بســم الله الـرحمــن الرحيــم
السلام عليكــم ورحمـة الله وبركاتــة ،،
" معاذ بن جبل رضى الله عنه"
في موسم الحج للعام الثالث عشر من الهجرة والذي تلى "بيعة العقبة الأولى" جلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين ثلاثاً وسبعين رجلاً(اثنان وستون من الخزرج ، وأحد عشر من الأوس ومعهم امرأتان) يُطلعهم على شروط البيعة قائلاً :-
"أشترط لربى أن تعبدوه وحده ولا تشركوا به شيئاً ، ولنفسي أن تمنعونى مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم متى قدمت عليكم"
إذا أمعنت النظر بين الجالسين ستجد شاباً في الثامنة عشرة من عمره ، مُشرق الوجه ،هادئُ المجلس ،تتّقد عينيه ذكاءً
ذلك كان" معاذ بن جبل رضى الله عنه"
من قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم :-
" أعلم أمتي بالحلال و الحرام معاذ بن جبل"
وقال صلى الله عليه وسلم عنه :-
" خذوا القرآن من أربعـة : من عبد الله ابن مسعـود وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وسالم مولى أبي حذيفـة "
وهو من قال عنه الفاروق عمر بن الخطاب رضى الله عنه:-
"من أراد الفقه فليأت معاذ بن جبل"
معاذ بن جبل بن عمرو بن أوس الخزرجي الأنصاري - رضي الله عنه - وكنيته أبا عبدالرحمن .
أنعم الله سبحانه وتعالى على "مُعاذ" بعقلٍ راجح وفكرٌ مستنير ، ومنطقاً آسراً مُقنعاً ، جعلوا منه حجةً في الفقه ، يُحتكم بأمره و يُفصل به .
وكل هذا لم يأت مُعاذاً من فراغ ، بل نتاجاً لحرصه على ملازمة النبي صلى الله عليه وسلم منذ هاجر إلى المدينة ، فأخذ عنه القرآن الكريم و الشرائع الإسلامية ليكون واحداً من الستة الذين حفظوا القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم و واحداً من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين انتهجوا بنهجه و تتبّعوا خُطاه ...
انظروا للمكانة التي منحها رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل رضى الله عنه ...
يقول معاذ :
"أخذ بيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إني لأحبك يا معاذ فقلت وأنا أحبك يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تدع أن تقول في كل صلاة رب أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك"
وليس هذا فحسب بل بلغت منزلة معاذ أعلى من هذا فقد كان يُردفه رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه على ظهر دابّةٍ واحده ...
يقول معاذ :
" بينما أنا رديف النبي صلى الله عليه وسلم ليس بيني وبينه إلا آخرة الرحل فقال يا معاذ قلت لبيك يا رسول الله وسعديك ثم سار ساعة ثم قال يا معاذ قلت لبيك رسول الله وسعديك ثم سار ساعة ثم قال يا معاذ بن جبل قلت لبيك رسول الله وسعديك قال هل تدري ما حق الله على عباده قلت الله ورسوله أعلم قال حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا ثم سار ساعة ثم قال يا معاذ بن جبل قلت لبيك رسول الله وسعديك قال هل تدري ما حق العباد على الله إذا فعلوه قلت الله ورسوله أعلم قال حق العباد على الله أن لا يعذبهم ،فقلت ألا أخبر الناس ؟ قال : لا لئلا يتكلوا "
إذن فهذا أمراً استودعه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- معاذ بن جبل وخصّه به وحده ، أوليس هذا بأبلغ دليل على قدر منزلة وحب رسول الله صلى الله عليه وسلم- لمعاذ ؟
وقد عمل معاذ بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يُخبر به إلا قبل موته رضى الله عنه خشيةً أن يأثم لتكتّمه علماً .
لم يترك "معاذ" فرصةً إلا ويُحاول الإستزاده من نبع النبوة الصافي الذي لا ينضب ، فيأتي معاذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوماً قائلاً :-
"يا نبي الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار قال لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله عليه تعبد الله ولا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت ثم قال ألا أدلك على أبواب الخير الصوم جنة والصدقة تطفئ الخطيئة وصلاة الرجل في جوف الليل ثم قرأ قوله تعالى " تتجافى جنوبهم عن المضاجع .. حتى بلغ يعملون" ثم قال صلى الله عليه وسلم ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه فقلت بلى يا رسول الله قال رأس الأمر وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد ثم قال صلى الله عليه وسلم ألا أخبرك بمِلاك ذلك كله فقلت له بلى يا نبي الله فأخذ بلسانه فقال كف عليك هذا.. فقلت يا رسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به فقال صلى الله عليه وسلم ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس على وجوههم في النار أو قال على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم "
ياله من حوارٍ رائع بين معلم البشرية صلى الله عليه وسلم و تلميذِ دار في فلك النبوة المشرقة التي لا تغيب إلى يوم القيامة ، حوار يأتينا بدُررٍ لتتوّجنا يوم القيامة بإذنه تعالى من أصحاب اليمين .
تلك كانت نشأة معاذ بن جبل رضى الله عنه، وما أعظمها من نشأة بين يدي رسولنا الكريم عليه أفضل الصلاة و السلام
" معاذ بن جبل سفيراً للإسلام "
جاءت رسل ملوك اليمن في أوائل العام العاشر من الهجرة بعد عودة النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك وطلبوا منه أن يرسل معهم من يعلمهم ويُفقههم في أمور الدين فوقعت عين رسول الله صلى الله عليه وسلم على "معاذ بن جبل رضى الله عنه" واختاره ليكون سفيراً للإسلام و المسلمين باليمن ، وقبل ذهابه يخرج معه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليوصيه قائلاً :-
"يا معاذ إنك تأتي قوما من أهل الكتاب فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم فإن هم أطاعوا لذلك فإياك وكرائم*** أموالهم واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب"
ولقد تشرّب معاذ رضى الله عنه دروس رسول الله صلى الله عليه وسلم و أجاد تطبيقها فيلقاه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً قائلاً :-
"كيف تقضي إذا عرض لك قضاء قال أقضي بكتاب الله قال عليه الصلاة والسلام فإن لم تجد في كتاب الله قال فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عليه الصلاة والسلام فإن لم تجد في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا في كتاب الله قال رضى الله عنه أجتهد رأيي ولا آلو .. فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره وقال الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله "
وقبل ذهابه رضى الله عنه يودعّه رسول الله صلى الله عليه وسلم وداعاً مؤثراً، فبعد أن يفرُغ من نصحه ومُعاذ رضى الله عنه راكباً ورسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي تحت راحلته قائلاً :-
"يا معاذ إنك عسى أن لا تلقاني بعد عامي هذا أو لعلك أن تمر بمسجدي هذا أو قبري فبكى معاذ رضى الله عنه جشعا لفراق رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم التفت فأقبل بوجهه نحو المدينة فقال إن أولى الناس بي المتقون من كانوا وحيث كانوا "
ينطلق بعدها معاذ رضى الله عنه إلى اليمن مُحملاً بنصائحه صلى الله عليه وسلم وشرائع الحقّ جلّ جلاله ، ولأنه صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى لايعود معاذ إلا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم و عند عودته يمر على قبر أستاذه ومعلم البشرية عليه أفضل الصلاة والسلام ،
ولايطيق "معاذ" بقاءً بالمدينة فلقد عاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يكون رايةً من رايات الجهاد فيستأذن خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضى الله عنه ألا يُقيم بالمدينة و أن يعود على الفور إلى بلاد الشام عسى أن يرزقه الله سبحانه و تعالي الشهادة هناك .فيأذن له "الصدّيق رضى الله عنه" و ينطلق معاذ رضى الله عنه ليجاهد تحت أمرة أبا عبيدة بن الجرّاح ..
ويشاء .الله سبحانه وتعالى أن يموت أبا عبيدة بالطاعون فيأمر عمر بن الخطاب رضى الله عنه الخليفة آنذاك - أن يتولى القيادة "معاذ بن جبل رضى الله عنه" ، لكن لم تمض أيام قلائل إلا ويُبتلى معاذ بن جبل رضى الله عنه بالطاعون
لينام ابن الثالثة و الثلاثين على فراش الموت مُحدقاً في السماء مناجياً المولى عز وجل :
"اللهم إنك تعلم أني كنت أخافك ولكني اليوم أرجوك ، اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب الدنيا لجري الأنهار،ولا لغرس الأشجار ....ولاكن لظمأ الهواجر ومكابدة الساعات ،ونيل المزيد من العلم و الإيمان و الطاعة "
ثم بسط يمينه كأنه يصافح الموت : " مرحباً بالموت .. حبيب جاء على فاقه "
وفاضت روحه الطاهرة رضى الله عنه ليلقى الأحبه ..
نسأل الله سبحانه وتعالي أن يجمعنا بهم ومعهم في دار كرامته إنه سميع قريبُ مجيب الدعوات ...والسلام عليكــم ورحمـة الله وبركاتــة ،، .
المصدر :- كتاب رجال حول الرسول
مواقع النشر