كثرت في ثنايا سورة وآيات القرآن الكريم نماذج متعددة من الحوار منها ما يتوجه به الله سبحانه إلى بعض خلقه كرد على تساؤلات المشركين ودحض شبهاتهم وكبلاغ للمؤمنين ليثبت عقيدتهم وليبث في أنفسهم الأمل وخاصة عند الشدائد ويحذرهم من الزلل عن وجود الأخطاء البشرية، وذكرت حوارات أخرى عديدة بين أشخاص متعددين، ولذا تعددت أنواع الحوار وغاياته في القرآن الكريم.
ويختلف الحوار القرآني عن أي حوار بشري آخر، إذ يتضمن عدة مضامين وانعكاسات تربوية حاول الباحث إيرادها في مناقشة قضايا الحوار في القرآن الكريم.
وبعد أن بدا البداية التقليدية بفصل تمهيدي للبحث حول أهمية دراسته وخلفياتها ومشكلتها وأهدافها وأسئلتها والدراسات السابقة التي جاءت في نفس موضوعها وكذلك بيان تعريفي للحوار من الناحيتين اللغوية والاصطلاحية.
وبين الباحث أن للحوار في القرآن صورا منها:
- المحاورة التشريعية وهي المحاورة التي يقابلها من المسلم وجدان وانفعال وتفكير وكل ذلك من الاستجابات المؤثرة والمقتنعة
- المحاورة الوصفية وهي وصف حي لحالة نفسية أو واقعية لمتحاورين بقصد الإقتداء بهم في الخير والابتعاد عنهم في الشر
- المحاورة القصصية وهي القصة القرآنية
- المحاورة الجدلية وهي للرد على الشبهات وبيان الحق بقوة البرهان والدليل
واهتم الباحث بتوضيح مفهوم الحوار في القرآن الكريم وانعكاساته التربوية من خلال خمس محاور رئيسية اقتصرت عليها الدراسة وهي:
أولا قضية: إثبات وجود الله تعالى
فتناول الباحث الآيات التي تدعو الإنسان للإيمان بالله خالقا وتناول ما تدعو الناس إليه بالاستدلالات العقلية والقلبية مثل "إنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ * فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ * وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ"
ففيها دعا الحق سبحانه خلقه إلى الإيمان به فهو الذي انزل من السماء ماء واخرج بسبب هذا الماء نبات كل شيء وعلى اختلاف الأنواع والثمار المتشابه منها وغير المتشابه، ومن الانعكاسات التربوية في هذا النوع من الحوار الذي يبين حقيقة إثبات وجود الله سبحانه ان يورث الإنسان الخشية من الله ويجعله يتذكر نعم الله عليه فيشكره سبحانه عليها، وهكذا سار الباحث في كل الآيات .
ثانيا قضية: نسبة القرآن الكريم لله سبحانه وتعالى
قام الباحث باستخراج الآيات في القران الكريم الخاصة بالحوار حول قضية نسبة القران إلى الله سبحانه مثل تحدي الله لعباده ان يأتي بمثل القران أو بمثل بعضه فقال "وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * و قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ" فكان أسلوب التحدي واضحا في تقرير عجز البشر عن محاولة إيجاد مثل القران، وجاءت الآيات الأخرى لتؤكد أن هذا الكتاب من عند الله ولم يفتره أو يتقوله النبي صلى الله عليه وسلم من تلقاء نفسه ولم يمله عليه غيره، ولم تكتبه الجن ولا الشياطين وما ينبغي لهم وما يستطيعون.
ثالثا قضية : مهمة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم
وكانت هذه القضية التي انقسمت لقسم أولهما إثبات ان الرسل مبتعثين جميعا من عند الله، وثانيا الغاية من بعثهم وهي دلالة الخلق على الله "ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم"، وفيه يظهر أسلوب اللين في المخاطبة لأهل الكتاب وكذلك جاء في بعث الرسول للناس كافة، وظهر ذلك جليا أيضا في حوارات الأنبياء مع أقوامهم ليثبتوا لهم أنهم بشر مرسلون إليهم من عند الله وأنهم ليسوا مميزين عن دنيا البشر بل هم على كامل بشريتهم ولا يتخصصون بشيء سوى بالوحي.
رابعا قضية: قيمة الحياة الدنيا
بين الله عز وجل في هذه القضية قيمة الحياة الدنيا وأنها دار ابتلاء وهي زائلة لا محالة وان وظيفة الإنسان فيها عمارتها وعبادة الله فيها في أسلوب حواري وجداني يخاطب العاطفة وينقل النفس من أوحال الغرور الدنيوي إلى السمو في ابتغاء مرضات الله في كل ما يفعله " زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالبَنِينَ وَالقَنَاطِيرِ المُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ وَالخَيْلِ المُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ المَآبِ * قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَٰلِكُمْ ۚ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ"، فبأسلوب الحوار وببراعة الاستهلال وباستخدام أسلوب الحوار الخطابي التشريعي فيستنكر الله على عباده الذين رضوا بالدنية وفضلوا الحياة الدنيا على الآخرة.
خامسا قضية: قيمة الحياة الآخرة
تستكمل تلك القضية مع سابقتها كوحدة واحدة لمعالجة القضيتين معا، فالدنيا قليلة تافهة بجوار الآخرة العظيمة الهائلة ويضرب الله فيها مثلا حواريا كحوار فرعون مع السحرة الذين يبينون له قيمة الدنيا والآخرة بعد إيمانهم "قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا * إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى"، وكذلك بين الله لهم قيمة الدنيا والآخرة بضرب الأمثال عن الحياة الدنيا وقيمتها وتعظيم قيمة الآخرة وشانها وأهلها والعمل لها وتحقير كل ما من شأنه ان يبعد الإنسان عنها.
واختتم الباحث دراسته بعض النتائج التي توصل لها مثل::
- للحوار أهمية دعوية وتربوية عظمى إذا أحسن استغلاله مع المؤيدين والمخالفين والعصاة وأهل الكتاب وحتى المشركين
- الله سبحانه قد استخدم الحوار رغم عدم اضطراره له، فلا يضره كفر الناس كما ينفعه إيمانهم، لكي يعلمنا قيمة الحوار وانه السبيل الأمثل للتعامل مع المخالفين لتوضيح الحقائق وإزالة الشك من قلوب الأتباع.
- وللحوار دوره العظيم كذلك في غرس القيم في نفوس النشء، فيوجد بيئة مناسبة للالتقاء على المفاهيم المشتركة مما ييسر تعزيز أواصر الأخوة والتفاهم بين الناس على اختلاف أفكارهم ومعتقداتهم.
- وللحوار القرآني نتائج تربوية عظيمة إذ يؤكد أن حرية الرأي أساس عظيم من أسس التواصل مع الآخرين، ولهذا وضع لها القرآن الكريم القواعد والأسس التي تكفلها، واثبت الباحث أن الإرهاب الفكري ليس من لغة القرآن الكريم
وكان من توصيات الباحث وهي نفس الأهداف الخمسة التي قسم إليها بحثه فجعلها توصيات:
- يوصي الباحث بتفعيل الحوار القرآني واتخاذه نبراسا يحتذى في التعامل مع كل القضايا
- ويوصي باستخدام الحوار لتقديم القرآن الكريم للناس كافة على أنه من عند الله سبحانه وتعالى.
- ويوصي باستخدام الحوار لبيان أن الرسل عليهم الصلاة والسلام مبتعثين من عند الحق سبحانه وتعالى .
- وأخيرا يوصي الباحث بإجراء دراسات مكملة لدراسته في جوانب أخرى لتستكمل ما بدأه في إبراز قيمة الحوار وأهميته .
وفي النهاية جزى الله الباحث خير الجزاء على هذا البحث القيم
رسالة ماجستير عام 2003
اسم الباحث:
محمد عدنان علي القضاة
قسم الإدارة وأصول التربية، جامعة اليرموك ، أربد الأردن.
إشراف: الأستاذ الدكتور
حسن أحمد الحياري
لتحميل الدراسة انقر هنا:
المصدر: المرصد الإسلامي لمقاومة التنصير
مواقع النشر