عزيزي جورج
يعشق الغربيون الحرية لدرجة التقديس ، ويتمتعون بدرجة من الحرية لاتتوفر لكثير من الشعوب الأخري في كل بقاع الأرض . هذا جيد ؛ فقط أنا كشرقي يبدو متشائما قليلا ، ويركز على الأنصاف الفارغة للأكواب ، أرى أن الحرية الإنسانية ليست مطلقة ، نعم ، هل تتخيل ذلك ؟!
مثلا أنا لا أعتقد أن هناك الكثيرين ممن يدفعون نصف دخولهم كضرائب عن طيب خاطر ، كما لا أعتقد أن هناك الكثير من الجنود الذين يقبلون الموت من أجل الوطن ، أو من أجل حفظ السلام ، أو حتى يقبلوا العودة لأطفالهم على كراسي متحركة ؛ كثير من أعبائنا نلتزم بها بدون متعة ! .
وعندما كنت طفلا كنت أتمني التحليق في الحقول كالفراشات ، لكن بعد ذلك أدركت أن ذلك غير متاح ، لأسباب تتعلق بالكتلة والجاذبية الأرضية وأمور أخرى فيزيائية ، وهكذا أمثال كثيرة لأنصاف الأكواب الفارغة ، ليس فقط في حياتي أنا كطفل ، بل في حياة الكل .
هذا جعلني أدرك مبكرا أن الحياة تنطوي على تنظيم جيد – أو غير جيد – بين الحرية والإلتزام ، بين الحرية والقانون ، وأيضا بين الحرية والذوق السليم ..
نعم ، الذوق السليم ، فعندما كنت صغيرا كانت أمي توجهني قبل زيارة الضيوف لنا
: عندما يأتون ، لاتحك أنفك أمامهم .
وكنت أقول لها وأنا مقتنع تماما بأنها تصادر حقا أساسيا من حقوقي : ولكني لاأحك أنوفهم !!
أنظر هنا كم تماهيت صغيرا مع مفهوم الحرية الغربي .
وعندما كبرت سمعت كلاما كثيرا عن أهمية العمل ، إنها رسائل كثيفة ومؤثرة ؛ لجعلك تحب العمل وتتقنه . ولكن الطفل بداخلي كان يصارحني ببساطة بأن العمل هو أن تتنازل عن أن تمضي كل وقتك بالطريقة التي تريد – أي بحرية – مقابل أن تستمتع - بمكاسب العمل المالية - بباقي الوقت .
كما سمعت كلاما آخر عن كوني أنا أعمل والآخرين من حولي يعملون بنزاهة ومثابرة وإتقان ، فإن هذا سيؤدي لنتائج جيدة على مستوى النمو والتنمية للبلد . هذا جيد ، لكن ماذا يحدث لو عملت أنا بنزاهة ومثابرة وإتقان ، ولم يعمل الاخرون حولي بنفس الطريقة ؟
هذا هو الفرق بين الدين والحضارة .. ا لدين يعدني بمكافأة على المحاولات الفاشلة ، وبمكافأة لو نجحت وفشل الاخرون . الحضارة لاتعطيني .
هذا لايعني أنني متحيز ضد الحضارة ، على الإطلاق ، بل متحيز ضد الفشل ، وضد المعايرة بالفشل.
وأعرف جيدا أنني سليل أمة حاولت ونجحت من قبل ، الأيام دُول ، وهذا مطلوب إيضاحه أيضا لتسوية أرض الملعب قبل أي حوار .
أنا عندي بداخلي تنظيم جيد نسبيا بين ا لحرية وا لدين ، وهذا يجعلني أكثر احتراما لمشاعر الاخرين الدينية ، فلا أحك في أنفي أمامهم ، فضلا عن ألا أحك في أنوفهم ..
لذا فأنا أكره التعصب بالفطرة ، بل وأكره المناظرة والجدل في جو مشحون ومتوتر ، بل أكره أن أصمم أن رأيي صحيح في كل الأحوال . هذه الإستعدادات الشخصية رشحتني بجدارة لألا أرشح لأي موقع قيادي ؛ فالقيادي لابد وأن يمتلك من الحزم واليقين والقدرة علي الإقناع ، مايمثل غالبا كابحا للتفكير الحر الخلاق – أو الغبي – للآخرين .
والقادة والإداريين في كل الأحوا ل أقل عددا بكثير من المقودين والمُدارين ، هذا معناه أن نسبة الذين يفتقدون جزءاً من حريتهم ، أكبر كثيرا من نسبة الذين يمتلكون درجة أكبر من الحرية في قيادة أنفسهم وقيادة الآخرين ، الذين هم بدورهم توجد موارد محدودة وسياسات وبيئات وظروف كثيرة تضبط إبداعهم القيادي وقراراتهم ، وهذا يصل أحيانا إلى درجة الإحباط أو الإشلال ، مما يعطي رؤية على أن الحياة ليست ممارسة متفجِّرة للحريات .
ربما هذه الأشياء الكابحة جميعها جعلت التعبير هو ا لساحة الأوسع لممارسة الحرية ؛ فلا جاذبية أرضية ، ولا مديرون ، ولامدارون ، ولاموارد محدودة ، إنما فضاء واسع ، وعدد ضخم من أنوف الآخرين .
لكن ا لعالم صغر كثيرا ، وأصبح قرية صغيرة ، الأخبار والمعلومات تنتقل بطريق سريعة جدا وبحرية كاملة ، يدخل أحدهم على الإنترنت ، ويكتب مقالا يسب فيه دين الاخرين وإلههم ، ثم ينام بضمير مرتاح ؛ فالحرية مقدسة ، وحق التعبير هو قدس الأقداس !! ، في عالم صغير كهذا ، ستكون الحرية التي تفتقد الإلتزام والذوق السليم أشد خطرا علي الناس من ( السارس ) .
لكن لابأس فالغرب عودنا على أن يطرح الأفكار بحماسة ، ويجعل التجربة بعد ذلك تؤشر على المساوئ ، وبالتالي يتم وضع ضوابط مناسبة
: كيف نحمي الأطفال من سوء الإستغلال على الإنترنت ؟ . كيف نضع حدودا لحق الصحافة في تناول مواد شخصية ؟ كيف لانسمح لأحد بإنكار الهولوكوست ؟ .
المهم أن تكون هناك مشكلة وينشأ جدل بشأنها ، حتى يتم وضع قيد على حرية التعبير . وهذا يبدو منطقيا من ناس لاتريد الإفراط في وضع القيود .
المهم ألا يتم سرقة الحضارة من قبل ناس غير متحضرين ، لذا كان لابد من الصرامة مع مشجعي فريق كرة قدم ما ، إذا ما أبدوا استعدادا ورغبة في ضرب وسحل وربما قتل مشجعين من الفريق الاخر.
المسلمون عددهم في العالم حوالي 1.3 مليار إنسان ، قد لايمثلون أكبر عدد من المتدينين بدين ما وقد يمثلون . ولكنهم على أي حال ، أكثر كثيرا من مشجعي أي فريق كرة قدم ، ويرون أن الدين في حياتهم له دور أوسع من دور الكرة والنادي .
لكن الكاريكاتير لايشبه الضرب بالهراوات في مدرجات الملاعب ؟ نعم ، ولكن إنكار الهولوكوست ، وإرسال صور جنسية لطفل عبر الإنترنت ، ونشر صور شخصية فضائحية لشخص ، كلها أمور لاتشبه الضرب با لهراوات في مدرجات الملاعب .
نحن في حاجة لتنظيم جيد بين الحرية واحترام المشاعر الدينية لأصحاب الديانات المختلفة ..
نحن ندرك أن الغرب حاليا هو المنتج الأساس للتقنية وللأفكار ، وندرك أن العالم أصبح بالفعل قرية صغيرة .
وهذا يجعل حصة الغرب من المسئولية هي الأكبر ؛ أنا لاأستطيع أن ألوم الإسكندر على موت شخص ما جوعا في منطقة ما من العالم ، في الفترة التي سيطر فيها الإسكندر على العالم ؛ هذا لأن العالم لم يكن قرية صغيرة كما هو حادث اليوم ، كان الإنتقال والسيطرة أصعب كثيرا من الآن ، فمن ألوم الان أكثر على موت 25000 إنسان يوميا من الجوع ؟
يتضور إنسان من الجوع ، شيئا فشيئا يفقد حتى القدر من الطاقة الذي يتيح له التفكير في الإنتحار ، حطام إنسان تجده أمامك . بعد ذلك يموت بعد أن تتيبس أمعاؤه .. صورة شديدة البشاعة ! .
الحرية لاتعتبر الملهم من أجل إنقاذ شخص كهذا ، ولا المتعة الشخصية بطبيعة الحال .. إن من يدفع الغربي أو المسلم للذهاب إلى مناطق المجاعات بالماء والطحين واللقاحات ليس الحرية ، إذن هناك قيم أخرى لايبررها الحس الفردي ربما تفوق قيمة الحرية ، إنها تجعل الإنسان أرقى من مجرد شخص حر ..
هذا لايعني أنني متحيز ضد الحرية ، بل متحيز ضد اللا إنسانية ، وضد الفردانية المقيتة .. ونريد فقط ان نعلق بحانب اللافتة الليبرالية الشهيرة ( دعه يعمل ، دعه يمر ) لافتة أخرى استلهاما من تعاليم نبينا محمد ( دعه يأكل ، دعه يعيش ) .
التبي محمد صلى الله عليه وسلم يقول ( ليس منا من بات شبعان وجاره جائعا ) هو لم يقل جاره المسلم ، بل جاره بالمطلق ، إن معنى أن العالم أصبح قرية صغيرة ، يعطي تمثيلا واضحا وموجعا لمعني الجوار هنا ، هنا الدين ملهم جيد ، يلهمنا دلالة أخرى لصغر القرية العالمية ، بجانب الدلالة الرأسمالية الحالية المتعلقة بسرعة النفاذ للأسواق .
علينا جميعا ألا نسمح لغير المتحضرين بسرقة الحضارة ، مجنون عراقي يجبره سجانوه على نطح الجدار .. أي متعة ؟! .... إنها صورة سريالية خانقة وموجعة ، لقد كان ينطح جدار الحضارة !
هناك شقوق في جدار الحضارة ، يتسلل منها أشباح بشر من عندنا ومن عند الغربيين ، قامت تلك الأشباح بإهانة وتعذيب وقتل الأسري .
عندنا تعاليم ديتية من عند النبي منذ 1400 عام تمنعنا من أن نقيد الأسير بطريقة مؤذية أو نهينه أو نهدده
هذا منذ 1400عام . في العصر الحديث ظهرت معايير عالمية راقية لمعاملة الأسرى .. لكن ماذا عن التطبيق ؟
إذن لابد أن هناك اضطرابا في نوعبة الثقافة التي يتم زرعها في العقول .
في العصر الحديث وضعت مواصفات للسلع ، من المياه الغازية حتى حفاضات الأطفال ؛ وذلك حماية لجمهور المستهلكين . أما الثقافة فمستثناة من أي جدول مواصفات ، وذلك استنادا لقدس الأقداس وهو ( حرية التعبير ) ..
ولكن بما أن هناك من يستمتع بذبح أسير ، أو وضع عصا في دبر أسير ، أو بإجبار أسير مجنون على نطح الجدار ، فإن هذا يلزمنا بتحليل أي نوع من الثقافة استهلكها هؤلاء السجانون ؟
وإذا كنا لانستطيع حاليا أن نجبر صناع الثقافة التي تحض على الكراهية – وذلك لكون حرية التعبير مقدسة ! – على أن يضعوا تحذيرا ثقافيا على منتجاتهم كالذي يوضع على علب الدخان ؛ وذلك لتنبيه المستهلكين بأ ن ( المداومة على استهلاك هذا المنتج قد يحولك لإنسان سادي ) فعلى الأقل وجب علينا أن نبذل مجهودا ملائما لنشر ثقافة أخرى موازية تحض على التعرف على الآخرين وتنبذ العنصرية
وا لغربي قد يسأل : لنا تراث ضخم ، فهل لدى المسلمين شيء ما ؟
أقول : نعم ... الله في القرآن يقول (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ )
بمعني أن الغرض من التنوع العرقي والثقافي هو التعاون الإنساني والتلاقي والجدل البنَاء والتعارف .
كما أن الأفضلية عندالله ليست طبقا للعرق بل لتقوى الإنسان وصلاحه .
كما أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم يقول ( لا فضل لعربي على أعجمي ولا أعجمي على عربي، ولا لأسود على
أحمر، ولا أ حمر على أسود إلا بالتقوى،) .. بمعنى أنه لاسند لأي دعوى للتفوق العنصري ، ويتميز الإنسان بالخلق والعمل الصالح للإنسان ..
وأخيرا انا لست متحيزا ضد حرية التعبير ، بل متحيز ضد تعليب وتسويق الكراهية ، ولو في شكل كاريكاتير . فضلا ، إذا كنتم لاتحكّون أنوفكم أمام اليهود توقفوا إذن عن حك أنوفنا .
مواقع النشر