دبي - CNN : كانت الحرب الأمريكية في العراق "
حدثا مؤسسا" على مستوى العالم، إذ أن تداعياتها لم تقتصر على العراق والمنطقة، بل امتدت إلى الولايات المتحدة نفسها، ومنها إلى العالم بأسره، الذي تصاعدت فيه الدعوات إلى دفن المرحلة "
الأحادية القطب" والاستعداد لبروز قوى جديدة على حساب واشنطن المنهكة سياسيا وعسكريا واقتصاديا.
تقرير : مصطفى العرب
ففي الولايات المتحدة نفسها، بدلت الحرب الكثير من المفاهيم العسكرية، فقد تبددت استراتيجية "الصدمة والرعب" التي كانت الإدارات العسكرية قد طورتها، بسبب التكلفة المادية والبشرية الباهظة، لتحل محلها مقاربات جديدة تقوم على اعتماد
الدعم من بعيد للحلفاء أو خوض المواجهات دون مخاطر بشرية عبر
الصواريخ وكذلك
الطائرات العاملة دون طيار.
أما بالنسبة لما يعرف بـ"
الإرهاب"، والذي كانت الولايات المتحدة قد أعلنت حربا لا هوادة فيها ضده في أفغانستان والعراق، فقد دخل مرحلة جديدة عدّل معها أسلوبه ليتحول من أسلوب
التنظيم الهرمي إلى التنظيم العنقودي الذي
تستقل كل جماعة فيه بشكل نسبي في منطقة معينة، فتراجع دور تنظيم القاعدة بمعاقله الأساسية ليظهر بأشكال جديدة في
اليمن و
الصومال و
شمال أفريقيا ومنطقة
المشرق، مع خطط
لتكرار الهجمات على الولايات المتحدة.
سياسيا، شعرت الولايات المتحدة بوطأة وحجم الدور الذي تلعبه في الشرق الأوسط، وباتت ملفات المنطقة ضمن المواضيع غير المرغوب بها بالنسبة للناخب الأمريكي، وانعكس ذلك من خلال قرارات أمريكية بالبحث عن
مصادر بديلة للنفط في الولايات المتحدة وخارجها من أجل النأي بالنفس أكثر فأكثر عن المنطقة، كما ازداد اهتمام واشنطن بمنطقة المحيط الهادئ التي اعتبرتها المتنفس الجديد لها، بتحالفات واسعة مع دول مثل استراليا،
بمواجهة الصين.
كما خلقت واقعا اقتصاديا ألقى بثقله - وما يزال - على البنية الاقتصادية الأمريكي، فقد
أنفقت واشنطن قرابة 850 مليار دولار بشكل مباشر على العمليات العسكرية، لكن الخبير الاقتصادي الحائز على جائزة نوبل، جوزيف ستيغليتز، شكك في هذه الأرقام بكتاب له حمل عنوان "حرب الثلاثة ترليونات دولار" أشار فيه إلى التكاليف الإضافية التي ستواصل أمريكا دفعها لسنوات طويلة.
ورأى ستيغليتز في عدد من المقابلات الصحفية التي أجراها أن لتكاليف الحرب دور كبير في
الركود الاقتصادي الذي ضرب أمريكا عام 2008، وتسبب في تداعيات هائلة مازال تأثيراتها واضحة على الولايات المتحدة والعالم، مع الانكماش الاقتصادي و
ضعف الدولار وفقدان الوظائف.
كما كان للحرب تأثيرات مماثلة على العالم ككل، من باب تآكل النفوذ الأمريكي سياسيا واقتصاديا، فرغم اعتراض دول كبرى داخل حلف شمال الأطلسي "ناتو" - مثل فرنسا - على الحرب، إلا أن واشنطن تمكنت من توفير دعم دولي لها، وكان أن انشغلت الآلة العسكرية الغربية إلى درجة كبيرة ومرهقة في العمليات القتالية، ما أثّر على
أدوار لاحقة لها في السنوات التالية.
وساهم الترهل العام في الدور الأمريكي الاقتصادي والسياسي في حصول "فراغ قوة"، فبرزت أدوار دول مجموعة "بريكس" التي تضم البرازيل والصين والهند وروسيا وجنوب أفريقيا، التي ازدادت أهمية دورها الدولي مع تراجع قوة الدولار وانتقال محور القوة الاقتصادية إلى الشرق وظهور أهمية عملاتها في الأسواق المالي الدولي.
وسرعان ما ترجمت تلك الدول قدرتها السياسية عبر اعتماد
مواقف معارضة في معظم الأحيان للسياسة الأمريكية بالأمم المتحدة، وخاصة روسيا والصين، إذ شهدت فترة "الربيع العربي" تنسيقا واضحا بينهما في اتجاهات التصويت بمجلس الأمن، إلى جانب انتقاداتهما القاسية لـ"الأحادية الأمريكية" وتأكيدهما على حصول تحوّل جذري أصبح معه العالم "متعدد الأقطاب."
وتراجع النفوذ الأمريكي بشكل واضح في أوروبا الشرقية بعد موجة "الديمقراطية البرتقالية" التي عصفت بالعديد من دول تلك المنطقة، فخسر معظم حلفاء واشنطن مواقعهم، وتحركت القوات الروسية عام 2008
لمهاجمة جورجيا - واحدة من أبرز حلفاء الولايات المتحدة - كما تقف موسكو عقبة في وجه نشر
درع صاروخي أمريكي بأوروبا.
كما خسرت واشنطن قدراتها الدبلوماسية والسياسية في دول أمريكا اللاتينية التي كان الخبراء يعتبرونها "الحديقة الخلفية" للولايات المتحدة، مع وصول عدد كبير من
الرؤساء اليساريين إلى السلطة، وبروز تحالفات جديدة بينهم بدفع من شخصيات مثل الرئيس الفنزويلي الراحل، هوغو شافيز.
مواقع النشر