء إلى أرواح شهداء حرب الجنوب وذويهم
إهداء للمصابين
إهداء لكل جندي مرابط في الجنوب
إهداء للنازحين
ـــــــــــــــــــــ
[1] أوَّبت: رجَّعت الصوت.
[2] ريح النعامَى: ريح الجنوب.
[3] السهب: الأرض الواسعة السهلة.
[4] الرِّقال: النخل الطوال.
[5] نعار اليمن: طير من العائلة الحسونية يشبه الكناري، يعيش بالسعودية واليمن وعمان.
[6] الأرض الحجِرة: كثيرة الحجارة.
[7] شجنت: نوَّحت.
[8] ترضَّض: تكسر هنا من اصطدامه بالحجارة.
[9] صوان: ما يصان فيه الملابس ونحوها.
[10] ترعيب: صوت الحمامة الراعبية الشديد الحزين.
[11] العيارون: يُقصد بها محاربو العصابات الذين يرعبون المدنيين ولا تحكمهم أخلاقٌ عسكرية، وأول جماعة سميت بهذا الاسم ظهرت في بغداد بأواخر القرن الثاني للهجرة.
[12] عزيف: صوت الرمال إذا هبَّت بها الرِّياح.
[13] السعالي: غيلان الصحراء.
[14] التناشير: خط الأطفال أول ما يتعلمون.[/align]
مواقع النشر