ربما يمثل الألم المصاحب للدورة الشهرية (عسر الطمث) لغة الشكوى المشتركة بين الفتيات خصوصا بالبدايات الأولى لعالم الأنوثة، فمفرداته بعد فترة معينة تجعله هاجس خوف بقالب يفرض حيزا على أجندة الفتاة في حياتها الروتينية بعد ان يصبح حدثا دوريا مألوفا بفصوله المؤلمة ودرجاته المتفاوتة، لمرحلة تفرض نوعا من قيود التصرف بالحياة الدراسية والعملية، والألم بحد ذاته يشخص بتزامنه وارتباطه بحدث الدورة الشهرية، حتى لو كان هذا الواقع بسبب خلل مرضي بمنطقة الحوض مثلا أو يمثل صورة مرضية لخلل صحي بمكان أبعد.
36945.jpg
الألم المصاحب للدورة الشهرية يمثل موجات من انقباضات مؤلمة مصاحبة لفترة النزيف الحقيقي في منطقة الحوض، ينتقل لأسفل البطن والأطراف السفلى وقد يتزامن مع أعراض متداخلة بالجهاز الهضمي أو الجهاز العصبي، لفترة زمنية تمتد حدودها الدنيا لفترة قد تقارب ثماني ساعات وبحد أقصى يصل إلى ثلاثة أيام، علما أن درجة التحمل تختلف بين الفئات العمرية فتكون درجة التحمل بصورة أكبر بين فتيات العمر الأصغر لمنطق التحمل بصورته الشاملة. تتفاوت نسبة الانتشار بين الفتيات باختلاف الظروف البيئية والاثنية والمناخية والوراثية، وقد دلت الدراسات الحديثة أن معدل الاصابة يلامس ما نسبته 90% من الفتيات وبدرجات ألم وشكوى مختلفة، منها الذي يدخل بنطاق درجات التحمل بدون التأثير على النشاطات الحيوية والأعمال اليومية، ومنها نسبة تحتاج لتعديل جدول الحياة اليومية لفترة زمنية وهناك ما نسبته 10% من الفتيات اللواتي يلتزمن سرير الراحة والغياب عن المدرسة أو الجامعة أو العمل، كما أن الشواهد العلمية لدراسات حديثة متقدمة قد خلصت بنتيجة انتهاء فصول المعاناة لهؤلاء اللواتي تزوجن وأنجبن أو استخدمن حبوب منع الحمل لتنظيم عمل المبيضين في الوقت الذي لم تتبدل فيه فصول الألم بين من حرمن من فرصة الزواج والحمل أو اللواتي أجهضن بفترات حمل مبكرة.
تقسم حالات الألم المصاحب للدورة الشهرية لفئتين، الأولى تشمل نوبات الألم السابقة لحدوث نزف الدورة الشهرية (عسر الطمث الأولي) والتي تنتشر بين الفتيات حيث أقصى درجات الألم تسبق النزف مباشرة لتبدأ بعدها بالانخفاض تدريجيا مع جريان غدير الدم الرحمي، بينما تشمل الفئة الثانية (عسر الطمث الثانوي) تلك النساء التي تشكو من الألم المرافق للدورة الشهرية والذي يزيد تدريجيا مع انسياب الدورة الشهرية ولعدة أيام تالية.
نشاط
هناك نشاط انقباضي متراكم مع حالات عسر الطمث الأولي، نتيجة ارتفاع معدل انتاج أنزيمات رحمية قابضة للعضلات «بروستاجلاندين» إضافة لزيادة معدل مركبات كيميائية قابضة، لتكون المحصلة بصورة تصورية كدرجة فسيولوجية بنقص التروية الدموية واستثارة المستقبلات العصبية المتخصصة بالألم، يفسر جزء منها كاستجابة منطقية لانخفاض مستوى هرمون البروجيستيرون المسؤول عن ارتخاء العضلات بعنوانه الفعلي، ومن النادر أن يفسر هذا العسر الطمثي كنتيجة اضطراب وشذوذ وظيفي لسبب مرضي، ويستثنى من ذلك الحالات الناتجة عن عيوب تكوينية بالجهاز التناسلي مثال وجود جدار مهبلي مانع أو إنسداد خلقي بغشاء البكارة يمنع انسياب دم الدورة الشهرية، أو نتيجة وجود قرن رحمي زائد وغيرها.
التفسير المنطقي لعسر الطمث الثانوي يأخذ أبعادا مختلفة باعتباره صورة مرضية لخلل وظيفي، يرافقه ألم البطن المزمن، ويمكن اعتبار أي عارض صحي يؤدي لزيادة درجة الاحتقان بالمنطقة التناسلية كسبب مفسر للألم، فوجود بطانة الرحم الهاجرة لعضلة الرحم أو وجود ألياف رحمية أو التهاب تناسلي مزمن أو وجود درجة معتبرة من بطانة الرحم الهاجرة داخل التجويف الحوضي والذي يتسبب بنزف دوري، كلها اسباب تشخص وتترجم بإحدى محطاتها بالألم المرافق للدورة الشهرية بصورة دورية، على أن أذكر أن هناك أسباب مرضية غير نسائية تشارك بهذا النوع من الألم مثل التهاب القولون العصبي الشائع الذي يتهيج بفترة الدورة الشهرية أو التهاب المثانة البولية المرافق، إضافة لعلاقة مؤكدة بحالات الاعتداء الجنسي والاضطراب النفسي الناتج عن ارتفاع سقف أنزيم الخوف، بالاضافة لحالات الاحتقان الوريدي بفروعها نتيجة لخلل بانسياب الدورة الدموية بالأطراف السفلى خصوصا مع الممارسة الجنسية والتي يلاحظ انخفاض حدتها بالاستلقاء والراحة. بالعموم، يعتبر تفسير أعراض تسلسل أحداث السيرة المرضية ركنا مهما بالتشخيص لافتقار الواقع لوسيلة تشخيصية مساعدة تحمل عصا الحسم، بل يعتمد الاجتهاد على الاستثناء خصوصا بحالات عسر الطمث الأولي حيث أن مسكنات الألم بتوقيتها السحري تعتبر مؤشر التوقع بالظرف خصوصا بصورة الألم الكلاسيكية، بينما الحالات المنطوية تحت عنوان عسر الطمث الثانوي قد تحتاج للخضوع لوسائل تشخيصية مساعدة مثل الفحوصات المخبرية أو الاشعاعية أو التلفزيونة وربما لتداخلات تشخيصية كالتنظير البطني تحت التخدير العام بهدف النفي أو الاثبات لخلل وظيفي، لحصر نسبة معينة تتخذ من فصول الألم مؤشر جذب لاثبات الوجود أو لفت النظر بسبب خلل نفسي أو سلوكي.
الفترة العلاجية
أصول التعامل العلاجي تختلف بين فئتي المرض، حيث الفترة العلاجية بتحديد سبب الخلل في عسر الطمث الثانوي هي التي تحدد خطوط العلاج المرحلي والشفائي كمنطق طبي غير قابل للاجتهاد، يتمثل بأساسياته بالشفاء من الخلل الصحي والذي يكون بأحد صوره عسر طمث ثانوي مرتبط إلى حد ما بتوقيت النزف الشهري، على أن يكون بأحد خطوطه العريضة مسكنات الألم، ويجب أن يكون حاضرا بالخطة العلاجية احتمالية وجود صورة ما من الخلل النفسي وتترجم بالشكوى المرضية بتوقيت دوري. يختلف الحال لفتيات عسر الطمث الأولي، حيث أن مسكنات الألم الثنائية المفعول تعتبر خط العلاج الأول لقدرتها على تثبيط تشكل أنزيمات الألم «البروستاجلاندين» من خلال إنهاء الحلقة التكوينية بمراحل مبكرة، ومن عناصر هذه الفئة العلاجية المعروفة مشتقات كل من البروفين، الأسبرين، النابروكسين والتي يجب تناولها بعد الوجبات الغذائية لتقليل نسبة حدوث أعراض جانبية مؤثرة على الجهاز الهضمي.
حبوب منع الحمل
تعتبر حبوب منع الحمل الهرمونية المزدوجة التكوين «الاستروجين والبرجيستيرون» أحد خيارات العلاج الشفائية، ويفسر الأمر بالمنطق العلمي بتأثيرها المباشر على وظيفة المبيضين من خلال تزويد الجسم بحاجته من الهرمونات الأساسية التي تنتج أساسا بالمبيض وبالتالي يمنع المبيض من انتاج البويضة الشهرية التي تساهم بمجملها بانتاج الأنزيمات القابضة المؤثرة التي تسبب انقباضات بطنية مؤلمة مرافقة تسبق زمنيا نزف الدورة الشهرية، ولكنني أحذر من استخدام العلاجات الهرمونية التي تتسبب بسبات وظيفة المبيض لفترة زمنية طويلة وبشكل روتيني نتيجة مفعولها السحري، حيث أن لها آثار جانبية مدمرة على المدى البعيد ويفضل حصرها كحل بديل بأضيق الحدود عندما يكون هناك مانع صحي لاستخدام حبوب منع الحمل المزدوجة.
هناك أيضا مساحة صغيرة ضمن تضاريس الخارطة العلاجية لاستخدام العلاجات العشبية بصورها المختلفة سواء بمفردها أو بخلطها ببعض العقاقير الطبية كفيتامين ب1، ب6، ج، أو بالتزامن مع التركيبات العشبية مثل البابونج والقرفة واليانسون وغيرها، على أن يكون التفكير باستخدام مفردات العلاج الجراحي بعد استنفاذ جميع الوسائل العلاجية وإعادة تحليل أعراض السيرة المرضية لتيقن التشخيص.
الزواج والحمل بظروف الفتاة المناسبة يمثل حلا سحريا تتعدى أبعاده حدود العلاج لخلل صحي مرحلي، خطوة جريئة قد تثمر بتوفير مسكن الاطمئنان للمستقبل وتكوين عائلة الأحلام بترجمتها لواقع تعيشه، خصوصا بظروف عالمنا التكنولوجي المجنون الذي جعل كل صفحات حياتنا صعبة وسهلة بنفس الوقت بمعادلة يصعب تحليل أرقامها أو ادخارها فجعل من فهمها الصحيح معصية توهم البعض بفهم الدرس وللحديث بيقة.
استشاري النسائية والتوليد
د. كميل موسى فرام
مواقع النشر