السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
-الاختلاط في المذاهب الأربعة:
ثمة مرتبتان للاختلاط أولهما مرتبة (الاختلاط العارض) كالذي يكون في الطريق ونحوه. والثاني هو (اختلاط المجالسة) كالذي يكون في مجال التعليم والعمل، وهو الذي يترتب عليه رفع الكلفة، وانكسار الحواجز، والمضاحكة، وإلف كل من الطرفين للآخر، ونشوء العلاقات غير المشروعة. •
فمن ذكر أن المذاهب الفقهية الأربعة تبيح جميع مراتب الاختلاط، أو أن فقهاء المذاهب السنية الأربعة لايعرفون أصلاً لفظ الاختلاط، فهذا قد وضع نفسه في حرج علمي بالغ، لأن لفظ الاختلاط لم يرد بشكل نادر في كتب الفقه الإسلامي، بل ولم يرد في باب واحد فقط، وإنما هو كالأصل الفقهي المنبث في أبواب كثيرة بحيث يؤثر على كثير من الأحكام الشرعية، واستخراج معالجات الفقهاء لمنكر اختلاط الجنسين لايحتاج لعبقرية فقهية أصلاً، وأشهر المواضع التي يعالج الفقهاء فيها موضوع "اختلاط الجنسين" هي:
باب صلاة الجماعة
(مسألة مكث الرجال بقدر ما ينصرف النساء) وفي كتاب الجمعة (مسألة علة عدم وجوب الجمعة على النساء) وفي كتاب الجنائز (مسألة الدفن في القبور الفساقي) وفي كتاب الاعتكاف (مسألة صيانة المسجد عن الاختلاط) وفي كتاب الحج (مسألة علة منع التعريف) وفي كتاب الجهاد (مسألة علة منع خروج النساء للمباضعة، ومسألة شرط الذكورة في الإمامة الكبرى) وفي كتاب النكاح (مسألة محرمات الزفاف، ومسألة الفرق بين الحرة والأمة في مخالطة الرجال، ومسألة حبس المرأة زوجها بحقها) وفي كتاب القضاء (مسألة علة منع استقضاء المرأة، ومسألة اختلاط الجنسين في مجلس القضاء)، وفي باب الوصية (مسألة مبطلات الوصية) وفي كتاب الأدب (الذي يسمى كتاب الكراهية عند الحنفية) عالجوه في مسألة (حكم مخالطة من تعطلت غريزته للنساء)، وغيرها من المواضع.
• بعض نماذج تلك المعالجات الفقهية التراثية: •
الفقه الحنفي:
يميز فقهاء المذاهب دوماً في مصادرهم الفقهية بين الكتب المحدِّدة للمعتمد في المذهب في مجالي (القضاء والفتيا)، والكتب المحدّدة للمعتمد في المذهب في مجال (التعليم الفقهي).
فأما في مجال (القضاء والفتيا) فإن المعتمد عند الحنفية ثلاثة كتب، رأسها وأهما عندهم هو الكتاب المبكر "المبسوط للسرخسي"، ويكاد عندهم أن يكون قاعدة المذهب لأنه جمع خلاصة فقه متقدمي الحنفية، وفي هذا المصدر الحنفي الرئيسي يقول السرخسي رحمه الله:
(في اختلاط النساء مع الرجال عند الزحمة؛ من الفتنة والقبح ما لا يخفى) (المبسوط،16/80)
ويقول أيضاً رحمه الله: (في اختلاطها –أي المرأة- بالرجال فتنة) (المبسوط، 4/111) وأما في مجال (التعليم الفقهي) فإن أهم كتب الحنفية عندهم هي "الهداية للمرغيناني" وأشهر شروحها هو "فتح القدير" لابن الهمام، ويقول ابن الهمام في هذا الشرح :
(المرأة إنما تخالط المرأة، لا الرجل الأجنبي) (فتح القدير، 5/222)
ولم يختلف فقهاء المذهب الحنفي في أصل تحريم "اختلاط الجنسين" وإنما اختلفوا في صورة معينة: وهي الرجل الذي تعطلت غريزته كلياً فهل له أن يخالط النساء أم لا؟ ومع أنه في هذه الحالة قد يغلب انتفاء الفتنة إلا أن جمهور الحنفية منعوا ذلك أيضاً، ويلخص الامام السرخسي هذا الخلاف فيقول:
(إن كان مجبوباً قد جف ماؤه؛ فقد رخص بعض مشايخنا في حقه بالاختلاط بالنساء، لوقوع الأمن من الفتنة، والأصح أنه لا يحل له ذلك) (المبسوط، 10/158)
وأما في مجال (علم القواعد الفقهية) فإن أوسع كتب الحنفية في هذا الحقل هو كتاب "غمز عيون البصائر" للإمام الحموي الحنفي الذي شرح فيه كتاب "الأشباه والنظائر" للإمام ابن نجيم الحنفي، رحمهما الله، وفي هذا الكتاب القواعدي الحنفي يقول الإمام الحموي رحمه الله:
(قلت : وهو –أي الزفاف- حرام في زماننا، فضلا عن الكراهة، لأمور لا تخفى عليك، منها اختلاط النساء بالرجال) (غمز عيون البصائر، 2/114)
واستمر هذا الحكم الفقهي في تحريم "اختلاط الجنسين" حاضراً في سائر كتب الفقه الحنفي الأخرى، حتى مجئ آخر أئمة الحنفية الموسوعيين وهو الإمام ابن عابدين رحمه الله، فزاد هذا الحكم الشرعي لتحريم اختلاط الجنسين تأكيداً، حيث يقول في موسوعته رد المحتار:
(ومما ترد به الشهادة الخروج لفرجة قدوم أمير، أي لما تشتمل عليه من المنكرات، ومن اختلاط النساء بالرجال) (رد المحتار، 6/355).
وما سبق هو مجرد نماذج فقط من معالجات الحنفية لموضوع الاختلاط، ويمكن للقارئ الفاضل أن يراجع المزيد من النصوص بنفس مفردة الاختلاط (لفظاً ومضموناً) في مصادر الحنفية الأخرى مثل: كتاب تبيين الحقائق للزيلعي (6/20) والبحر الرائق لابن نجيم (8/222) ومجمع الأنهر لشيخي زاده (2/540)، وغيرها من مصادر المذهب الحنفي الأخرى. • -
المذهب المالكي:
محور المذهب المالكي -كما هو معروف- هو مختصر خليل، فهو الحلقة الرابعة في سلسلة الاختصار، فهو خلاصة مكثفة للمذهب، وقد بين الشيخ خليل في عبارته المركزة -كما هو معتاد في لغة المتون بشكل عام، ومختصر خليل بشكل خاص- منع الاختلاط في ثلاثة أمور (مجلس القضاء، ومجلس الفتيا، ومجلس العلم) حيث يقول رحمه الله: (ينبغي –أي للقاضي- أن يفرد وقتاً أو يوماً للنساء، كالمفتي والمدرس)
وحين جاء الشيخ عليش المالكي لتوضيح هذه الفقرة في مختصر خليل ذكر علة هذا الحكم، ثم نقل نقولاً عن أئمة المذهب المالكي حول الاختلاط، حيث يقول رحمه الله:
(سترا لهن وحفظا من اختلاطهن بالرجال في مجلسه، [قال] سحنون: يعزل النساء على حدة والرجال على حدة. [وقال] أشهب: لا يقدم الرجال والنساء مختلطين. [وقال] ابن عبد الحكم: أحب إلي أن يفرد للنساء يوما. ويفرق بين الرجال والنساء في المجالس..، [وقال]المازري: إن كان الحكم بين رجل وامرأة أبعد عنها من لا خصام بينها وبينه من الرجال) (منح الجليل شرح مختصر خليل، 8/306 ) ويلي مختصر خليل في الذيوع والانتشار بين المالكية رسالة الإمام ابن أبي زيد القيرواني، وحين تعرض الإمام النفراوي المالكي في شرحه لهذه الرسالة لمسألة "مسقطات وجوب إجابة وليمة العرس" قال:
(ثم شرع في بيان مايسقط الإجابة بقوله..: "ولامنكر بيِّن" أي مشهور ظاهر، كاختلاط الرجال بالنساء) (الفواكه الدواني شرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني، 2/322)
وأما علم "تفسير آيات الأحكام" فأشهر كتب المالكية فيها كتاب ابن العربي المالكي، ويقول فيه: (المرأة لا يتأتى منها أن تبرز إلى المجالس، ولا تخالط الرجال، ولا تفاوضهم مفاوضة النظير للنظير) (أحكام القرآن، 3/483)
وحين تعرض الإمام الدسوقي المالكي لباب مبطلات الوصية ذكر من مبطلاتها أن يوصي الموصي بعمل يتضمن "اختلاط الجنسين،"كما يقول رحمه الله:
(أن يوصي بإقامة مولد على الوجه الذي يقع في هذه الأزمنة، من اختلاط النساء بالرجال، والنظر للمحرم، ونحو ذلك من المنكر) (حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، 4/427) ) أما الإمام ابن الحاج المالكي فقد اعتنى بشكل مكثف بكثرة إعلان التحذير من "اختلاط الجنسين" حتى أن جهوده في هذا الموضوع لفتت انتباه فقهاء المذاهب الأخرى، حتى قال الخطيب الشربيني الشافعي مشيراً لذلك (خصوصا في هذا الزمان الذي كثر فيه اختلاط الأجانب من الرجال والنساء..، ولابن الحاج المالكي اعتناء زائد بالكلام على مثل هذا وأشباهه، باعتبار زمانه، فكيف له بزمان خرق فيه السياج) (الاقناع مع البجيرمي، 3/495)
وما سبق هو مجرد نماذج فقط من معالجات المالكية لموضوع الاختلاط، ويمكن للقارئ الفاضل أن يراجع المزيد من النصوص بنفس مفردة الاختلاط (لفظاً ومضموناً) في مصادر المالكية الأخرى مثل:
مواهب الجليل، للحطاب (1/91) ، الكفاية مع حاشية العدوي (2،225) ، بلغة السالك، للصاوي (4/585)، وغيرها.
المذهب الشافعي:
تكاد تكون أضخم موسوعة فقهية أنتجتها المدرسة الشافعية هي "الحاوي الكبير للماوردي"، وفي هذه الموسوعة يقول الماوردي رحمه الله:
(والمرأة منهية عن الاختلاط بالرجال) (الحاوي الكبير، 2/51) ولما تعرض الإمام النووي –ريحانة الشافعية- لظاهرة اختلاط النساء والرجال ليلة عرفة للدعاء والذكر أغلظ في تحريمها والتشنيع عليها، وذكر أن من علل تحريمها "اختلاط الجنسين" كما يقول رحمه الله في موسوعته "المجموع شرح المهذب" :
(ومن البدع القبيحة ما اعتاده بعض العوام في هذه الأزمان من إيقاد الشمع بجبل عرفة ليلة التاسع أو غيرها..، وهذه ضلالة فاحشة جمعوا فيها أنواعا من القبائح، منها: اختلاط النساء بالرجال، والشموع بينهم، ووجوههم بارزة، ويجب على ولي الأمر وكل مكلف تمكن من إزالة هذه البدع إنكارها) (المجموع، 8/140).
ومن المعروف أن المذهب الشافعي استقر على ما في كتاب المنهاج للنووي ، وأجل شروحه عندهم هو شرح الإمام ابن حجر الهيتمي الشافعي رحمه الله، وإمامة ابن حجر الهيتمي للمذهب الشافعي لاجدال فيها، حتى أن الإمام المجدد محمد بن عبدالوهاب –رحمه الله- لما ناظر بعض الشافعية في بعض مسائل الألوهية لفت انتباهه شدة تعظيم متأخري الشافعية لابن حجر الهيتمي (انظر مجموع الرسائل الشخصية للشيخ محمد) والمراد أن ابن حجر الهيتمي نص في هذا المصدر المركزي على تحريم اختلاط الجنسين فقال: (الاختلاط بالنساء مظنة الفساد) (تحفة المحتاج، 2/107) بل إن الإمام ابن حجر الهيتمي لم يتحدث عن تحريم "اختلاط الجنسين" فقط، بل اعتنى بالتأكيد على أن تحريم اختلاط الجنسين هو مذهب متقدمي الشافعية أيضاً مستنداً على نصوص الإمام الشيرازي الشافعي صاحب المهذب، كما يقول ابن حجر الهيتمي في فتاواه:
(وفي المهذب في باب صلاة الجمعة: "ولأنها ،أي المرأة، لا تختلط بالرجال، وذلك لا يجوز" فتأمله تجده صريحا في حرمة الاختلاط، وهو كذلك لأنه مظنة الفتنة، وبه يتأيد ما مر عن بعض المتأخرين) (فتاوى ابن حجر الهيتمي، 1/203)
وما سبق هو مجرد نماذج فقط من معالجات الشافعية لموضوع الاختلاط، ويمكن للقارئ الفاضل أن يراجع المزيد من النصوص بنفس مفردة الاختلاط (لفظاً ومضموناً) في مصادر الشافعية الأخرى مثل: نهاية المحتاج للرملي (1/553) ، حاشيتا قليوبي وعميرة (2/144) ، حاشية الشبراملسي على النهاية (3/34) ، فتوحات الوهاب للجمل (2/206)، تحفة الحبيب للبجيرمي (2/226) ، وغيرها.
المذهب الحنبلي:
أهم موسوعة فقهية مقارنة أنتجتها المدرسة الحنبلية هو بلا شك كتاب "المغني لابن قدامة" ويعرف كل من تابع تاريخ الفقه الإسلامي أنها تجاوزت الداخل المذهبي الحنبلي واكتسبت أهمية مرجعية عامة، حتى قال شيخ المقاصد العز بن عبدالسلام الشافعي عبارته الشهيرة "ما طابت نفسي بالفتيا حتى صار عندي نسخة من المغني"، بل عدّهُ المتأخرون أحد الموسوعات الخمس التي تجمع علوم أهل الإسلام، وفي هذه الموسوعة الرصينة يقول الإمام ابن قدامة في تعليل وجوب انصراف النساء قبل الرجال:
(فصلٌ: إذا كان مع الإمام رجال ونساء، فالمستحب أن يثبت هو والرجال بقدر ما يرى أنهن قد انصرفن..، ولأن الإخلال بذلك من أحدهما يفضي إلى اختلاط الرجال بالنساء) (المغني، 1/328) وقال الإمام ابن قدامة أيضاً:
(المرأة ليست من أهل الحضور في مجامع الرجال) (المغني، 2/88)
وأضاف الإمام ابن تيمية الإشارة إلى آثار السلف في المباعدة بين الجنسين، حيث يقول رحمه الله:
(وقد كان عمر بن الخطاب يأمر العزاب أن لا تسكن بين المتأهلين، وأن لا يسكن المتأهل بين العزاب، وهكذا فعل المهاجرون لما قدموا المدينة على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- ونفوا شابا خافوا الفتنة به من المدينة إلى البصرة) (الفتاوى، 34/181) وأما الإمام ابن القيم -رحمه الله- فلم يكتف ببيان "تحريم الاختلاط" شرعاً كما ذكره غيره من الفقهاء، بل عقد له فصلاً خاصاً في كتابه المعروف "الطرق الحكمية" صدّره بقوله: (فصلٌ: ومن ذلك أن ولي الأمر يجب عليه أن يمنع اختلاط الرجال بالنساء في الأسواق والفرج ومجامع الرجال) (الطرق الحكمية، 237).
ثم شرح الإمام ابن القيم مخاطر الاختلاط معززاً ذلك بآثار عن السلف كعمر بن الخطاب والإمام مالك والإمام أحمد وغيرهم .
واستمر تأكيد ابن القيم على تحريم الاختلاط في كتابه الآخر "إعلام الموقعين" وهو الكتاب الذي برزت فيه روحه الأصولية ورهافة ذوقه الفقهي، وبالمناسبة فهذا الكتاب من أميز الكتب التراثية في التدريب العملي على مهارات "تحليل علل الأحكام"، حيث يقول رحمه الله فيه: (النساء لسن من أهل البروز ومخالطة الرجال) (إعلام الموقعين، 2/114)
وأما المصادر التي تعين المعتمد في المذهب الحنبلي في مجال (القضاء و الفتيا ) فهما كتابي "شرح منتهى الإرادات" و "كشاف القناع"، وهما الكتابان المعتمدان تاريخياً في القضاء الشرعي السعودي، وقد كان صدر باعتمادهما في القضاء الشرعي عدة قرارات رسمية، وفي هذا الكتاب -أعني "كشاف القناع"- يقول البهوتي رحمه الله: (ويمنع فيه اختلاط الرجال والنساء، لما يلزم عليه من المفاسد) (كشاف القناع، 2/367)
وأما في علم (الآداب الشرعية) فإن من أوسع كتب الحنابلة فيها كتاب الإمام السفاريني الحنبلي "غذاء الألباب"، والذي شرح فيه منظومة الآداب الشهيرة لابن عبدالقوي، وفي هذا الكتاب يقول الإمام السفاريني رحمه الله: (والمحمود من الغيرة صون المرأة عن اختلاطها بالرجال) (غذاء الألباب، 2/400).
منقــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــول
مواقع النشر