سعود المطيري (الرياض) قبل ما يزيد على خمسين عاما عثر شيخ إحدى القرى النائية على سيارة متعطلة بحملها قرب قريته وكان وقتها وجود أو مرور السيارة يعد امرا نادرا. فعاد إلى منزله مسرعا واستدعى المعلم (مدحت) ومدحت أو
متحت كما ينطقه البدو، مدرس من دولة عربية أعتقد من الشقيقة مصر باشر عمله كمعلم وحيد للمدرسة المحدثة لأول سنة في القرية، لكنه ما ان بدأت الدراسة ونزل المطر تفرق البدو ورحلوا مع أبنائهم الطلاب لحاجتهم لهم برعي مواشيهم، وقالوا لمدحت وهم يغادرون (اقعد) وحنا اذا ربعنا وعيّنا خير
بعد ثلاثة اشهر، عوّدنا عليك، ولم يبقى في القرية سوى أميرها والمؤذن وبيتين أو ثلاثة، لا يقوون على الرحيل، فانظم المعلم مدحت ليعمل حرفيا مع مجموعة سعوديين امتهنوا بناء بيوت الطين في القرية، إلى ان أصبح معلم (طين)
بنّا، بالإضافة إلى كونه
أيضاً طبيبا و(راقيا) ومختنا للأطفال، وكاتبا تفرد بكتابة الرسائل وتحرير المخاطبات، وقارئا للرسائل الواردة للقرية، وحافظا لأسرارها بكل ما تحمله من خفايا. لهذا استدعاه أمير القرية مثل كل مرة كونه أي أمير القرية لا يقرأ ولا يكتب مثل كل أهل قريته فأملى عليه خطابا إلى أمير المقاطعة ضمنه أهم وقوعات القرية ربما لسنة كاملة والتي على ما يبدو كان مطلوبا منه رفعها كوقوعات حسب ما تقتضيه المرحلة ان لم يكن مكلفا بمتابعتها اصلا وملزما بالرفع عنها.
464089745647.jpg
رسالة (منصوب) القرية تصورحال مجتمع عصره
ارتحال البدو للربيع يغلق المدرسة 3 أشهر ويحول المعلم مدحت إلى حرفي بناء
اسند المعلم مدحت الورقة فوق ركبته وكتب من فم أمير القرية رسالة غاية في الطرافة بما تضمنته من عبارات ومصطلحات لغوية بسيطة كانت هي لغة التخاطب ولغة المكاتبات الرسمية في كثير من الأحيان وان لم تعد مفهومة لجيلنا الحالي إلا أن الرسالة بما احتوته عبارة عن مقطوعة أدبية نادرة ورواية تحمل كثيرا من المفارقات وتفاصيل الحياة لتلك الفترة كما ستحمل مفاجأة لبعض القراء بنفس الطريقة التي حملتها لأمير المقاطعة آنذاك:
.. هكذا بدأ مدحت يخط رسالة صاحب القرية:
من خادمكم امير هجرة (...) وما جاورها من قرايا وعربان إلى امير مقاطعتنا وفقه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
من عندنا الجماعة والمطوع و(مذَّن) المسجد يسلمون عليكم كثير السلام..
وبعد سرد اسماء الجماعة الكبير والصغير أخبره عن انتجاع بدو القرية للربيع مع ابنائهم جميعا واغلاق المدرسة لحين عودتهم قبل ان يخبره عن حدوث نزاع على حصص الماء انتهى بمعركة شرسة شاركت بها امرأة وانهى الخلاف بما اعتبره انجازا سيرتاح له الامير ويجدد به الثقة:
من طرف حنا حصل عندنا (لبشة) على القليب فكنا الله منها (تهاوش) آل (فلان) وآل (فلان) وراكضت عليهم حدى الحريم بعمود الخيمة واكسرت (ثنية) واحد منهم وقطعناها بينهم بتسعين ريال واصلحناهم بعد ما كثر الدم والرجّال مقتنع من ناحية، ولا اقتنع من ناحية انه لقى سبع من شعر لحيته منتوف، ويبي عنهن بعارين على الامور الأوله، وقلنا له هذي امور فاتت ولا رضى، والنية انه يركب يمكم، واما من طرف (بعارين) ملفي ارسلنا رجاجيل استقطعوا الاثر والحقوهن بمقطاع النفود محولاتٍ على قلبان لينه يبن مرابيهن بالشمال، وعودوا بهن، ولا افخت منهن شيء.
عقوبة نتف اللحية (جمل عن كل شعرة)
ينتقل بعد ذلك إلى خبر مهاجمة بعض الذئاب المسعورة للقرية وإعطابها لبعض المواشي قبل ان تجهز عليه كلاب الحراسة ويزف له البشرى بسلامة سكان القرية:
من طرف شواوي الديرة هد عليهم المغلوث ليلة الاول وعض سبعة عشر من غنمهم واذبحته الكلاب وفك الله منه الورعان والنسوان.
431912229873.jpg
يصل بعد ذلك إلى الحدث الاهم وزبدة الموضوع وهو وجود سيارة الحشيش (مبندرة ) أي متوقفة بحمولتها عند اطراف القرية واختفاء السائق ومرافقه وبقائها على هذا الوضع لعدة أيام وهو يتمنى ان لا يكون ما نقل إليه صحيحا من ان احدهم يشرب المخزى أي الدخان بما يعتبر اختراقا لقدسية ونزاهة قريته:
وأما موجب خطنا هذا فان رجاجيلنا لقوا سيارة خربانة قبلة الديرة عليها حمل (حشيش) ومحولن منها اثنين واحد عليه نعول والاخر حافي وقصوا جرتهم متنحرين الديرة لين ضاع اثرهم بمداوس الحلال وغدت الجرة ويقولون الخوّيا وانا ابراي لله ان واحد منهم ليته ما يشرب (المخزى) لقوا على جرته محذف زقارة ولكم الكرامة ولا ندري وين راحوا والسيارة (مبندره) وحشيشها على ظهرها إلى يومك. وما ندري وش توجهونا فيه طال عمرك والسامعين يسلم عليكم كاتب الخط (مدحت...) والسلام ختام
شمع الرسالة وختمها بختمه ثم طار بها رجل البريد على ظهر ذلول إلى امارة المقاطعة 350 كم تقريبا ووصل بعد مسيرة يومين وليلة ليسلم الرسالة ثم يعكف عائدا من نفس جادة سيره
في اليوم الثاني أو الثالث صحت القرية مع بزوغ الفجر لتجد نفسها محاصرة بالسيارات وقصاصي الاثر والرجال المسلحين من كل جهاتها بحثا عن مهرب (الحشيش) الهارب والمجرم الاخر المشترك معه بالتهريب.
امرأة تخوض معركة القليب وتحسمها بعمود الخيمة
المفاجأة كانت عند ما تم الوقوف على السيارة وتفحص حمولتها. كانت الحمولة عبارة عن حشيش للبقر وهو نبات صحراوي يسمى صبط وكانت كل الحشائش تستسهل بكلمة حشيش.. هنا كان مصدر اللبس من رجل لا يعرف هو ولا يوجد في قاموس قريته ومجتمعة معنى لكلمة (حشيش) غير أعلاف الحيوانات.
يقول الراوي: عند ما تحركت القافلة في طريق عودتها لتسلك نفس السكة الترابية الأكثر وعورة على مسافة 350 كم كان الرجل (صاحب اللحية المنتوفة) ينتظر تحركها لمرافقتها وهو يمسك بيده بـ (بقشة ملابسه) ويشد في الأخرى على طرف شماغه للتأكد من وجود شعرات لحيته السبع المنتوفة قسرا من قبل المرأة صاحبة عمود الخيمة. عند ما يصل ويسمح له بالدخول لديوان أمير المقاطعة سوف يجثم على ركبتيه ويحل الصرار عن شعرات لحيته السبع ثم يصيح بأعلى صوته مناديا بتطبيق ميثاق الصحراء.. ميثاق الفضيلة (مقابل كل شعره تنتف عمدا يغرم الفاعل بعير).
811441546732.jpg
مواقع النشر