بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
لقد انتصرنا في الحرب الباردة وتخطينا هجمات 11 سبتمبر ـ لكن ضعفنا الاقتصادي الآن يهدد نفوذنا العالمي
"إمبراطورية في خطر"
يمكن تسمية ذلك بالهندسة العشرية للأزمة المالية. إذا حلقنا فوق المحيط الأطلسي في يوم صاف ونظرنا إلى الأسفل، يمكننا رؤية الظاهرة نفسها لكن على أربعة نطاقات مختلفة كليا. فمن جهة هناك آيسلندا الصغيرة. ومن ثم هنالك إيرلندا الأكبر حجما بقليل، تليها بريطانيا المتوسطة الحجم. وكلها أصغر بكثير من الولايات المتحدة الجبارة. لكن في كل منها، اتخذت الأزمة الاقتصادية الشكل نفسه: أزمة مصرفية ضخمة، تتبعها أزمة مالية ضخمة بالقدر نفسه مع تدخل الحكومة لإنقاذ النظام المالي الخاص.
للحجم أهمية بالطبع. بالنسبة إلى البلدان الأصغر، فإن الخسائر المالية المتأتية من هذه الأزمة أكبر بكثير مما هي في الولايات المتحدة إن قارناها بناتجها المحلي الإجمالي. لكن الرهانات أكبر في أمريكا. بشكل عام وبصراحة فإن ترنح آيسلندا أو إيرلندا على شفير الهاوية المالية ليس مهما. السكان المحليون يتألمون غير أن العالم يمضي قدما كالعادة.
لكن إذا انهارت الولايات المتحدة تحت وطأة أزمة مالية، وهو أمر يخشاه عدد متزايد من الخبراء الماليين، فقد يؤدي ذلك إلى تغير في موازين القوى الاقتصادية العالمية بكاملها. ويتحدث الخبراء العسكريون وكأن قرار الرئيس فيما يتعلق بإرسال 40.000 جندي إضافي إلى أفغانستان هو القرار الأكثر أهمية. وفي الحقيقة، فإن تردده بشأن العجز المالي قد يكون له تأثير أكبر بكثير في الأمن القومي على المدى الطويل. يمكنكم وصف الولايات المتحدة كما تشاؤون ــ قوة عظمى، أو قوة مهيمنة، أو إمبراطورية ــ لكن قدرتها على إدارة شؤونها المالية مرتبطة بشكل وثيق بقدرتها على بقائها القوة العسكرية الأهم في العالم. وإليكم السبب.
يجادل مؤيدو فلسفة جون ماينارد كينز بأن زيادة الديون الفيدرالية بنسبة الثلث تقريبا كانت ضرورية لتجنب حدوث كساد كبير ثان. ربما، مع أن البعض قد يقولون إنه تم تضخيم منافع الخطة التحفيزية المالية وإن نسبة المضاعفة السحرية (التي من المفترض أن تحول دولارا من الإنفاق الحكومي إلى أكثر بكثير من دولار من الطلب الإجمالي) لن يكون لها تأثير يذكر.
لكن يجب الاعتراف ببعض الإنجازات. فلولا الإنفاق الحكومي، لكان النمو الاقتصادي في الربع الثالث من هذه السنة في الولايات المتحدة أدنى بكثير. ما بين نصف وثلثي الزيادة الحقيقية في الناتج المحلي الإجمالي يعزى إلى البرامج الحكومية، لاسيما برنامج "المال مقابل السيارات القديمة" والإعانات الممنوحة للذين يشترون منازل للمرة الأولى. لكننا لانزال بعيدين كل البعد عن حالة نهوض مستدامة. لقد تم تخفيض نسبة النمو في الربع المالي الثالث من 3.5 بالمائة إلى 2.8 بالمائة، وهذا ليس مفاجئا. تذكروا أن مقوم النجاح لأي خطة تحفيزية هو تغير نمط الاقتراض في القطاع العام بكامله. ولما كانت الحكومة الفيدرالية في حالة عجز أصلا، والولايات ترفع الضرائب وتخفض نسبة إنفاقها، فإن حجم التحفيزات يقارب الـ4 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي إن قسمناه على السنوات الممتدة بين 2007 و2010, وهو أدنى بكثير من العجز البالغ 11.2 بالمائة الذي كثر الكلام عنه.
لننظر أيضا إلى تكلفة هذا التحفيز الخفي. فعجز السنة المالية 2009 فاق الـ 1.4 تريليون دولار, أي نحو 11.2 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي، بحسب مكتب الميزانية في الكونغرس. هذا أضخم من أي عجز شهدناه في السنوات الـ60 الماضية, وهو أعلى بقليل من العجز الذي كان قائما عام 1942. وبالتالي يبدو أننا نعتمد السياسات المالية المتبعة في الحروب العالمية، لكن من دون حرب. صحيح أن الولايات المتحدة تخوض حربا في أفغانستان ولا يزال لديها عدد كبير من الجنود في العراق. لكن هذين النزاعين صغيران مقارنة بالحربين العالميتين، ومساهمتهما في العجز المالي المتراكم كانت متواضعة في الحقيقة (أكثر بقليل من 1.8 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي، حتى وإن سلمنا بصحة الكلفة الإجمالية المقدرة بـ3.2 تريليون دولار والتي نشرها عالم الاقتصاد جوزيف ستيغلتز من جامعة كولومبيا في فبراير عام 2008).
ومبلغ الـ1.4 تريليون دولار هذا ليس سوى البداية. وبحسب آخر توقعات مكتب الميزانية في الكونغرس، فإن العجز الفيدرالي سينخفض من 11.2 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي هذا العام إلى 9.6 بالمائة عام 2010، و6.1 بالمائة عام 2011، و3.7 بالمائة عام 2012. بعد ذلك، سيبقى فوق الـ3 بالمائة في المستقبل المنظور. في الوقت نفسه، فإن الدين الإجمالي العام بالدولار (بما في ذلك الدين للمقرضين الأجانب وباستثناء الوكالات الحكومية) سيرتفع من 5.8 تريليون دولار عام 2008 إلى 14.3 تريليون دولار عام 2019, أي من 41 بالمائة إلى 68 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي.
بعبارات أخرى، لانهاية في الأفق لنزعة الاقتراض المفرط. وما لم يتم تخفيض المستحقات أو رفع الضرائب، لن يكون هناك بعد الآن ميزانية لا تعاني عجزا. لنفترض أنني سأعيش 30 سنة إضافية وأنني سأموت مثل جديّ في سن الـ75. بحلول عام 2039، عندما أوضع في مثواي الأخير، سيكون الدين الفيدرالي العام قد وصل إلى 91 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي، وفقا للتوقعات طويلة الأمد لمكتب الميزانية في الكونغرس. وهذا لا يدعو للقلق، بحسب علماء الاقتصاد المحبين للعجز مثل بول كروغمان. فعام 1945، كانت هذه النسبة تبلغ 113 بالمائة.
حسنا، لنصرف النظر عن الفروق الهائلة بين عامي 1945 و2039 في الولايات المتحدة. استنادا إلى الاحتمال المالي البديل الذي يتوقعه مكتب الميزانية في الكونغرس (وهو التوقع الأكثر تشاؤما)، فإن نسبة الدين قد تصل إلى 215 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي عام 2039. أجل، أكثر من ضعفي الإنتاجية السنوية للاقتصاد الأمريكي بكامله.
هذه التوقعات البعيدة الأمد لا تهدف إلى التنبؤ بالمستقبل. فكل شيء يتوقف على الافتراضات المتعلقة بالتغيرات الديموغرافية وكلفة برنامج الرعاية الطبية لكبار السن (ميديكير) ومتغيرات أخرى. على سبيل المثال، يفترض مكتب الميزانية في الكونغرس أن معدل النمو السنوي للناتج المحلي الإجمالي الحقيقي سيكون 2.3 بالمائة خلال السنوات الـ30 المقبلة. المغزى من ذلك هو الكشف عن تداعيات عدم التوازن الحالي المزمن بين الإنفاق الفيدرالي والإيرادات الفيدرالية. والتداعيات واضحة. فبحسب كل التوقعات المعقولة، يبدو أن أعباء الديون لا تنخفض. وبحسب احتمال من بين احتمالين ممكنين، فهي تزداد بما يقارب خمسة أضعاف مقارنة بالإنتاجية الاقتصادية.
الطريقة الأخرى للقيام بهذه التوقعات تقضي باحتساب القيمة الحالية للالتزامات غير الممولة المتوجبة على نظامي الضمان الاجتماعي والرعاية الطبية لكبار السن. وبحسب أحد التقديرات الأخيرة، فهي تبلغ 104 تريليونات دولار، أي 10 أضعاف الدين الفيدرالي المعلن.
ليس ثمة مشكلة في ذلك، كما يجيب مؤيدو نظرية كينز. يمكننا أن نمول بكل سهولة تريليون دولار سنويا من الديون الحكومية الجديدة. ما علينا إلا النظر إلى كيفية تمويل العائلات والمؤسسات المالية اليابانية للزيادة الكبيرة في الدين العام الياباني (إلى حد وصل إلى 200 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي) خلال "العقدين الضائعين" اللذين بدأا عام 1990 واتسما بمعدل نمو يقارب الصفر.
لكن ليس هناك أدلة تدعم هذه النظرية للأسف. فالعائلات الأمريكية كانت تبيع سندات الخزينة التي تملكها في الربع الثاني من عام 2009، وبأعداد هائلة. وعمليات الشراء من قبل الصناديق الاستثمارية المشتركة كانت متواضعة (142 مليار دولار)، في حين أن عمليات الشراء من قبل صناديق التقاعد وشركات التأمين كانت ضئيلة جدا (12 مليار دولار و10 مليارات على التوالي). وبالتالي، فإن القطاع الأساسي هو القطاع المصرفي. ووفقا لصندوق التحوط بريدج واتر، فإن الأموال التي خصصتها البنوك الأمريكية حاليا لشراء سندات الخزينة الحكومية تساوي 13 بالمائة من سيولتها، وهي نسبة ضئيلة مقارنة بالمعدل التاريخي. إذا زادت هذه النسبة لتعود إلى ما كانت عليه في أوائل تسعينات القرن الماضي، فقد تصبح قادرة على شراء "سندات خزينة حكومية بقيمة 250 مليار دولار سنويا". لكن هذا الاحتمال مشكوك به. فبيانات شهر أكتوبر تظهر أن البنوك التجارية كانت تبيع سندات الخزينة التي تملكها.
لم يعد هناك إذن سوى شاريين محتملين: بنك الاحتياطي الفيدرالي، الذي اشترى معظم سندات الخزينة التي تم إصدارها في الربع الثاني» والأجانب الذين اشتروا ما قيمته 380 مليار دولار من سندات الخزينة الأمريكية. لقد حلل خبراء شركة "مورغان ستانلي" البيانات واستنتجوا أنه، في السنة المالية التي تنتهي في يونيو عام 2010، قد يكون هناك نقص في الطلب على سندات الخزينة يساوي 598 مليار دولار, أي نحو ثلث الإصدارات الجديدة المتوقعة.
طبعا، يمكن لأصدقائنا في بكين أن يهبوا إلى نجدتنا من خلال زيادة استثماراتهم الهائلة في الديون الحكومية الأمريكية. خلال السنوات الخمس الماضية تقريبا، جمعوا احتياطيا دوليا بالدولار بشكل غير مسبوق، وذلك يعود بشكل أساسي إلى تدخلهم لمنع ارتفاع قيمة العملة الصينية مقارنة بالدولار.
حاليا، تمتلك جمهورية الصين الشعبية نحو 13 بالمائة من مجمل سندات الخزينة الحكومية الأمريكية التي يملكها القطاع الخاص. وفي ذروة عملية جمع هذا الاحتياطي، عام 2007، كانت تشتري ما يقارب الـ75 بالمائة من الإصدارات الشهرية لوزارة الخزانة الأمريكية.
لكن ما من شيء مجاني في عالم المال الدولي. فوفقا لفريد بيرغستون من معهد بيترسون لعلم الاقتصاد الدولي، إذا استمرت هذه النزعة، فقد يزداد عجز الولايات المتحدة ليصل إلى 15 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2030، وقد تصل قيمة مديونيتها الصافية لبقية العالم إلى 140 بالمائة من ناتجها المحلي الإجمالي. في تلك الحالة، سيكون على الولايات المتحدة دفع 7 بالمائة من ناتجها المحلي الإجمالي كل سنة على شكل فائدة لأطراف أجنبية تمتلك ديونها.
هل يمكن أن يحصل ذلك؟ لا أظن. أولا، الحكومة الصينية لا تكف عن التذمر من أنها تمتلك كمية مفرطة من سندات الخزينة الأمريكية. ثانيا، من المرجح أن تنخفض قيمة الدولار إلى حد كبير، لأن الولايات المتحدة محظوظة لقدرتها على الاقتراض بعملتها الخاصة، التي يمكنها أن تطبع منها قدر ما يقرر بنك الاحتياطي الفيدرالي أنها بحاجة إليه.
من قال الكلام التالي؟ "أتوقع أن يميل السياسيون في النهاية إلى حل الأزمة [المالية] بالطريقة نفسها التي تتبعها الحكومات غير المسؤولة عادة: من خلال طبع المزيد من العملة، لدفع المستحقات الحالية وللتسبب بتضخم يقلص من قيمة الديون. وعندما تتنامى هذه النزعة، سترتفع معدلات الفائدة".
هذا يبدو معقولا جدا بالنسبة إلي. الأمر المفاجئ هو أن من قال ذلك هو بول كروغمان نفسه، كبير المدافعين عن فلسفة كينز، في مقال كتبه في مارس عام 2003. فبعد ذلك بعام ونصف، كان يقارن العجز الأمريكي بالعجز الأرجنتيني (حينما لم يكن يتعدى الـ4.5 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي). هل تغير الوضع الاقتصادي إلى هذا الحد كي يقول كروغمان نفسه الآن إن "العجز هو الذي أنقذنا" وإنه يرغب في رؤية عجز أكبر حتى في العام المقبل؟ ربما. لكن التفسير قد يكون بكل بساطة هو أن الحزب الحاكم تغير.
التاريخ يدعم بشكل كبير التوقعات بأن الأزمات المالية الكبيرة ستتبعها أزمات في الميزانية. لقد كتبت كارمن راينهارت وكينيث روغوف في كتابهما الجديد This Time Is Different (هذه المرة مختلفة): "بشكل عام، تزداد المديونية الحكومية بنسبة 86 بالمائة خلال السنوات الثلاث التي تتبع أزمة مصرفية". في أعقاب هذه الزيادة الكبيرة في المديونية، يمكن أن يحصل أمر من اثنين: إما التخلف عن دفع المستحقات، وهذا ما يحصل عادة عندما يكون الدين بعملة أجنبية، أو فترة من التضخم الكبير الذي يجعل المقرضين في وضع حرج. تاريخ كل الإمبراطوريات الأوروبية العظيمة ممتليء بفترات مماثلة. في الواقع، إن دورات التخلف والتضخم العالي غالبا ما كانت العارض الأكثر دلالة على انهيار الإمبراطوريات.
ولما كان من غير المرجح أن تتخلف الولايات المتحدة عن تسديد ديونها، لأنها كلها بالدولار، فإن السؤال المطروح هو إن كنا سنرى بنك الاحتياطي الفيدرالي "يطبع المال" ــ ويشتري سندات خزينة جديدة مقابل المزيد من الأوراق النقدية المطبوعة حديثا ــ وإن كنا سنشهد بعد ذلك الحلقة المعتادة من ارتفاع الأسعار وانخفاض أعباء الديون الحقيقية. هذا احتمال يخشاه الكثير من المستثمرين في أنحاء العالم. لهذا السبب يبيعون الدولارات ويشترون الذهب.
لكن من منظوري، فإن احتمالات حدوث تضخم ضئيلة جدا. ولما كانت نسبة البطالة في الولايات المتحدة تخطت الـ10 بالمائة، والنقابات العمالية ضعيفة نسبيا، ولأن الكثير من الإمكانات الإنتاجية لا تزال غير مستغلة في القطاع الصناعي العالمي، فليس هناك مقومات تؤدي إلى حدوث ركود مصحوب بتضخم (نمو ضئيل مصحوب بارتفاع الأسعار) كما حصل في سبعينات القرن الماضي. التوقعات الشعبية بحصول تضخم لا تزال قليلة، استنادا إلى استطلاعات الرأي والفارق بين عوائد سندات الخزينة العادية والسندات المحمية من التضخم.
بالتالي هناك سيناريو آخر, وهو من نواح كثيرة أسوأ من سيناريو التضخم. ما قد يحدث هو ارتفاع في معدل الفائدة الحقيقي، أي معدل الفائدة ناقصا التضخم. استنادا إلى الكثير من الأبحاث التجريبية التي أجراها علماء اقتصاد بمن فيهم بيتر أورزاغ (الذي يعمل الآن في مكتب الإدارة والميزانية)، فإن الارتفاع الحاد في نسبة المديونية مقارنة بالناتج المحلي الإجمالي يؤدي عادة إلى ارتفاع في نسبة الفائدة الحقيقية. وقد خلصت إحدى الدراسات الأخيرة إلى أن "ارتفاعا بنسبة 20 بالمائة في نسبة المديونية الحكومية مقارنة بالناتج المحلي الإجمالي سيؤدي إلى زيادة 20ـ120 نقطة أساسية [0.2 إلى 1.2 بالمائة] في معدلات الفائدة الحقيقية". يمكن أن يحصل ذلك بثلاث طرق مختلفة: يرتفع معدل الفائدة الاسمية ولا يتغير مستوى التضخم» أو تبقى الفائدة كما هي وينخفض معدل التضخم» أو ــ الاحتمال الكارثي يرتفع معدل الفائدة الاسمية وينخفض معدل التضخم.
اليوم، ينكر مؤيدو فلسفة كينز احتمال حدوث ذلك. لكن الوقائع التاريخية تشير إلى عكس ذلك. هناك عدد من الحالات السابقة (كما في فرنسا خلال ثلاثينات القرن الماضي) ارتفعت فيها نسبة الفائدة وانخفض معدل التضخم. فضلا عن ذلك، هذا ما يبدو أنه يحدث في اليابان الآن. الأسبوع الماضي، اعترف وزير المالية الياباني الجديد، هيروهيسا فوجي، بأنه "قلق جدا" بشأن الارتفاع الأخير في نسبة الفائدة المدفوعة على سندات الخزينة الحكومية اليابانية. وفي الأسبوع نفسه، أقرت الحكومة بأن اليابان تشهد انخفاضا في معدلات التضخم بعد ثلاثة أعوام من ارتفاع متواضع في الأسعار.
ليس مستبعدا أن يحدث أمر مماثل في الولايات المتحدة. فقد يطالب المستثمرون الأجانب بمعدل فائدة أعلى على سندات الخزينة الأمريكية للتعويض عن انخفاض قيمة الدولار. وقد يفاجئنا التضخم في انخفاضه. يجب ألا ننسى أن أسعار السلع الاستهلاكية تتراجع حاليا.
لماذا علينا أن نخشى ارتفاع نسب الفائدة الحقيقية قبل التضخم؟ الجواب هو أنه بالنسبة إلى حكومة شديدة المديونية وشعب أكثر مديونية، فهي تعني ازديادا في الأعباء المتأتية من خدمة الدين. مدة الاستحقاق القصيرة نسبيا لمعظم هذه الديون تعني أنه يجب تجديد قسم كبير منها كل عام، وهذا يعني بدوره أن أي ارتفاع في معدلات الفائدة سيكون له تأثير مخيف على النظام بسرعة.
حاليا، يتوقع مكتب الميزانية في الكونغرس أن ترتفع قيمة خدمة الدين من خلال دفع الفوائد من 8 بالمائة من الإيرادات عام 2009 إلى 17 بالمائة بحلول عام 2019، حتى وإن بقيت معدلات الفائدة متدنية واستعاد النمو زخمه. وإذا ازدادت معدلات الفائدة قليلا وشهد الاقتصاد ركودا، سنصل إلى نسبة 20 بالمائة بشكل أسرع بكثير. والتاريخ يظهر أنه عندما يساوي الإنفاق لخدمة الدين خُمس الإيرادات، فهذا يعني أن هناك مشكلة. من السهل جدا أن يجد المرء نفسه في حلقة مفرغة تتضاءل فيها المصداقية. وبالتالي لا يعود المستثمرون يؤمنون بقدرتك على تسديد ديونك، فيفرضون فوائد أعلى عليها، مما يجعل وضعك أسوأ.
تأثيرات ذلك على قوة عظمى أكبر من تأثيره على جزيرة صغيرة في المحيط الأطلسي وذلك لسبب بسيط. ففيما تخصص نسبة أكبر من الميزانية لدفع الفوائد، لا بد أن يتم التخلي عن نفقات أخرى, وفي معظم الأحيان، يتم التخلي عن الإنفاق العسكري. وفقا لمكتب الميزانية في الكونغرس، لقد تم التخطيط منذ الآن للحد من الأموال المخصصة للأمن القومي في الميزانية الفيدرالية. بحسب خطة البنتاغون الحالية، يتوقع أن ينخفض الإنفاق العسكري من أكثر من 4 بالمائة حاليا إلى 3.2 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي عام 2015 وصولا إلى 2.6 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2028.
على المدى الطويل، وعند تاريخ وفاتي المقدر عام 2039، سيزداد الإنفاق على العناية الصحية من 16 بالمائة إلى 33 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي (بعض هذه الأموال ستخصص على الأرجح للحؤول دون وفاتي قبل ذلك). لكن الإنفاق على أمور أخرى غير الرعاية الصحية والضمان الاجتماعي ودفع فوائد الديون سينخفض من 12 بالمائة إلى 8.4 بالمائة.
هكذا تنهار الإمبراطوريات. يبدأ الأمر بتفاقم الديون. وينتهي بتخفيض مطرد في الموارد المتوفرة للجيش وسلاح البحرية وسلاح الجو. ولهذا السبب، الناخبون محقون في قلقهم بشأن أزمة الديون الأمريكية. ووفقا لتقرير حديث أصدرته شركة "رازموسين"، فإن 42 بالمائة من الأمريكيين يقولون الآن إن تخفيض العجز إلى النصف بحلول نهاية الولاية الأولى للرئيس يجب أن يكون على رأس أولويات الإدارة, وهذه النسبة أعلى بكثير من الـ24 بالمائة من الناس الذين يعتبرون أن إصلاح نظام الرعاية الصحية هو الأولوية القصوى. لكن تخفيض العجز إلى النصف ليس كافيا بكل بساطة. وإذا لم تتوصل الولايات المتحدة قريبا إلى خطة معقولة لإعادة الميزانية الفيدرالية إلى حالة توازن خلال السنوات الخمس إلى الـ10 المقبلة، سيكون هناك خطر حقيقي من أن تؤدي أزمة الديون إلى تضاؤل قوة أمريكا إلى حد كبير.
هناك سوابق تاريخية تؤكد ذلك. لقد تخلفت إسبانيا في عهد سلالة هابسبورغ عن تسديد كل ديونها أو جزء منها 14 مرة بين عامي 1557 و1696، وعانت أيضا التضخم بسبب التدفق المفرط للفضة من العالم الجديد. وكانت فرنسا في الفترة السابقة للثورة تنفق 62 بالمائة من الإيرادات الملكية على خدمة الدين قبل عام 1788. وقد لقيت الإمبراطورية العثمانية المصير نفسه: فنسبة دفع الفوائد وخدمة الدين ارتفعت من 15 بالمائة من الميزانية عام 1860 إلى 50 بالمائة عام 1875. ويجب ألا ننسى الإمبراطورية الإنجليزية العظيمة الأخيرة. ففي الفترة الفاصلة بين الحروب، كانت الفوائد تستهلك 44 بالمائة من الميزانية البريطانية، مما جعل إعادة تسلحها في وجه التهديد الألماني الجديد أمرا شديد الصعوبة.
هذه هي الحسابات الفتاكة التي تؤدي إلى انهيار الإمبراطوريات. ومن دون إصلاحات مالية جذرية، قد تلقى أمريكا المصير نفسه أيضا.
فيرغسون هو أستاذ في التاريخ في جامعة هارفارد حاصل على منحة لورانس أيه تيش، ومؤلف كتاب The Ascent of Money (تعاظم أهمية المال).
مواقع النشر