د. أحمد خليل الشال (التاريخ) : إن المجتمع الإسلامي في عصر النبي صلى الله عليه وسلم يعد أسوة للأمة في كل عصر.. وعند التأمل في بعض صور الحياة الاجتماعية المبثوثة في كتب السيرة والتاريخ الإسلامي لهذا العصر المبارك، نجد كثيرا من تلك المعاني العظيمة وقد غابت عن بعض مجتمعاتنا في عصرنا الحاضر، من أجل ذلك أردت أن أشرك القارئ معي في بعض تلك الصور والمشاهد العظيمة التي تهز وجداني كلما قرأتها وتأملتها عسى أن نحيي في مجتمعاتنا بعض قيمها التي غابت عنها.
ومن هذه الصور والمشاهد ما حــكاه أنـس بن مالك "رضي الله عنه" فيما رواه مسلم في صحيحه (برقم 2482، وأحمد 3/109) حيث قَالَ: «أَتَى عَلَيَّ رسول الله "صلى الله عليه وسلم" وأنا ألعب مع الغلمان، قال: فَسَلَّمَ علينا، فَبَعَثَنِي إلى حاجة، فَأَبْطَأْت عَلَى أمي، فلما جئت قالت: ما حَبَسَكَ؟ قلت: بعثني رسول الله "صلى الله عليه وسلم" لحاجة، قالت: ما حاجَتُهُ؟ قلت: إنها سِرٌّ، قالت: لا تُحَدِّثَنَّ بِسِرّ رسول الله "صلى الله عليه وسلم" أحدا. قال أنس: والله لو حدثت به أحدا لحدثتك يا ثابت».
فإننا حين نتأمل هذا المشهد العجيب، نجد فيه من الدروس الجليلة ما فيه، فأنس في هذا الوقت غلام في حوالي العاشرة من عمره، أتت به أمه أم سليم النبي "صلى الله عليه وسلم" لما قدم المدينة ليكون خادما له "صلى الله عليه وسلم". فقالت له: «هذا أنس غلام يخدمك». فقد كان في هذه السن طفلا لايزال يلعب مع الغلمان إلا أن الخبر الذي نحن بصدده يكشف لنا رقي التربية التي ترباها هذا الغلام في محيط الأسرة والمجتمع الذي عاش فيه. فقد تعلم فيه هذا الغلام ما نكاد نفتقده في كثير من رجال ونساء بعض مجتمعاتنا المعاصرة، ناهيك عن أبنائنا، فهذا طفل تعلم حفظ سر رسول الله "صلى الله عليه وسلم" حتى عن أمه التي هي أقرب البشر إلى قلب طفلها، إذ هي مستودع سره ومبلغ أمانته.
إلا أنه تعلم أن إفشاء سر رجل ذي قدر كرسول الله "صلى الله عليه وسلم" لا ينبغي في عُرف الأخلاق الكريمة، بل هو من قبائح الأفعال أن يفشي سر رسول الله "صلى الله عليه وسلم" ولو لأمه.
وبقي هذا السر في صدره لا يعلمه أحد طوال عمره طفلا ورجلا وشيخا، حتى قال لتلميذه «لو حدثت به أحدا لحدثتك يا ثابت». فأي أسرة تلك وأي مجتمع هذا الذي رَبَّى هذا الغلام! فأين هذا مما يحدث في بعض مجتمعاتنا الآن حين يهتك الأبناء سر أهلهم مع الأصدقاء والأقارب، وسر الجيران مع الأهل، وسر الأهل مع الجيران.. لاسيما إذا كانت بعض هذه البيوت يختلط بعضها ببعض.
ولكن يزول العجب من هذا المشهد حين نتأمل البيئة التي نشأ فيها هذا الغلام، وأساسها الأم، فهي لم يدفعها الفضول لتعلم من طفلها الصغير طبيعة هذا السر، بل هي تُربي في ولدها معنى حفظ السر، خاصة إذا كان لرجل ذي قدر كرسول الله "صلى الله عليه وسلم"، فقالت له تعزز هذا الخلق الكريم في نفسه: «لا تُحَدِّثَنَّ بِسِرّ رسول الله "صلى الله عليه وسلم" أحدا». فأين هذا من فضول بعض أمهات مجتمعاتنا في كشف سر بعض جيرانها أو أقاربها، عبر تحقيق ممنهج لانتزاع المعلومات عن فلانة وفلان، مستغلة بعض أنواع الاختلاط الذي يقع عند بعض العائلات والبيوتات.
وهذه صورة أخرى من صور هذا المجتمع النقي الطاهر، يحكيها لنا سعد بن أبي وقاص "رضي الله عنه" عن أخيه فيما رواه ابن سعد (الطبقات 3/138) من طريقه، إذ يقول سعد: «رأيت أخي عمير بن أبي وقاص قبل أن يعرضنا رسول الله "صلى الله عليه وسلم" للخروج إلى بدر يتوارى، فقلت: ما لك يا أخي؟ فقال: إني أخاف أن يراني رسول الله "صلى الله عليه وسلم" فيستصغرني فيردني، وأنا أحب الخروج، لعل الله يرزقني الشهادة، قال: فعرض على رسول الله "صلى الله عليه وسلم" فاستصغره، فقال: ارجع، فبكى عمير، فأجازه رسول الله "صلى الله عليه وسلم".
قال سعد: فكنت أعقد له حمائل سيفه من صغره، فقتل ببدر، وهو ابن ست عشرة سنة».
فهذا غلام في السادسة عشرة من عمره يعرف من معاني الإيمان والرجولة والشجاعة ما يغيب عن كثير من شبابنا اليوم، فضلا عن وعيه الرفيع بمسؤوليته تجاه أمته، فعلى الرغم من أن النبي "صلى الله عليه وسلم" رده استصغارا له، فإنه لم يفرح لذلك، وقد أعذر إلى الله، أن تقدم ورده رسول الله "صلى الله عليه وسلم"، ولكن أي نية عُلِّمها هذا الغلام، وأي إيمان وصدق بلغه هذا الغلام مع الله! فأي مجتمع ذاك الذي أخرج هذا الشاب المؤمن! فكم ممن هو في مثل عمره الآن وليس له هم من الدنيا إلا الطعام والشراب والملبس، وإن فتشت فيه عن معاني المسؤولية والإدراك، لا تكاد تظفر بشيء، فإن مبلغ علمه ألعاب الحاسب، وموديلات السيارات، وماركات الهواتف، وإن سألته عن بدهيات دينه، فإنك تفزع من جهل طام، ووعي سقيم، وإدراك مخل، فلا انتماء لديه لدينه ولا هَمَّ يشغله من أمور أمته التي تنتظر كبره وعلو شأنه في الدين والدنيا لتنتفع به فينهض بها من عثرتها.
وقد يظن البعض أن هذه صورة فردية في هذا المجتمع الرشيد، ولكن هذه الصورة التالية توضح لنا بجلاء أن هذا الذي كان عليه هذا الغلام، إنما هو ثقافة مجتمع سادت في هذا الوقت ونرجو أن تعود:
فقد روى الواقدي في المغازي (1/216)، وابن عبدالبر في الاستيعاب (2/655) أن النبي "صلى الله عليه وسلم" عُرض عليه في غزوة أُحُد غِلْمان: عبدالله بن عمر، وزيد بن ثابت، وأسامة بن زيد، والنعمان بن بشير، وزيد بن أرقم، والبراء بن عازب، وأسيد بن ظهير، وعرابة بن أوس، وأبوسعيد الخدري، وَسَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ، ورافع بن خديج، فردهم. قال رافع بن خَدِيج: فقال «عمي» ظُهَيْرُ بن رافع: «يا رسول الله إنه رام. وجعلت أتطاول وعلي خفان لي. فأجازني رسول الله "صلى الله عليه وسلم". فلما أجازني قال سمرة بن جندب لربيبه مُرَيّ ابْنِ سِنَانٍ الحارثي، وهو زوج أمه: يا أبت، أجاز رسول الله رافع بن خديج وردني، وأنا أصرع رافع بن خديج. فقال مري بن سنان الحارثي: يا رسول الله رددتَ ابني وأجزت رافع بن خديج وابني يصرعه. فقال رسول الله "صلى الله عليه وسلم": تصارعا. فصرع سمرةُ رافعًا فأجازه رسول الله "صلى الله عليه وسلم".
ويفصل ابن سعد (الطبقات 5/351) في روايته مشهد أبي سعيد الخدري حينئذ - وكان عمره آنذاك ثلاث عشرة سنة! - في رواية أخرى، وكيف أنه رأى أن تمام الرجولة والشجاعة في محاولة إقناع النبي "صلى الله عليه وسلم" أن يعدل عن رأيه في شأنه، فيروي ابن سعد من طريق عبدالرحمن ابن أبي سعيد الخدري، عن أبيه أبي سعيد الخدري في مشهد تربوي يُعَلِّم فيه أبوسعيد ولده معنى المسؤولية والرجولة، قال: «عُرضت يوم أحد على النبي "صلى الله عليه وسلم" وأنا ابن ثلاث عشرة سنة، فجعل أبي يأخذ بيدي، فيقول: يا رسول الله، إنه عبل (قوي) العظام، وإن كان مودنا (أي قصير)، قال: وجعل النبي "صلى الله عليه وسلم" يُصعِّد فِيَّ ويصوِّب، ثم قال: رده. فرده».
فكان هَمُّ الأمة ومسؤولية الدين هو الأمر المهيمن على هذا المجتمع، صغارا وكبار، فالإيمان يملأ قلوب الصغار قبل الكبار، عَلَّمهم إياها الكبار فتشربها الصغار بخير ما يكون، فكانوا بعدُ عماد هذه الأمة، فأعلوا شأنها، ورفعوا ذكرها إلى يومنا هذا، وظني أن الله تعالى لو لم يمن على هذا المجتمع حينئذ بهذا الفضل وهذه النعمة وتلك البركة في شِيبها وشبابها، لما وصل إلينا هذا الدين، وهذا أمر يشهد له هذه الصورة الآتية لغلمة تعلموا من مجتمعهم معاني الإيمان بالله ورسوله صغارا، فرفعوا راية الإسلام كبارا.
روى ابن سعد أيضا (الطبقات 5/60) من طريق الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس قال: «أوثق خالدُ بنُ الوليد عُيَينةَ بنَ بدر وقرة بن هبيرة، وأرسل بهما إلى أبي بكر في وثاق، فقدم بهما إلى المدينة، فنظرتُ إلى عُيَينة مجموعة يداه إلى عنقه بحبل ينخسه غلمان المدينة بالجريد ويضربونه، ويقولون: أي عدو الله، أكفرت بالله بعد إيمانك؟!».
وإذا أردنا أن نعرف سر هذه التربية الراقية لأبناء هذا المجتمع ونتعلم كيف ربى الآباء أبناءهم حينئذ، حتى بلغوا هذه الصورة من الرقي، فهذا أمر يكشف عن شيء منه سهل بن سعد "رضي الله عنه" فيما رواه البخاري في صحيحه (برقم 5620) من طريق أبي حازم بن دينار عن سهل بن سعد "رضي الله عنه" أن رسول الله "صلى الله عليه وسلم" «أُتِي بشراب فشرب منه، وعن يمينه غلام وعن يساره الأشياخ. فقال للغلام: أتأذن لي أن أعطي هؤلاء. فقال الغلام: والله يا رسول الله لا أوثر بنصيبي منك أحدا.
قال: فَتَلَّـه (أي وضعه) رسول الله "صلى الله عليه وسلم" في يده».
فهذا غلام يجلس بين الأشياخ وفيهم رسول الله "صلى الله عليه وسلم" ليتشرب من أخلاقهم ورجولتهم، من غير نكير عليه أن جلس بين الكبار، بل إن له نصيبا من التقدير والتقديم مادام قد شغل مكانه بحقه، فهو غلام تعلم أدب المجلس قبل أن يجلس مع هؤلاء الأشياخ، دل على ذلك قربه من النبي "صلى الله عليه وسلم"، وفي المقابل فإن كبير المجلس لم يهدر حق هذا الغلام في المجلس استصغارا أو احتقارا، بل أعطاه كامل حقه في الرجولة والتقدير، حين بدأ به "صلى الله عليه وسلم" مثله كمثل غيره ممن معه، بل يكشف لنا هذا المشهد عن أعظم معاني التربية التي ينبغي أن يكون عليها المربي، حين رفض الغلام أن يتنازل عن حقه حياء أو خوفا أو خجلا، حين قال للنبي "صلى الله عليه وسلم" ومعه الأشياخ «لا أوثر بنصيبي منك أحدا»، فأعطاه النبي "صلى الله عليه وسلم" وهو المربي والمعلم حقه من غير نكير عليه ولا لوم يخزيه به فيقهره كما قد يحدث اليوم مع بعض الأبناء، فيحل الصَّغَار في نفسه بدل الكبرياء، والشعور بالامتهان بدل العزة، فينشأ الغلام على الذلة، والدونية، فإذا كبر قَبِل الدَّنِيّة في نفسه ودينه. فنرجو من المربين في هذا الزمان أن يراعوا مثل هذه الصور في تربية أبناء مجتمعنا اليوم حتى ينشأ جيل يعرف قدر نفسه ودينه؛ من ثم يحمل هَم أمته فينهض بها من كبوتها.
بقلم: د. أحمد خليل الشال - من موقع التاريخ.كوم
مواقع النشر