[align=justify]بنتُ الخامسة عشرة في حُجرتها وحدَها، وجهازُ التسجيل على أغنيةٍ تافهة، وعلى الجدران الأربعة صورٌ لمطربينَ شبّانٍ، أحدُهم يتدلّى من أذنه قرطٌ رقيقٌ. وكانت ترقص بحماسةٍ وانهماكٍ، ولم تسمع الصراخ خارج الغرفة.
كانت الأمُّ في المطبخ، تعدُّ كعكةً، وتثرثر في ذات الوقت على الهاتف الجوال مع إحدى القريبات عن عروس العائلة التي ستُزفُّ اليوم، وكيف تعرفت إلى هذا العريس (اللّقطة!)، وعن قيمة الفستانِ الذي سترتديه في الحفل الساهر الباذخ، وعن الطاقم الألماسِ الذي اشتراه العريسُ لعروسه.
- عقبى لابنتكِ.
- في حياتك يا حبيبتي، البنتُ لازالت صغيرة.
- أخائفةٌ من أنْ يقال عنكِ جَدّة؟
- ومن رآنا سويًّا وظنّ أنها ابنتي؟! كل من رآنا ظنها أختي الصغيرة.
... وتبادلتا القهقهات.
غير أن الأمَّ اضطُرَّتْ للاعتذار عن إكمال المكالمة، وهرولَتْ إلى حيث الصراخُ بين زوجها وابنها، ابنِ السادسة عشرة.
كانتْ يدُ الأبِ الغليظةُ قد انقضّتْ على كتف (حمادة) وهو يكتب شعراً غزليًّا في حجرته، وأمامه وردةٌ في مزهريةٍ صغيرة. سحبَ منه الورق، وأخذتْ عيناهُ تتدحرجان على الأسطر بسرعة وهلع.
قليلٌ.. و قرأ الأبُ الشعرَ العاطفيَّ الساذجَ لابنه، وكرّرَ سؤالاً واحداً عدّةَ مراتٍ، وهو يدقُّ بتوعُّدٍ وعصبيّةٍ على المنضدة:
- لِمَن تكتب هذا الكلام؟! لمن؟
أنكرَ الفتى أنْ يكونَ غزلُه في فتاةٍ حقيقيةٍ من لحمٍ ودمٍ، إنّما هي خواطرُ جاشتْ بها نفسه فعبّر عنها.
- هل فسدتَ وتعلّمتَ الحبّ والمساخرَ يا معرَّة العائلة؟! مَن هذه البنت؟
- أبدا، والله، مجرّدُ كتابةٍ، صدقني.
- اخرس يا كذّاب.. جئتَ عند أواخرِ الطريق وستركن!
.. وانفلتتْ أعصاب الرجل وصفع ابنه، وعلا صوتُهما، والابن يبكي، وكفّه على خدِّه، ويحتجُّ على أنْ يُصفع وهو في هذه السنِّ، وبدون حماقةٍ كالتي يرتكبُها الشباب في مثل عمره.
حينها وصلت الأم منقطعة النفس:
- ما هذا؟ صوتكم واصلٌ للشارع!
وأفهمها الرجلُ - في عجالةْ - تلك المصيبةَ التي اكتشفها، وهو يحاولُ بعصبيته أن يفلتَ منها ويهجم عليه مرَّةً ثانية. سحبَتْهُ بعيدا وهي تربتُ على صدره تهدّئه، وهي في ذات الوقت تَنْعَى على (حمادة)، الطبيب المرتجى، أنْ خيّب رجاءَهما فيه.
- ماذا جرى عليك يا (حمادة)؟! السبت القادم تُستأنَف الدراسة، وأنت تفكّر في الشعر والعواطف؟!.. خسارة.. خسارة!! (قالتها بصوتٍ ملؤه العتاب).
حُجرةُ البنت لازالت مغلقة، يصدر منها درداب، فيما جلس (حمادة) بمفرده حزيناً في غرفته، وذاك الدرداب الذي يأتيه من حجرة أخته يدقُّ على جانبي رأسه.
.. يراجع معاناتهِ معَ أبويه، اللّذَينِ قد قرّرا منذ زمن بعيد أنْ يكون دائماً الأولَ على مدرسته، وأن يكون طبيباً في يومٍ ما؛ فعند العم ابنةٌ طبيبة، وعند العمة طبيبانِ، وأبوه ليس أقلّ من أخيه وأخته، فأحكم الأبوانِ الحصارَ حولَه. ومِن ضمن قائمةٍ طويلةٍ للحماية كان عليه ألاّ يقرأ إلاّ كتب المنهج الدراسيِّ، ولا يكتب إلاّ على سبيل المذاكرة، وكذلك يُمنع منعاً باتًّا جلبُ أصدقاءٍ للبيت، حتى لو كانوا مهذبينَ ومتفوقينَ مِثلَه، ولم يتبقّ لهما إلاّ أن يفتّشا في أحلامه عن شيءٍ مُريبٍ قد يُعيقه عن أنْ يكون طبيباً.
قام بعد قليلٍ متثاقلاً، وأطفأ النور، ونامَ مهدود القوى بعد أنْ وضع الوسادة فوق أذنهِ، متخلِّصاً من قرع الطبول البربرية الذي يبدو وكأنه قادمٌ من حفل زنجي بالغابة.
في المساء..
أيقظته أخته بإلحاحٍ، لكي يلبس، وينزل معهم لحفل عرسِ بنتِ العائلة.
دخل يغتسل، ولازال في رأسه شيءٌ من طنينٍ. وانتهزَ الأبُ الفرصة، وغاب في حجرته قليلاً؛ يفتِّش عن شريطٍ أغانٍ عاطفيةٍ، أو دبلة فضةٍ، أو منديلٍ حريريّ، أو (دبدوب)، أو لوح (شوكولاتة).. أيّ شيءٍ مما يَحتفظ به الشباب هديةً لعلاقةٍ عاطفية. ولم يجد شيئًا أبداً، فانقشع كثيرٌ من وساوسِه.
خرجَ الفتى ولبسَ ملابس السهرةِ بغير حماسٍ، ومرّ مِن أمام أبويه، اللّذَينِ لم يُعِيراهُ التفاتةً، وكأنّهما لم يُفيقا لحينهما من صدمة الخواطر الغزليةِ لفتاهُما طالب الثانويةِ المتفوق. وعندما اعترض برفقٍ على الأصباغ التي وضعتْها أخته على وجهها، صرخوا فيه حتى انكمش:
- ما شأنك بها؟! انشغلْ بنفسكَ أنت (قال الأب).
- أتريدُ لها أن تذهبَ لحفل عرسٍ مثل خفير؟! (قالت الأم).
في مساء الحفلةِ التي أُقيمتْ في إحدى العوّاماتِ النهرية الراسية قُربَ شاطئٍ هادئٍ جميل، تكتنفهُ الأشجار والزهور، يفصلُها عنهُ جسرٌ خشبيّ يمتد في الماء، كان (حمادة) يجلس وحيداً بلا أنيسٍ إلى الطاولة التي يجلس إليها أبواه وأخته وعمّه وخاله، كان يلتفت حولَهُ لمزاح أقاربه الشبابِ الصغار، وودّ لو استطاع أن يسامرهم، ولكنه خشي أن يحرجَهُ أبواه، خوفاً عليه من الاختلاط بشباب أقلّ انضباطاً وأصعب قياداً.
عندما أمسك مقدِّمُ الفرقةِ مكبرَ الصوتِ وأعلن - وكأنّه يلقي على الحاضرين أعظم المفاجآتِ - عن فقرةِ الراقصة، سُرعانَ ما دخلت على أطراف أصابعها بسرعةٍ ونشاط، والتهمتها عيونُ الفتيان والكهول، تراجعَ (حمادة) للوراءِ بكرسيّه خجلاً، حتى جلس هناك بعيداً عند مدخلِ الحفل.
وهناك استدار بكرسيّه، وأعطى ظهرَه لكلّ الحضور وللراقصة، ووضع وجهه بين قبضتَيه، وأخذ يحدِّق في الأرض، وقد تقوَّس ظهرُه. وتمنّى التفاتةً أبويّةً عفويةً إليهِ، فيُسرّان ممّا فعل، من انسحابهِ من أمامِ المسرح، وقد خالف في هذا شباب العائلة المولَعين، وشيوخَها الذين خرجوا عن وقارهم، فقد تجمهر الكلُّ هناك أمام الراقصة.
ثم تخيَّل في صمتهِ التفاتةً جماعيّة من كلّ الأباء والأمهات من العائلة، أعطوا ظهورهم للراقصة، والتفتوا إليه، للفتى العفيف الذي غضّ طرْفَهُ عن اللّحمِ الرخيصِ، الوحيد الذي لم يستخفَّهُ الطربُ ولم تلعب به المعازف.. كلماتُ إعجابٍ تتناثر حوله، تصفيق، تصفير، والراقصة تنسحب معترضة على هذا التجافي. حتى اقشعر بدنه، وهو يرى من ظهره أبويهِ وقد تبلّلتْ أعينهما بالدموع غبطة وتقديرا وحمداً لله.
اشتاق لأن يرى هذا بعينيه: التقدير! التقدير!
يلتفت بوجهه، يُصعَقُ، يديرُ الكرسيّ، ينحسرُ حلمُ اليقظة، يفركُ عينيهِ، يفرك عينيه مرَّةً أخرى، إنّها هي ولا غير، تلك التي هناك على المسرح، أخته! قد شدت انتباهَ الكل، وسحبَتِ البساطَ مِن تحت الراقصة وأربكَتْها، وللسنِّ أحكامٌ. وطاولةُ الأهل تضجُّ بالتصفيق، الأبُ والأمُّ والعمّ والخال، وقد ارتفعت حواجبُهم واحمرّتْ وجوههم وامتلأتْ فخاراً!
شعر بالحياء الشديد، وقد رأى - وهو يقترب ببطءٍ - نظراتٍ حيوانيةً في عيون البعض من شباب العائلة، وإنّ هذا الذي يُنهش بالنظرات لَجسدُ أخته!
حاول الهروب، ولكنّ الباب قد أُغلق. مشى بجانبه وظهرهِ للناس، يكاد أن يقع على الأرض من الغَيرةِ والحنق واليأس، كاد أن يعثر في سجادةٍ في مشيه الذليلِ، واصطدم بنادلِ الحفل فقلب كؤوسَهُ المليئةَ بالعصائر. يمشي مشياً شديد التعثر كأنه معاقٌ يكابر وينكر إعاقتَه. يتعبُ، يختنق، يبكي وحدَهُ، ولا النشيج يُسمَع ولا الدموع تُرى في هرج الحفل. يجدُ أمامه سلّما ضيقاً حلزونيًّا لأسفل، ينزل منه ببطءٍ، حتى يدلف إلى غرفة صغيرةٍ خافتةِ الضوء تحت ضجيج الحفل وقرع الطبول والزغاريد الوحشيّة. غرفةٌ كأنها مخزنٌ، تطل على الماء، ولا يرتفع سورها عنه إلاّ شبراً واحداً لا غير، وجد فيها أشياءَ لم يتبيَّنها، وأدواتِ مائدةٍ، وعرائس صغيرةً من زجاجٍ تُزيّن بها الأرفف وما شابه، وكذلك محارم من ورق.
جلس يحدق في صفحة الماء أمامه، وقد شم حوله رائحة عفونةٍ خفيفة، ورائحةً طحالبٍ، وشيئاً قليلاً من رائحةِ الخَثَى الذي تُسمَّد به أصصُ الزرع في مشاتل طرح النهر. وقد دار رأسهُ وتحركتْ بطنه وأوشك على التقيّؤ، فانكفأَ إلى الماء مستعدًّا للقيءِ القادمِ لا محالةَ، وإنارةٌ صفراءُ تنعكس على الماء، وهواءٌ، وصوتُ المغنّي كعواءٍ عن اللّيل والعين، كلُّها تحرِّك بطنه.
يمرُّ زورقٌ سياحيٌّ كبيرٌ سريعٌ بالقرب من العوامة بطريقةٍ خرقاءَ، يُحدِثُ موجةً عالية، تضرب وجه الفتى المنكفئ وتغسلُ ثيابه، ويشرق، وتقتحم الغرفة، وقبل أن يفيق من هول الصدمة، وجد هذا الطوفانَ الصغير ينحسرُ إلى خارج مثل يدٍ قبضت على شيء في عشٍّ وارتدّت مسرعةً؛ انحسر الطوفان، وقد احتملَ من الغرفةِ عرائس زجاجيةً، ومحارم ورقيةً، أخذتْ تتهادى جميعاً على صفحة الماءِ، وتقيَّأ، فشقّ قيئهُ طريقاً بين العرائسِ والمحارم.
مرّت سِنون، حتى التحق (حمادة) بالفعل بكلية الطب، وانتقل (حمادة) لسنة الامتياز، متفوقاً كالعادة، منشغلاً بدراسته كلّ انشغالٍ.
وفي يومٍ عائليٍّ حزين، حزينٍ جدًّا، له ضجّةٌ، ثم طنينٌ، تذكّر كلّ شيءٍ: صفحة الماء المظلمة التي انعكست عليها أنوارٌ صفراءُ، وضجيج الفرقة الموسيقية، وأعيُن والديه تنظر لأخته بكل فخرٍ وهي ترقص، والغرفة المظلمة، وما بها، ورائحة الطحالب الصغيرة النابتة على جانب العوامة، والغثيان، والموج والزورق.
كان الوحيدَ من العائلة الذي لم يتعجبْ عندما عادت أخته، بينما مرض الأبوانِ وقعدا سويًّا بالفراش، ينتحبانِ، ويربِّتُ كلٌّ منهما على كتف الآخرِ مواسياً، لقد عادت العروسُ سريعاً، بعد ستة أشهر، لما فُتنت بممثلٍ وسيمٍ ظهر في مسلسلٍ سياحيّ (مدبلج)، وعبّرت للزوج عن هيامها بـه بعبارة نابية، فطلّقها. احتملها طوفانُ (مهند) ووالديها مع الذي احتمله، عرائس زجاجٍ، ومحارم ورقٍ.[/align]
مواقع النشر