عادل الكلباني (الرياض) - من حكمة الله تعالى ورحمته بخلقه أن جعل رسالة الإسلام هي خاتمة الرسالات، وأشملها وأعمها وأيسرها، فهي آخر وسيلة لإصلاح الخلق وتزكية عباداتهم وتنظيم معاملاتهم، وقد استوعبت هذه الرسالة الخير كله من كل الرسالات السابقة، ومع مضي ما يزيد على ألف وأربع مئة سنة لم تزل هذه الرسالة متجددة بتجدد الأحداث، وتحتوي كل نازلة، فلا يعجزها تطور العصور وإبداع العقول، ولا يزال العقل يشرب من ينبوعها، ويقف حائرًا عند كثير من أحكامها وتفاصيلها، ويزداد نورها سطوعًا وبهاء في الوقت الذي خفتت فيه أنوار الرسالات الأخرى بما تعرضت له من لمسات التحريف البشري، والتدخل الكهنوتي، غير أن هذه الرسالة قد عُصمت عصمة سماوية فلا يطالها التبديل، ولا يشوبها التحريف، ومن تمام كمالها أن جعلها الله رسالة يتواكب معها كل بني عصر في عصرهم، يتماشون معها وتتماشى معهم، فينظر الناظر إليها وكأنها أنزلت إليه تخصه بأحكامها وتقصده بمواعظها، وكلما توسعت الحياة وانفتح البشر على العلوم والصناعات تجد أن هذه الرسالة قد توسعت بما يلبي حاجة الناس في حياتهم، وليس ذلك التوسع إلا لغزارة نبعها، وصفاء مشربها وموردها، فيجد كل ذي حاجة حاجته فيها، وتستقيم الحياة بتدبرها والتفكر فيها، والاكتفاء بما تكتنزه من أحكام عتيقة وحديثة.
كلما توسعت الحياة وانفتح البشر على العلوم والصناعات تجد أن رسالة الإسلام قد توسعت بما يلبي حاجة الناس في حياتهم، وليس ذلك التوسع إلا لغزارة نبعها، وصفاء مشربها وموردها فيجد كل ذي حاجة حاجته فيها..
إن رسالة الإسلام لم تأت جامدة على أحكام مؤقتة بوقت أو محددة بحادث، بل جعلت للعقل فيها مدخلاً واسعًا يستنبط من فقهياتها، ويوجه تعميماتها، ويبني على أصولها، وليس ذلك بدعًا فيها أحدثه حاملوها، بل ذلك من صميم نورها المنزل وقرآنها المرتل، فقد قال منزلها جل شأنه "
لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنهُمْ" فهذا الاستنباط متوارث جيلاً عن جيل، ومشروع بمحكم التنزيل، وهو ميزة لعلماء هذه الأمة، وفضيلة لكل عقل خصه الله بقدرة التأمل والتفكر، ومن تأمل كيف تفكرت عقول الأئمة والعلماء السابقين وأنتج تفكرهم وتأملهم موروثًا فقهيًا عظيمًا وكبيرًا تكاد تعجز مكتبات الأرض عن استيعابه، من تأمل ذلك أدهشه فكرهم وتفكيرهم، وفقههم وتفقههم، فضلًا عن دهشته بعظيم هذه الرسالة الواسعة المستوعبة لكل فكر وعقل، وحين النظر إلى نتائج ما يستنبطه أولئك العلماء والفقهاء، يجد الناظر أن تفاوت العقول يؤدي إلى تغاير النتائج، وتلك النتائج ما بين مطابقة وموافقة مع سعة الرسالة وغزير حكمتها، وما بين متباين معها ومجافٍ لسماحتها، وحال تلاقح العقول تثمر تلك التباينات مناهج تنسب إلى الشريعة السمحة، وقد تحتاج بعض تلك النتائج والمناهج إلى تنازلات عن فقهيات استنبطها العقل لا توافق بينها وبين الواقع، ولا تمت إلى الهدف المنشود من الرسالة بسبب، ومن هنا قال صلى الله عليه وآله وسلم - وهو سيد المرسلين، وقدوة العلماء المستنبطين - قال مخاطبًا عائشة رضي الله عنها وهو يقعّد لعلماء الأمة قاعدة في كيفية تنزيل الأحكام على الوقائع وكيفية النظر إلى الحكم الفقهي من خلال تقدير العائد عليه من القبول وعدمه، "
يَا عَائِشَةُ! لَوْلاَ أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُو عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ لأَمَرْتُ بِالْبَيْتِ فَهُدِمَ فَأَدْخَلْتُ فِيهِ مَا أُخْرِجَ مِنْهُ وَأَلْزَقْتُهُ بِالأَرْضِ وَجَعَلْتُ لَهُ بَابَيْن"!
فلولا سماحة هذه الشريعة واتساعها للوقائع والأحداث ما كان صلى الله عليه وسلم قال ما قال، وكذلك في صلح الحديبية في قصة معروفة حين قال له سهيل بن عمرو "اكتب باسمك اللهم" بدلاً عن بسم الله الرحمن الرحيم، و"محمد بن عبدالله" بدلا عن محمد رسول الله، فكتب النبي صلى الله عليه وآله وسلم "باسمك اللهم" وكتب "محمد بن عبدالله"، ورأى كثير من الصحابة أن الأمر فيه تعد من سهيل بن عمرو وبالفعل هو تعد، لكن هذا الفقه من رسول الله صلى الله عليه وآله سلم أثمر نتائج إيجابية تصب في صالح المسلمين، إذن، هذه الرسالة رسالة خاطبت العقل كثيرًا وأوعزت له أن يتفكر ويستنبط ويقدر، وإذ نحن في هذه الأزمنة البعيدة عن زمن نزول الرسالة، نحتاج إلى تلك العقول التي لم يعترها الجفاف الفكري والجمود النظري، وكثير من مشاكل الأمة هي بالفعل نتيجة عن اجتهادات فقهاء لم يأتوا للفقه من أوسع أبوابه وهو باب العقل، بل أتوه من أضيق أبوابه وهو باب الجمود والتقليد، وأضحى شبابنا وأبناؤنا وبناتنا في كثير من أفعالهم في نظر الفقهاء متفلتين عن أحكام الشريعة ومنسلخين عن أحكام الدين، وهنا تنشأ ناشئة تستبدل الوعظ والإرشاد والإصلاح بالتأنيب والتقريع واللذع بالكلمات المحرقة، وقد كان بالإمكان استيعاب جماهير المسلمين واستيعاب الشباب في آراء فقهية دوّنها أئمة، وسطرها فقهاء، وقيدها علماء، لولا تغييبها في بطون الكتب، واتهام من يحييها بالجهل ومخالفة العلماء، مع أن العالم الحق هو الذي يبحث عن مخرج فقهي له في قواعد الشريعة مدخل، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم "يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا"، وهناك آراء لكثير من الأئمة تراجعوا عنها تنزلًا لرأي غيرهم ولا يتسع المقام لذكر الأمثلة، وهي كثير، وأدل دليل عليها وجود أربعة أئمة لكل إمام مذهب، ولا يعيب إمام مذهب على مذهب آخر، بل في نظرهم أن كل المذاهب هي ناتجة عن اجتهاد عقلي، ونضوج فكري، مهما بدا للناظر أنه بعيد عن الصواب، إلا أنه في نظر أئمة آخرين عين الصواب، فلم يعنف أحد أحدًا ولم يلزم أحد أحدًا برأيه وما توصل إليه نظره.
وقد كنت يوما ما في حضرة شيخنا الشيخ عبدالله بن جبرين رحمه الله، وجاءه سائل فسأله عن مسألة فيها طلاق، فتأمل الشيخ قليلاً، ثم قال له: اذهب إلى غيري! فتعجبت من هذا الفقه، وهذا التعامل، فالشيخ رحمه الله كان يرى انفراط عقد الزوجية، بناء على قول السائل، لكنه أحاله على غيره لعله يجد له فرجة يلج منها إلى منع ذلك الانفراط! فهل يصل فقهاؤنا إلى هذا المستوى من النضوج واحترام رأي الآخر، بل والتنازل عن الرأي الجاف المنفر إلى الرأي السمح المبشر، ولا يقف الجمود والتعصب للرأي حجر عثرة في طريق الشباب، هل يصلون إلى هذا المستوى؟ ومتى؟
مواقع النشر