الضحك
أريج آل محفوظ - القافلة - مجلة أرامكو السعودية
إنه ردة فعل على قول أو مشهد معين. وردة الفعل هذه سريعة جداً وقصيرة العمر.
قد تحصل عفوياً وبشكل مفاجئ خلال مجريات الحياة اليومية، وقد يتم انتزاعها عمداً.
إنه الضحك، الذي أصبح منذ زمن طويل فناً وأدباً ودواءً ومادة للدراسات العلمية.
في هذا الملف تأخذنا أريج آل محفوظ إلى عالم الضحك. هذا الفعل -أو ردة الفعل- الواحد في كل لغات العالم وحضاراته، الملازم دائماً لحياة الإنسان، وقد أصبح في العصر الحديث صناعة عملاقة بعدما كان في الماضي حرفة، ربما لسد المزيد من حاجتنا إليه.
بداية يمكننا أن نستغني عن التعريف بالضحك. فما من إنسان إلا وعرفه وعرف قيمته. وما من إنسان إلا وتمنى المزيد منه لنفسه، وكذلك للحالة النفسية الجميلة والمريحة التي تنشأ عنه رغم اقتصار عمرها على لحظات محدودة.
وقد قيل قديماً: اضحك تضحك لك الدنيا، وهذا حقيقي. فالتجهم يثقل على الفرد نفسه ومن حوله، أما الابتسام والضحك فينشران الإحساس بالفرح والبهجة. والسعي الدائم عند الإنسان للوصول إلى الفرح والبهجة، هو ما يجعله يجد في الضحك تحقيقاً ولو سريعاً ومؤقتاً لمبتغاه.
والمدهش في الضحك هو أنه على الرغم من قصر عمره الذي لا يدوم عادة أكثر من لحظات معدودة، وعلى الرغم من أنه موحَّد لغوياً عند كل شعوب العالم قديماً وحديثاً، فإن أوجهه تتعدد إلى درجة يصعب إحصاؤها، والأجوبة التي تثيرها أسئلته تحتاج إلى تقاطع مجموعة كبيرة من العلوم والفنون تبدأ بـ الفلسفة وعلم النفس والطب وعلم الاجتماع والتاريخ لتنتهي بالفنون التشكيلية والسينما والمسرح والتلفزيون.
لماذا نضحك؟
هناك ألف لون ولون من الضحك. وهناك ألف سبب وسبب. وقد حاول الباحثون حصر أسباب الضحك. فهناك الضحك دهشةً عند حدوث مفاجأة ما، والضحك عند مشاهدة الفشل البسيط الذي يُمنى به الآخرون. وقد نضحك أيضاً لحدوث بعض المفاجآت غير المتوقعة أو الصدف العارضة في بعض المواقف. وكذلك نضحك لدى مشاهدة مفارقة جديدة أو سماع نكتة مثلاً. ومن الأحوال الأخرى التي تجعلنا نضحك -بخلاف التعبير عن البهجة والسرور- الاستجابة لضحك شخص آخر، أو أثناء الاشتراك في لعبة جماعية. وقد يكون الضحك أيضاً استجابة للمس شخص آخر بعض مناطق الجسم على سبيل الدعابة، وهذا ما يسمَّى الدغدغة.
إلى ذلك، ولأن الضحك ينتقل بالعدوى، يستخدم الضحك نفسه لصناعة المزيد منه. فكلنا نلاحظ أن مخرجي الكوميديا التلفزيونية يضيفون إلى المشاهد المصورة صوت ضحك مستعار لحث المتلقي على الضحك. وقد التفت الجاحظ إلى هذه الظاهرة، وجلاها في قوله: ضحك من كان وحده لا يكون على شطر مشاركة الأصحاب .
ومن استخدامات الضحك أيضاً التعبير عن السخط والضيق والتفاعل على المستوى الاجتماعي والسياسي. فهو سيف مسلَّط على رقاب الخارجين على الآداب العامة، وعلى الذين يفرضون مهابتهم قسراً على الآخرين.
وفي بعض الحالات لا يكون الضحك تعبيراً عن السرور، فهناك الضحك الاجتماعي لمجاملة الآخرين. ففي اليابان مثلاً يُنظر إلى الضحك على أنه واجب اجتماعي، وعلى الإنسان الذي ألمت به كارثة أن يرسم على وجهه ابتسامة وهو يتلقى مواساة الآخرين، وهذا ما يسمَّى أحياناً قناع السعادة أو ما جعله إحسان عبد القدوس عنواناً لروايته الشهيرة: العذاب فوق شفاه تبتسم، أو ما ورد على تراث العرب شر البلية ما يضحك، أو تعبير المتنبي عن بعض المضحكات بقوله: ولكنه ضحك كالبكاء. ونذكر في هذا الإطار أحد المثقفين الفرنسيين الذي قام بجولة عربية قبل عدة سنوات، دعا فيها المنتديات الثقافية إلى الرد على انتشار الأسلحة النووية بالضحك!
كل هذه المواقف وغيرها لا يمكن أن يكون الضحك فيها وليداً لحادثة سارة. بل ثمة حالات ومواقف مَرَضيَّة ينم فيها رد الفعل بالضحك عن الاضطراب النفسي المؤقت مثل الضحك الهستيري، ونوبات الضحك البديلة عن التشنج التي لا تكون خلالها سيطرة العقل كاملة على السلوك. ومنها الضحك نتيجة لمواد تؤثر في الأعصاب مثل غاز أكسيد النتريك المعروف بغاز الأعصاب، والمستخدم في الحروب الكيميائية، أو تعاطي الكحول الذي تنتج عنه حالة انشراح زائفة. ويصادف الأطباء في العيادات النفسية بعض الحالات التي يكون فيها السرور المَرَضي واضحاً ولا يملك الطبيب المعالج إلا أن يتفاعل معها بانشراح مماثل، مثل حالات الهوس الذي يسمَّى أحياناً لوثة المرح، وحالات أخرى لا تسبب للطبيب المعالج هذا الإحساس على الرغم من أن المريض يقهقه عالياً ولكن ضحكاته لا تثير أي تعاطف، مثل مرضى الفصام العقلي.
ضحك الأطفال وضحك الكبار
ولعل أجمل ألوان الضحك هو ضحك الأطفال، إنه محبب إلى درجة أنه ينتقل بسرعة إلى الكبار. ولكن أسباب ضحك الصغار تختلف كثيراً، وهي عديدة. فكل ما يدخل السرور إلى قلب الطفل يجعله يضحك، رؤيته لأمه وجلوسه في حضنها عيد، واستقباله لوالده بعد انتهاء العمل فرحة، وحصوله على طعامه المفضل أو ثياب جديدة وألعاب متنوعة كلها فرص سعيدة للطفل. وتختلف أسباب الضحك عند الأطفال أيضاً باختلاف العمر، فالرضيع الصغير نراه يبتسم عفوياً أحياناً وربما يكون نائماً أو يقظاً، بينما يضحك الرضيع الأكبر سناً عندما يداعبه شخص ما، وقد يكون سبب الضحك لمس مناطق معينة كالبطن أو تحت الإبط أو أخمص القدمين أو العنق إذ أن الأعصاب التي تنبّه مراكز الدماغ المسؤولة عن الضحك يختلف توزعها في الجسم مثلما تختلف عتبة الضحك من طفل لآخر.
ويضحك الأطفال قرابة 400 مرة في اليوم، أما الكبار فلا يضحكون أكثر من 15 مرة، والمكتئبون قد لا يضحكون على الإطلاق.
الضحك ظاهرة إنسانية، أو ظاهرة خلقية؟
ثمة نظرية تقول إن الإنسان هو الكائن الحي الوحيد الذي يضحك ويبكي، لأنه يستطيع أن يرى فرقاً بين ما ينبغي أن يكون وما يحدث فعلاً.. فهل صحيح أن الإنسان وحده يضحك؟
يرى فلاسفة العصر الحديث ومنهم (هنري برجسون) أن الإنسان هو الوحيد الذي يعرف كيف يضحك بل أيضاً كيف يُضحِك . فيما يعبِّر عباس محمود العقاد عن الإنسان بقوله إنه الضاحك المضحك . وينتهي الفلاسفة إلى أن الضحك ظاهرة إنسانية، لا نظير لها عند الحيوان، وأن الإنسان هو الضاحك المضحك. بينما يرى علماء النفس أننا ما دمنا لا نعرف لغة الحيوان والطير فلن نعرف أبداً إذا كانت تضحك أم لا.
ولم يقف علماء الأحياء مكتوفي الأيدي حيال هذا السؤال. وكانت البداية مع مقارنة الأصوات المتكررة التي تصدرها القردة العليا عند دغدغتها، بضحك الإنسان. وقيل بوجود تشابه بينهما. ولاحظ علماء آخرون حركات عند القردة سمّوها الوجه اللاعب، إذ يتكرر خفض جفني العين وفتح الفم إلى أقصى اتساع فتنكشف الأسنان، وعدوا ذلك شبيهاً بالابتسام. أما عالِم الضحك روبرت بروفين، فقد وجد اختلافاً واضحاً بين ضحك الإنسان وما يعتقد أنه ضحك قردة الشمبانزي. وقد لا يكون الأمر كذلك فالصوت الذي يصدره الإنسان حين يضحك هو: هاهاها أما القردة العليا فتضحك بصوت آخر: أهـ أهـ أهـ.
وقد اهتم فلاسفة بارزون بالضحك وكانت لهم آراؤهم فيه. منهم أرسطو الذي اعترف بضرورته مع تأكيده الحاجة إلى الاعتدال، وأفلاطون الذي ذكر المضحكين والمضحكات عرضاً في سياق البحث عن المدينة الفاضلة التي أراد أن يقصرها على الأفاضل. لكننا عندما نذكر التوحيدي، فإننا نقف أمام عالِم عربي وفيلسوف مميز له فلسفته الخاصة في الضحك؛ ذلك أن تفسيره للضحك على مستوى عالٍ من العمق والذكاء.
تفسير أبو حيان التوحيدي للضحك هو أنه قوة ناشئة من تفاعل قوتي العقل والغريزة في الإنسان، وهو حالة من أحوال النفس تنشأ عندما يرد إليها استظراف أي شيء طارئ يجعلها تتعجب، ويقول في البصائر إياك أن تعاف سماع هذه الأشياء المضروبة بالهزل الجارية على السخف، فإنك لو أضربت عنها جملة لنقص فهمك وتبلد طبعك .
وعلم الضحك علم حديث. فالدراسة العلمية لتأثير الضحك لم تبدأ إلا في ستينيات القرن الماضي بدأها طبيب الأعصاب وليم فراي في جامعة ستانفورد الأميركية، الذي يعد مؤسس علم الضحك.
الجسم الضاحك شكلاً وتأثيراً
عندما يضحك الإنسان تتقلص عضلات الوجه ولا سيما حول الفم مؤدية إلى شد الشفتين نحو الجانبين، وتتكون تجاعيد السرور على جانبي الوجه. وقد تظهر حفرة صغيرة على كل من الجانبين مكسبة الوجه جمالاً خاصاً. ومن ثم ينفتح الفم مظهراً الأسنان حسب شدة الضحك. ويرافق ذلك صدور صوت تختلف شدته من شخص لآخر، بسبب خروج الهواء زفيراً من الحنجرة واهتزاز حبال الصوت ومصادر الصوت الأخرى. إن خلاصة تقلصات عضلات الوجه تؤدي إلى سحنة خاصة تنم عن الفرح. وتشارك العينان في الضحك حيث تنهمر الدموع منهما تعبيراً عن شدة الفرح، لأن عضلة الضحك تضم العضلات المحيطة بكيس الدمع. فنحن لا نذرف إلا الدموع التي حبسناها. كما تحتقن الأوعية الدموية في الوجه وتمتلىء دماً فتظهر حمرة الوجنات. ويتبدَّل التوازن الهرموني خلال الضحك وكذلك عمليات الاستقلاب، ويزيد الضغط داخل البطن وقد يؤدي إلى انفلات مصرة البول عند البعض. وقد يتحرك الإنسان حركات معينة أثناء الضحك كأن يحرك يديه أو يصفق بهما أو يمسكهما و يضعهما أمام صدره أو فمه، أو قد يقفز فرحاً أثناء الضحك الشديد. وقد يدخل بعض اللعاب إلى الرغامى ويشرق المرء بريقه. أما الأطفال فتجد مثلاً أن الرضيع يبتسم ويضحك ويصدر أصوات المناغاة والمكاغاة عندما يداعبونه.
ويلفت الانتباه ما كتبه ليوناردو دافنشي عن الانفعال الإنساني في رسالة في فن التصوير عام 1551م؛ إذ لاحظ دافنشي أن لا فرق بين الوجه الذي يبكي والذي يضحك في العينين أو الفم أو الوجنتين، لكن الفرق البارز يكون فقط في صلابة حواجب العينين إذ يقتربان لدى من يبكي ويرتفعان لدى من يضحك.
أما الآثار الصحية للضحك فتتضمن تنشيط التنفس بشدة، فيحدث تبادل متسارع بين الهواء المستهلك والهواء الغني بالأوكسجين. ومن نتائج ذلك حفز الحرق في الجسم وتسارع ضربات القلب في البداية، لكن سرعان ما تتباطأ بوضوح، فينخفض الضغط الدموي وتسترخي العضلات الهيكلية وتتحسن تروية العضلات بالدم عموماً. وتقوَّض هرمونات الكرب وتنشط غدد الهضم. وتتلقى شرطة الجسم الخاصة إنذاراً. هكذا يمكن أن تتزايد في الدم المواد التي تكوِّن المناعة. وأخيرا تُطلَق هرمونات السعادة المسكِّنة للألم الأندروفينات. وهي لا توجد في الدم عادة إلا في حالات نادرة (على سبيل المثال بعد جري مديد).
الضحك والطب
وأصبح الضحك والفكاهة من الوسائل التي يستعين بها الأطباء لعلاج مرضاهم. ويرى بعض الخبراء أن لإضحاك المرضى وإدخال البهجة في نفوسهم أثراً مباشراً في أجهزة المناعة الطبيعية في أجسامهم. إذ يؤكدون أن فائدة الضحك لا تقتصر على تحسين حالة المرضى النفسية، بل تتجاوزها بشحذها قدرة الجسم على مقاومة الأمراض. وقد ذكر فريق من الباحثين الأمريكيين أخيراً أنهم يبحثون في أمر يستهدف تغيير طريقة علاج الأطفال جذرياً، وإن جانباً من هذه الأبحاث يسعى في إمتاع الأطفال بعرض أفلام مضحكة ودراسة تأثير الضحك فيهم.
وأوضحت الباحثة مرجريت ستوبر، التي تعمل في مركز جونسون لأمراض السرطان التابع لجامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس أن فريق الخبراء الذي تنتمي إليه استنتج أنه يتعين على أطباء الأطفال وصف الضحك لمعالجة الأطفال. فمنذ اليوم الذي أعلن فيه نورمان كوزيتز أنه قد أضحك نفسه كثيراً ليستشفي من مرض حلَّ به، خرج العلماء بنظرية مفادها أن الضحك يعزِّز كثيراً جهاز المناعة. وليست المهمة مجرد سرد النكات للمرضى بل صار الأطباء يستخدمون المرح وسيلة لتمكين مرضاهم من التعامل مع مشكلات صحية معينة.
هذا وقد أسست لهذا الغرض غرف قهقهة زُوِّدت بوسائل تشجع على الضحك مثل: الكتب والمجلات والأشرطة والعروض والأفلام. ويستخدم في هذا المجال أيضاً العلاج الجماعي مثل رواية النكات وسط مجموعة من الناس. وقد تابع كثير من الممرضات وأطباء الأطفال دورات تأهيل لإتقّان هذا العلاج. وفي ألمانيا، عدد من الجمعيات تخرِّج مهرجين سريريين أو دكاترة مهرجين .
وفي إطار المؤتمر الدولي الذي يُعقد كل سنة وعنوانه: الفكاهة في المعالجة يستمع المؤتمرون إلى تقارير عن تقدم هذا الخط من الطب. فالضحك يُحسِّن نظام المناعة. فزيادة إنتاج خلايا تسمى (T-cells) وهي مسؤولة عن مقاومة العدوى وتحفز الجسم على الشفاء السريع وهي من اللمفاويات، وذات دور كبير في مقاومة السرطان وأمراض القلب والأوعية الدموية. ويؤدي الضحك إلى تزايد الخلايا القاتلة الطبيعية التي تلعب دوراً مهماً في التخلص من الخلايا المتضررة والفاسدة. ويخفض الضحك نسبة الكوليسترول. ويحفز الضحك الجسم على إنتاج مسكن الألم الطبيعي الذي ينتجه الجسم. ويخفض الضحك إفراز المواد الكيميائية المرتبطة بحالات التوتر العصبي، ويساعد في تخفيف توتر العضلات. وجرعة يومية من الضحك مفيدة للقلب، ذلك أن الضحك مثل التمارين البدنية يجعل الأوعية الدموية تعمل بكفاءة أعلى.
لقد أكد باحثون في جامعة ميريلاند الأمريكية أن الضحك يزيد انبساط الأوعية الدموية فتسمح بتدفق الدم بسهولة إلى أعضاء الجسم ولا سيما القلب والمخ فتقلل التوتر الذهني والعصبي. وأوضح الباحث مايكل ميلر أن حصول الشخص على قسط من الفكاهة والضحك مفيد جداً. إذ ترتبط مشاعر السعادة بانخفاض مستوى هرمون الكورتيزول المسبب للتوتر.
وأضاف أن الضحك والسرور يساعد أيضاً في مرونة الغشاء المبطن للأوعية الدموية، فينتظم تدفق الدم ويقل حدوث الجلطات، ويفرز الجسم مواد كيميائية لمقاومة الجروح والعدوى بالجراثيم. ويستطيع من يصابون بأزمة قلبية تجنّب الإصابة بأزمة ثانية والتعرض لارتفاع ضغط الدم، والاستغناء عن تعاطي كثير من الأدوية إذا ضحكوا نصف ساعة كل يوم. ويفيد الضحك مرضى التهاب الشعب الهوائية وأزمات الربو؛ إذ يزيد نسبة الأكسجين في الدم. و يقلل الشخير.
وللضحك فوائد كبيرة في علاج بعض الأمراض النفسية، مثل: حالات الاكتئاب والقلق. ويرى الأطباء أيضاً أن المرح داخل مراكز العلاج مفيد للأطباء والممرضين أيضاً، لأنه يساعدهم في التخلص من الضغط العصبي الناتج من طبيعة عملهم الشاقة. وأثبتت الدراسات أن الضحك يرفع مستوى الأداء العقلي، وقدرة الإنسان على الاحتفاظ بالمعلومات أطول مدة ويقوي الذاكرة، ويحد آثار الشيخوخة، ويزيد القدرة على التأمل والاسترخاء، وهو دواء مضاد للتشاؤم واليأس والغضب. بل يساعد الضحك والمرح في جعل العلاقة الزوجية أكثر استقراراً وراحة؛ لأن الضحك يسهم في نزع فتيل التوتر.
ولكن قد يموت المرء من الضحك فعلاً، وهذا أمر معروف. إذ يروي المؤرخون عن أنواع من التعذيب الوحشي خلال حرب الثلاثين عاماً على سبيل المثال. كان الآسرون يطلون بالملح قدمي الأسير ويتركون الماعز يلعقهما حتى يموت المعذب من الضحك فعلاً.
يُضعف الإغراق في الضحك القدرة على التحكم بالنفس، كما هو يشيع في اعتقاد العامة. وجاء في دراسة نشرتها مجلة لانسيت الطبية أن الضحك الشديد يضعف قوى الإنسان وقدرته على التحكم في ركبتيه. ولكن هذا لا يحدث في حال النكات التي تثير الضحك المعتدل أو الابتسامة فقط. ولا بد من الإشارة إلى أن نوبات الضحك بعد الطعام قد تكون خطيرة.
الضحك في التراث الأدبي
لأن الإنسان كان دائماً على ما يبدو بحاجة إلى الضحك أكثر مما يحصل عليه من مفارقات الحياة اليومية ومجرياتها، تولى الأدب والفن مهمة إشباع هذه الحاجة.
فأدب الفكاهة من الآداب الشيقة والممتعة التي لا يخلو منها الموروث الثقافي لأية حضارة. فهو نزهة النفس وربيع القلب ومرتع السمع ومجلب الراحة ومعدن السرور . ومن حكم العرب قديماً ما يقول: روِّحوا القلوب ساعة بعد ساعة فإن القلوب إذا كلَّت عميت .
ففي الشعر العربي على سبيل المثال، يمكننا أن نقول إن فناً مستقلاً اعتمد الضحك والإضحاك سبيلاً لتحقيق مبتغاه ألا وهو فن الهجاء. وفي النثر لمع الكثيرون ممن أفردوا للضحك والفكاهة مؤلفات كاملة مثل البخلاء للجاحظ و الظراف والمتماجنون لابن الجوزي، و الفاشوش في حكم قراقوش لابن مماتي. لا بل إن الفكاهة فرضت نفسها حتى على الكتَّاب الذين التزموا الجد كما في عيون الأخبار لابن قتيبة و الإمتاع والمؤانسة لأبي حيَّان التوحيدي .
إن كنَّا قد أمللناك بالجد والاحتجاجات، فإننا سننشطك ببعض البطالات، وبذكر العلل الطريفة والاحتجاجات الغريبة، كان يقول الجاحظ.
وإلى جانب الأدب، اشتهر في التراث الشعــبي مجمـــوعة مــــن الظرفــــــاء والمضحكين؛ لكن أشهرهم جميعاً هو بطلنا العربي الشعبي جحا.
تدور حكايات جحا في إطار معاناة من الفقر ولوم الزوجة دوماً، وسيطرتها على كثير من المواقف، وكان لجحا ابن ينشئه بحكمته ويحاوره بفكاهته وسخريته. وخير ما يصور ارتباط جحا بالأحياء تعاطفه مع حماره، الذي جعل منه صديقاً أوشبه صديق يتحدث إليه، ويصب في أذنيه سخرياته اللاذعة من الحياة والأحياء. ولا يغيب عن بالنا أن جحا العربي شخصية حقيقية، فنسبه ينتهي به إلى قبيلة فزارة العربية. ولد في العقد السادس من القرن الأول الهجري، وقضى الشطر الأكبر من حياته بالكوفة. وجحا شخصية مركبة وليست بسيطة. وقد طرحت شخصيته لا لتتحدث عن هموم العرب فقط، بل عن هموم العالم بأسره. فهي متكررة في كل الأمم والشعوب كالترك والفرس وحتى الغرب، فالمهرج جوكر من بدلاء جحا، وقد عنيت الدراسات المقارنة بهذا عناية كبيرة.
وفي الأدب العربي الحديث
لم يخلُ أدبنا العربي من روح الفكاهة، وتناوله مشكلات فئات عديدة من المجتمع باستخدامه أسلوب الفكاهة. فمن طرائف الشعراء والأدباء، والمصريين، والعاملين، والمهجريين، والقضاة، والنساء والجواري إلى فئة الأذكياء والمغفّلين والظرفاء، إلى طائفة البخلاء والطفيليين وغير ذلك. والسخرية تعد أرقى أنواع الفكاهة، لما تحتاج إليه من ذكاء، وخفة، ومهارة، وخفاء، ومكر. ولقد استخدم الأدباء العرب فن السخرية ليربوا في الناس ملكة النقد، ويوقظوا فيهم الوعي بأخطائهم وحماقتهم فتهكّموا من المغرور، والمغفل، والجاهل، والبخيل، والجبان، والفوضوي، والكسول.
في العصر الحديث أديب فكه ساخر، لبق، بارع النكتة، حلو الحديث، إنه الأديب عبد العزيز البشري. يقول عنه د. شوقي ضيف: الحق أن البشري أديب معروف، يحسن صناعة الفكاهة قولاً وكتابة غاية الإحسان ولا نبالغ إذا قلنا إنه ترك لنا بكتبه متحفاً للضحك من كل شيء، ومن كل لون، لذعاً ومرحاً ودعابة .
إن رواية الضحك وغيرها من روايات مثل حجر الضحك لهدى بركات وغالب هلسا، وأعمال إميل حبيبي ولا سيما الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل و أخطية ليست أعمالاً فكاهية على الرغم من الكثير من المواقف والمشاهد المتفكهة والساخرة والتورية الهزلية، لكنها اهتمت بالضحك لتناقش دور بطلها في الحياة وتأثيره في التفكير والوجدان. وهناك أعمال تغيب عنها الرؤية الفلسفية والنظرية بشأن الضحك، ولكنها توحي بهذه الرؤية وتلمح إليها التاريخ السري لنعمان عبد الحافظ لمحمد مستجاب، وهناك أعمال تجمع بين الرؤية الفلسفية عن الضحك وحالة التفكه والسخرية مثل رواية حبيبي المذكورة.
ومن الشعوب التي اشتهرت بالفكاهة الشعب المصري، المشهور من قديم الزمن بالقفش والنكت. ولعل نوادر قرقوش التي شاعت في مصر، والتي دونت في كتاب الفاشوش في حكم قراقوش خير مثال عنها. ومن أدباء النكتة وشعرائها في مصر، حافظ إبراهيم وعلي الجارم وعبد العزيز البشري، وكانوا يمتازون بالنكتة اللطيفة واللاذعة والصارخة.
ومن مصر إلى سورية التي يمكننا القول إن شعبها اشتهر بالفكاهة أيضاً، يدل على ذلك صدور العديد من المجلات الضاحكة أو الساخرة في سورية، ولعل أشهرها مجلة المضحك المبكي، والتي أصدرها المرحوم حبيب كحالة عام 1928م، وهي بحق رائدة المجلات الساخرة الكاريكاتورية في الصحافة العربية.
الكاريكاتور..
والكتابة الساخرة
الكاريكاتور ليس للضحك فقط. مكانه على صفحات الجرائد والمجلات وفي التلفزيون والإنترنت. وهو فن ساخر هادف يتناول عدة قضايا، ويتعامل مع الضحك. فمن منا لم يستغرق ضحكاً على رسم كاريكاتيري لأحد رسامي هذا الفن، وإن كان أحياناً يدعو إلى البكاء..
هل تأملتم لوحة الفنان الراحل ناجي العلي راسماً بها مجرد مرآة مكتوب فوقها: مطلوب؟ وهل تأملتم رسوم الراحل مؤيد نعمة وما بها من صدق وعفوية وألم رغم ومضات الضحك؟ ألم تضحكوا كثيراً على رسوم خضير الحميري وهو يضحك ويدين مشكلاتنا الاجتماعية.
لهذا الفن المركب من عنصري التشكيل والكوميديا، أو السخرية جذوره القديمة الضاربة في أعماق التاريخ. غير أنه بلغ ذروة نضوجه واستقراره الذي نعرفه حالياً، على يد الفنان هونوريه دوميه في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ولهذا الفن عدة أقسام، وله أعلام وفرسان يعبرون به عن قضايا الأمة على نحو جاد ومحترم؛ واغتيال الفنان ناجي العلي يؤكد أن للكاريكاتير قيمة كبيرة في التأثير والمقاومة.
أما الكتابة الساخرة فنجدها على صفحات الجرائد وربما المجلات. إنها فن راق جداً، وهي تعد من أرقى أنواع الفكاهة. وعلى الرغم من امتلائها الظاهر بالمرح والضحك والبشاشة، إلا أنها تخفي أنهاراً من الدموع. إنها مانعة صواعق الانهيار النفسي. هي أساساً -وإن تعدد تعريفها- ثورة وتمرد فكري ضد البداهة التقليدية الاجتماعية والسياسية. إن ما يكتبه ويخطه الكاتب الساخر بسخريته اللاذعة المستمدة من واقعه البائس، يكوِّن ملامح لوحة الغد المشرق المفعم بالأمل والحرية، وهو العنوان المفقود لكل الباحثين عن حياة أخرى، أكثر تألقاً وجمالاً.
وعلى المسرح وفي السينما
ونقفز فوق موضوع الإضحاك في الغناء العربي، لأننا تناولناه سابقاً وبالتفصيل على صفحات القافلة بعنوان حسُّ الفكاهة في الأغنية العربية (المجلد 55 العدد 4)، لنشير إلى أن السينما العربية قدَّمت أفلاماً فكاهية لا تُنسى، منها: غزل البنات، و الآنسة ماما، و سلامة في خير، و سلفني 3 جنيه، و ألف ليلة وليلة و العزِّ بهدلة و علي بابا والأربعين حرامي.. وكثير غيرها.
ولا يمكن حصر نجوم الإضحاك في السينما العربية، من نجيب الريحاني إلى عادل إمام، ومن كشكش بيك إلى إسماعيل ياسين وشكوكو وفؤاد المهندس وشرفنطح وغيرهم. وصولاً إلى جيل الراحل علاء ولي الدين والموهوبين (محمد هنيدي، محمد سعد، .. إلخ).
أما المسرح العربي فإنه لم يخلُ من الإضحاك أيضاً. فمن منَّا لايتذكر مسرحية مدرسة المشاغبين أو العيال كبرت، من منَّا ينسى مسرحية باي باي لندن.
ونشأت فرق القطاع الخاص المسرحية في الوطن العربي، وضمت أقطاباً في الوطن العربي، وهي: فرقة عبد رب الحسين عبد رب الرضا في الخليج، وفرقة دريد لحام في سورية، وفرقة عادل إمام في مصر. ومن أعلام هذا التيار في المسرح العربي: نجيب الريحاني، وعادل إمام، وسعيد صالح، وحسن مصطفى، ودريد لحام، وعبد رب الحسين عبد رب الرضا، ويوسف العاني (الذي يعد بحق رائد المسرح العراقي)، وحسن علاء الدين شوشو الذي لمع مسرحه في بيروت خلال الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، وصولاً إلى مسرح زياد الرحباني الذي يمثِّل ذروة الاعتماد على الإضحاك في نقد قضايا ومسائل بالغة الخطورة ومثيرة للحزن مثل الحالة الطائفية والاقتتال الأهلي في لبنان.
وفي السعودية يشتهر مسلسل طاش ما طاش الذي استمر عرضه لأربع عشرة سنة، حتى رمضان الفائت، وقد حقق شهرته على أساس سخونة الكوميديا الاجتماعية التي أبدع فيها بطلاه عبد الله السدحان وناصر القصبي وبإدارة المخرج عبد الخالق الغانم.
وفي الآداب والفنون الغربية
واشتركت الآداب والفنون في الغرب في أنها أفرزت للأعمال المضحكة حيزاً خاصاً بها، كان يتسع ويشتد زخماً باتساع وتنشيط العطاء الثقافي بشكل عام.
فبالتزامن مع نهضة المسرح الفرنسي، وإلى جانب المسرحيات المأساوية التي كتبها راسين، ظهر موليير الذي اقتصر إنتاجه تقريباً على كتابة المسرحيات الساخرة والمضحكة مثل الطبيب الوهمي، البرجوازي الكريم.. التي سخر فيها من الحياة الاجتماعية في عصره. واحتل هذا المسرح الساخر مكانته المرموقة في فرنسا حتى أنه أعطى اسمه لأكبر المسارح الوطنية في باريس لا كوميدي فرانسيز (أي الكوميديا الفرنسية) (فُكاهة).
وحتى اليوم، لا تزال هناك عشرات المسارح في فرنسا التي تقتصر عروضها على المسرحيات المضحكة، التي وإن كانت تتمتع بقيمة أدبية أقل من أعمال موليير مثلاً، فإنها تشهد إقبالاً واستمرارية وتعرف اليوم باسم مسرحيات البولفار .
وكما هو حال المسرح، فقد شهدت السينما منذ انطلاقتها نجاحات تاريخية في مجال الإضحاك، ونجوماً اقتصرت نجوميتهم على الأفلام المضحكة. مثل شارلي شابلن والثنائي لوريل وهاردي في السينما الأمريكية، ولويس دوفونيس وبيار ريشار وبورفيل في السينما الفرنسية.
وإلى جانب هؤلاء الكلاسيكيين، يمكن القول إن معظم المخرجين والفنانين يقدمون بين الحين والآخر على إنتاج أفلام كوميدية، حتى أن نسبة هذه الشريحة من الأفلام باتت تشكِّل جزءاً أساساً من شخصية فن السينما بشكل عام.
ولا يمكن اختتام الحديث في هذا الجانب من دون الإشارة إلى الكوميديا التلفزيونية التي تحمل الضحك إلى بيوتنا. فقد شهدت هذه الفئة من الأعمال رواجاً ونجاحاً عالمياً جعل منها جزءاً من الحياة اليومية للملايين.
فراندز، فرايزر، بيكر، كوسبي، مالكوم في الوسط، مالكولم وإدي... أسماء أصبحت أقرب إلى أسماء أفراد العائلة المشاهدة للتلفزيون.. فهذا النوع الجديد من الكوميديا هو غالباً ما يأتي على شكل مسلسل، أبطاله هم أنفسهم، نتابعهم في المشكلة التي تعترضهم اليوم، نضحك لسذاجتهم وغبائهم ومكرهم وذكائهم.. وننتظرهم في حلقة مقبلة. والحلقات قد تتوالى لسنوات وسنوات، فيكبر أبطال الكوميديا وتتبدل قضاياهم ونرافقهم بكل سرور في رحلاتهم الطويلة هذه.. إلى أن يتوقفوا عن إضحاكنا، أو إلى أن نجد كوميديا تضحكنا أكثر.
بين الضحك والابتسام
جاء في فقه اللغة وأسرار العربية للثعالبي تحت عنوان: في درجات الضحك، أن التبسّم أولى درجات الضحك، ثم الإهلاس وهو إخفاؤه، ثم الافترار والانكلال، وهما الضحك الحسن؛ ثم الكتكتة أشد منهما، ثم القهقهة؛ ثم القرقرة؛ ثم الكركرة؛ ثم الاستغراق؛ ثم الخطخطة، وهي أن يقول: طيخ؛ طيخ؛ ثم الإزهاق والزهزقة، وهي أن يذهب الضحك به كل مذهب.
والواقع أن التبسم هو نسيب الضحك. وهناك اختلافات كثيرة ما بين الاثنين.
فالتبسم قد يكون جزءاً من الطباع الراسخة دائماً في نفس فرد معين. فتراه بشوشاً دائماً. يرسم علامة الرضا هذه رغم ما يواجه في حياته من صعوبات. أما الضحك فهو مفاجئ يبدأ بسرعة وينتهي بسرعة، وهو مرتبط بحدث أو بظرف آنٍ محدد بدقة.
وفيما تكثر نسبة الابتسامات الزائفة خاصة في مجال المجاملات الاجتماعية، فإن نسبة الضحك الزائف أو المصطنع تبقى أقل منها بكثير. وفي المقابل فإن اكتشاف الضحك الزائف يبقى أسهل بكثير من اكتشاف الابتسامات الزائفة.
غرائب علمية عن الضحك
الضحك مسألة جادّة.
الضحك عدوى ووباء غير مؤذٍ.
الضحك ظاهرة اجتماعية قلّما تحدث حين يكون الإنسان وحيداً.
هذا ما تجمع عليه الدراسات النفسية والاجتماعية والإحصائية التي تناولت الظاهرة.
وإذا كان هذا مدعاة للدهشة والاستغراب، فإن مطالعة الدراسات المعمّقة في هذا المجال تنّم عن أمور أغرب مما نتصّور عن الضحك.
في مجلة التاريخ الطبيعي (Natural History)، صدرت للباحث الاجتماعي روبيرت بروفين دراسة، في عدد ديسمبر 2000م، جاء فيها بعض أغرب ما يمكن أن يخطر في البال، عن الضحك.
• حين نسمع شخصاً يضحك، يتحرك في دماغنا تفاعل ينشط معه مركز الضحك، وقد نبدأ بالضحك من دون أن نعرف سبباً.
• لا يعرف الضحك حدوداً في اللغة. فهو مفهوم في العالم كله. وإذا ضحك ياباني، فهم الهندي والعربي والأرجنتيتي، أنه يضحك. الضحك لغة عالمية مطلقة.
• أثبتت دراسة إحصائية تناولت 1200 شخص، نظَّمها بروفين، أن معظم ضحك البشر في المحادثة، لا ينتج من نكات أو طرائف، بل من كلام قد نستغرب فيما بعد لماذا ضحكنا عند سماعه.
• تبين أن المتكلم يضحك أكثر من المتلقي (المستمع) بنسبة %50 من الحالات.
• إذا أبعدت عن الإنسان كل وسائل الاتصال (التلفزيون والهاتف والسينما والصحف)، وكان وحده فنادراً جداً ما يضحك، حتى لو كان غاية في السعادة والمرح.
• تضحك النساء أكثر من الرجال، لا سيما حين يحادثن رجالاً. ويضحك الرجال معظم الوقت وهم يحادثون رجالاً، ويا للغرابة، نادراً ما يضحكون وهم يحادثون النساء.
• محادثة الرجل لامرأة، هي الحالة الاجتماعية الوحيدة التي يزيد فيها ضحك المتلقي (المرأة) على ضحك المتكلّم (الرجل).
• في المدارس المختلطة، في الغرب، يكون الشخص المضحك في الصف، في الغالب الأعم، صبياً. ونادراً ما يكون فتاة.
• قد يكون سبب هذا الفرق كون الرجل في معظم المجتمعات، في موضع المسيطر، ولذا تضحك المرأة أكثر، من باب الاسترضاء. فيما يحجم الرجل عن الضحك، إثباتاً لسلطته.
الدغدغة تحتاج إلى اثنين
لماذا يضحك الإنسان إذا دغدغه أحد بأصابعه في بطنه، بينما لا يضحك إذا تولى هو الدغدغة بنفسه ولنفسه؟
هذا السؤال حيّر البشرية منذ القدم. وفي تجربة علمية، كوَّن العلماء ثلاث مجموعات، الأولى دغدغ فيها كل شخص زميله فضحك الجميع، وفي المجموعة الثانية دغدغ فيها كل شخص نفسه فلم يضحك أحد، وفي المجموعة الثالثة تولَّى جهاز آلي دغدغة المجموعة فضحك من المجموعة الثالثة النصف فقط.
ولأن معظم المواقف المثيرة للضحك مواقف اجتماعية، وهي تشتمل على علاقات بالآخرين، أو تتطلب على الأقل حضورهم، فلا بد أن يتولى الدغدغة شخص آخر. ويؤكد لنا ذلك أننا نضحك أكثر إذا كنا نعرف من يدغدغنا، ولا نضحك كثيراً إذا كنا نجهله. وهذا أمر يتساوى فيه كبارنا وصغارنا.
العلاقة الغامضة بين النكتة والضحك
لاحظ بعض الباحثين أن بعض من يلقون النكات على المستمعين يضحكون أكثر منهم ربما لكي يجعلوهم يضحكون بالعدوى، فالضحك بلا شك عدوى. وأقرّ بعض الباحثين في علم النفس أن الفعل يسبق الانفعال؛ فالإنسان يضحك على النكتة بمجرد إلقائها لأنه مهيأ لذلك قبل أن يستوعبها، ونحن نضحك أيضاً على النكات السخيفة والنكات القديمة التي سمعناها كثيراً من قبل. وقد يكون الضحك لسبب آخر غير النكتة التي ألقيت قبل الضحك مباشرة، فلربما كانت النكتة بمنزلة العامل المحفز. أما السبب الحقيقي للضحك فهو التفاعل الاجتماعي، فالإنسان لا يضحك وحيداً وإلا اتهم بالجنون. والنسبة بين ضحك الإنسان مع آخرين وضحكه وحيداً هي ثلاثون على واحد.
إذن، الضحك ليس استجابة غريزية فطرية للفكاهة كالإجفال عند الألم والرعشة عند البرد. ولكنه شكل من أشكال الارتباط الاجتماعي الغريزي تقدح الفكاهة زناده. ويؤكد ذلك أيضاً العالم روبرت بروفين، وهو عالم متخصص في دراسة الضحك، حيث وجد أن %80 من ضحك الناس خلال حديثهم العادي ليس له علاقة بالفكاهة.
يقول قانون التطور: إن البقاء للأصلح. لكن من هو الأصلح؟
أثبتت البحوث الحديثة في مجال المخ والأعصاب أن قدرة الإنسان على الفكاهة والمرح والسخرية المهذبة هي التي تجعله الأرقى بين بني جنسه، فالبقاء ليس للأصلح، بل للأمرح.
الضحك والذكاء
الاستمتاع بالفكاهة والنكات التي تحتوي على رمز وتورية، من طبيعة الأذكياء، وكلما ازداد مُعامل الذكاء، استمتع الإنسان بالنكتة، حتى يصح القول إننا لا نضحك من النكتة بقدر ما نضحك إعجاباً بذكائنا على أننا فهمناها.
ففي عام 1999م، وُضعت دراسة تحليلية لمرضى مصابين بتلف في الفصوص الأمامية اليمنى وتبيّن أن هؤلاء المرضى لا يستطيعون اختيار موضوعات الفكاهة. وعادة يختارون الفكاهة الأشد سخفاً ومنافاة للعقل. ومخترعو النكات ذكاؤهم عالٍ، إذ يقول المعالج والمحلل النفسي الدكتور ميخائيل تيتسه عن رواة النكتة وعن منشأ النكات: النكات من إبداع الأشخاص الذين يجدون مسرّة ولهواً في كل أنواع خرق المعيار والقاعدة. ولما كانت النكتة أحياناً عبارة عن لعب ذكي بالألفاظ، فلابد أن هؤلاء الأشخاص شديدو الذكاء من جهة، ويجدون في السخرية من الذكاء بالذات لهواً ومتعة من جهة أخرى. وهكذا تنشأ خروق منطقية أو مفارقات بين كل من التفكير الطبيعي العادي والتفكير غير المعقول والمخالف للمنطق.
مواقع النشر