الشجرة الضخمة المعمرة، ولتكن الجميز أو البشملة، وغيرها من الأشجار الضخمة، هذه الشجرة المثمرة والتي تؤتي أكلها الجميلة في ميقات محدد حينما كانت بذرة صغيرة، وكان الاهتمام والرعاية بكل الوسائل.. بالسماد المناسب، والتربة المناسبة، والماء الوفير، وتعرضها لأشعة الشمس المستمر.. كل هذا الاهتمام والرعاية هو العطاء الذي تحتاجه الشجرة، والذي لا ينقطع مهما كبرت، وحتى بعد إعطائها الثمر والنتيجة التي نرغبها.
والفترات التي تحتاج لأن نمنع عنها الماء أو نقص بعض أغصانها أو إعطائها بعض المبيدات العلاجية هي فترات قليلة لتهذيبها، وتحسين شكلها، أو لعلاجها من الأمراض التي تتعرض لها طيلة حياتها.
وهذا بالضبط ما يحدث أثناء تربيتنا لأبنائنا.. الأصل في التربية العطاء المستمر، وهذا العطاء معنوي ومادي، والطارئ العارض هو المنع والحرمان أو التربية بالعواقب.
وأحب أن أحدثك قليلا أختي الحبيبة عن العطاء؛ لأن ما يتوارد على الذهن هو العطاء المادي دائما في صورة مكافآت مادية، وهو مهم، ولكن الأهم منه هو العطاء المعنوي، العطاء المستمر لسد احتياجاته النفسية في كل مرحلة، والحاجات الأساسية التي يحتاجها طفل ما قبل المدرسة مثل ابنتك الغالية هي:
1- الحب والاهتمام والقبول:
وهو الغذاء النفسي الذي تنمو وتنضج عليه الشخصية، وإذا حصل الطفل على الحب الواعي المستنير فسيمتلئ ثقة بنا واطمئنانا إلينا، وبالتالي يجد ثقة في نفسه واطمئنانا إلى العالم من حوله، وهو أهم عوامل خروجه من أنانيته وتركيزه على نفسه.
ولا أقصد هنا الحب الغشيم المطلق الذي يدفعنا لنخاف عليه من الأذى فنحوطه بعناية مبالغ فيها، ونعد خطواته، ونمنعه من أي نشاط مستقل خشية لما قد يتعرض له من ضرر، ولكن أقصد الحب المبصر الذي هو نوع من أنواع العطاءات المهمة في تربيتنا لأبنائنا التي ينبغي ألا تنتهي أبدا في كل الأعمار، وهو حب غير مشروط بفعل الصحيح من الأفعال لأولادنا أو عدم فعلها؛ أي الحب لشخصه، وليس لما يفعل أو لا يفعل.
2- الحاجة للانتماء لأسرة بالعدل والإنصاف والاهتمام الخاص:
والتي يشعر فيها بأنه فرد له دور فيها وأهمية، وأنه يتم التعامل معه بعدل وإنصاف من أفرادها، خاصة الوالدين، وخاصة إذا كانوا مختلفي الأعمار مثل أبنائك.
وبالرغم من جهود الأسرة المضنية لمعاملة الأطفال بإنصاف فإن تنافس الأبناء أمر حقيقي وفعلي على كثير من الأشياء.. لعبة.. طعام.. أو نقود، ولكن المشكلة الأساسية في الغالب في المحاباة الملحوظة، فالأبناء يشعرون بالحساسية الشديدة للطرق التي يتبعها الوالدان في إظهار وتوزيع جهودهما ووقتهما ورعايتهما؛ لذلك ترى ابنتك الصغيرة وبدون قصد أو بقصد ترسم هذه المكانة وتصر على لفت الانتباه لها في البيت، وفي كل مكان كحاجة لإثبات الذات طبيعية في هذه المرحلة، وأيضا لتأخذ وضعا ومكانة تحب أن تشعر من خلالهما بوجودها في وسط أخواتها.
فكل طفل من أبنائنا يريد أن يشعر أنه مهم ومحبوب من الآخرين، وعندما يشكو أحد أبنائك من التحيز أو المحاباة -وهذا وارد- فأرجوك أختي الفاضلة أن تتوقفي للحظة لفحص مشاعرك الحقيقية وسلوكياتك وأن تتأكدي أنك لا تخلقين جوا من التنافس في المنزل.
هذا ربما نفعله بالطبع دون قصد، فأحيانا قد نستعمل بعض الطرق التي نظن أنها غير ضارة لتسهيل الأمور والتي تكون لها آثار جانبية لم نفكر فيها مطلقا مثل: تشجيع الأطفال على أن يتنافس كل منهم ضد الآخر لإنجاز المهام اليومية أو أداء واجباتهم المنزلية، خاصة إذا كان أحدهم متفوقا والآخر ليس بنفس قدراته في المذاكرة، فهذا يكون تمهيدا لزعزعة الثقة بالنفس وللشعور بعدم العدل.
وأعتقد أن هذا ما يحدث أحيانا بين الابنة الوسطى والكبرى في المذاكرة وإنجاز الواجبات بالتصريح أو بالتلميح، فلابد أن نقوم سلوك ومهارات أبنائنا في ضوء أنفسهم بألا نقارنهم بأحد ولكن نقارنهم بأنفسهم.
ومن الطرق التي تبطل مفعول الشعور بالمحاباة قضاء وقت خاص مع كل واحدة من بناتك على انفراد، ولو لفترة قصيرة، بعيدا عن الصخب والفوضى والمقاطعات في المنزل، وذلك بأن تخرجي مع إحداهن في مشاوير قصيرة لشرب العصير مثلا أو لشراء شيء، ويكون اهتمامك بأن يخرجن معك لتدخلي على قلبهن السرور بحديث دافئ بعيد عن صخب البيت، وهكذا بالتناوب.
وهو حل سحري إذا تم تنظيمه بين الأولاد، فهي فرصة للتواصل الحر، خاصة لابنتيك 9 سنوات و11 سنة، أما الصغرى فاللعب في المنزل أو الملاهي فرصة مناسبة للحصول على الاهتمام الخاص، والذي ينشأ عنه الشعور بالإنصاف والعدل وأيضا بالثقة في النفس.
3- الحاجة إلى الأمان والطمأنينة:
يشعر الأبناء بالأمان حينما يكون الجو الأسري مفعما به، وأيضا أن يشعرون أننا بجانبهم دائما، وأن مساندتنا لهم لن تتوقف على مدى نجاحهم أو إخفاقهم في المهام الموكلة إليهم، لذلك لابد من إعطاء أبنائنا الفرص لتجربة مهاراتهم وقدراتهم والتي تختلف بالطبع من طفل لآخر، كما ذكرت، ونستمر دائما في مساندتهم عندما يتعلمون ويتعرضون لمواقف جديدة لم يتعودوا عليها.
فلكي يشعر طفلي بالأمان لابد من إعطائه الزمان والمكان الكافي لكي يجرب ويتعلم بنفسه، وحتى إن فشلوا فلابد أن نبقى بجانبهم طوال الوقت لنشجعهم، فهذا ينمي الثقة المستمرة في النفس؛ لذلك فهناك العديد من الرياضات التي لابد من عرضها على أبنائك مثل الطائرة والسلة والكونغوفو والكاراتيه، ولابد أن يجربوا كلا منها بعد عرض هذه الرياضات عليهم ليختاروا ما يرغبون الاشتراك فيه، ومن خلاله تنمو ثقتهم بأنفسهم.
وكذلك الثبات على المبدأ، مثل أن ننفذ لأبنائنا ما نعدهم به؛ لأننا نعطي لأبنائنا وعودا لا حصر لها خلال سنوات نموهم، وربما لا ننظر لها على أنها وعود، ولكنهم يعتبرونها كذلك، فإذا قلنا لهم إننا سنصطحبهم في وقت معين فإنهم يتوقعون منا ذلك، وإذا كررنا التأخر أو النسيان فإن أطفالنا سيتعلمون أنهم لا يمكنهم الثقة فينا، فمثلا عندما نعجز عن الوصول في الوقت المناسب؛ بسبب أي عارض لابد من الاتصال بهم وإخبارهم بما حدث، ونظهر لهم نفس الاهتمام الذي نظهره للغرباء حينما نتأخر عليهم.
ومن الأشياء المهمة لشعور أبنائنا بالأمان أن نثق فيهم لكي يثقوا في أنفسهم مثل أن يقع أحد أبنائي في مشكلة ما واجتهد هو في حلها فلابد من أن نقدر حلوله المطروحة ونثق في قدرته على تنفيذها، فهذا يعطيه أمنا داخليا بعيد المدى عند أخذه أي قرار في حياته، ولو كان رأيه خاطئا، وتبين ذلك بعد فترة فلا نؤنبه على ذلك، ولكن ندعوه لاختيار البدائل الأخرى المقترحة، فمثل هذه الأساليب تسهم في بناء الثقة في النفس مع الوقت، وهذه الثقة تنمو مع الوقت بإيماننا أن أبناءنا يستطيعون التقدم والتحسن المستمر.
فابنتك الوسطى إذا أعطيت لها حاجتها من الإنصاف والعدل السابق ذكره، مع التشجيع المستمر على كل تقدم ولو بسيطا، تقوم به ليس فقط في الرسم -وهو رائع ما تقومين به من ثناء عليها- ولكن في كل تحسن تحرزه فتكتسب ثقتها بقدرتها على التحسن لمقارنتها بنفسها وليس بأخواتها.
وأحب أن أخبرك أختي أن ابنتك الوسطى ربما يكون عنادها الشديد وسيلة من وسائل الدفاع عن حقها في أن يكون لها مكانة من التقدير تشعر بها من الأسرة، خاصة أنت والوالد؛ لشعورها الدائم بأنها لن تكون مثل الكبرى أو الصغرى؛ لذلك لابد من الانتباه الشديد للمواقف التي تظهر فيها العناد، وملاحظة إذا ما كانت عندها حق في دفاعها عن نفسها نتيجة محاباة أحد أخواتها عليها أو مقارنتها ولو بدون قصد، ومن هنا ستتحسن صورتها الداخلية عن نفسها مع الوقت.
4- الحاجة إلى التقدير:
وهي الرغبة المستمرة من الأبناء في أن يعترف الكبار بهم ويعاملوهم كأفراد لهم أهميتهم بمدحهم على كل ما يصدر منهم من تصرفات إيجابية، وليس فقط على الأشياء الواضحة أو حين حدوث أي تحسن في الدراسة أو في أخلاقهم عموما، فمثلا حين تبادر ابنتك بتنظيف شيء لابد من الثناء الفوري على هذا التصرف، وإذا لم تفعل لا يتم تقريعها ومقارنتها بأخواتها مع إعطائها مهام بسيطة وتشجيعها على تنفيذها، وهذا يساعدها على تحمل المسئولية، وأيضا الحرص على الإنصات إلى الأبناء باهتمام حين يتكلمون فهو من الأمور التي تمنحهم التقدير الذي يحتاجونه.
5- الحاجة إلى المعرفة:
وهي أن يتفقد ويستكشف كل ما تراه عيناه، وهو في الطفولة واضح جدا، ويظل مستمرا لأن الأبناء دائما في حاجة إلى معرفة ما يدور من حولهم، وأن يفهموا لماذا يغضب منهم الآباء أو يعاقبونهم.
6- الحاجة إلى التوجيه والضبط:
والطفل في حاجة دائمة إلى أن نوجهه ونجيب على تساؤلاته التي تسبب له القلق بسبب عدم المعرفة والتي تعلمه السلوكيات الحسنة التي يثاب عليها والسيئة التي يعاقب من أجلها.
ويمكن ذلك بأن نضع قائمة للسلوكيات السيئة لكل طفل والتي يمارسها بصورة مستمرة وتحتاج إلى التغيير، ومن أمثلة هذه السلوكيات الخاطئة في سن 9 -16 سنة أنه لا يؤدي الصلاة بانتظام، لا يقوم بتنظيف حجرته، الجلوس أمام التليفزيون لفترات طويلة، المقاطعة أثناء الكلام.. وهكذا حصر لكل السلوكيات الصادرة من كل ابن ولا تعجبنا، وستعدين 3 قوائم مختلفة لاختلاف أعمار أولادك.
وأضرب لك نموذجا لقائمة من السلوكيات التي يمكنك حصرها من سن الخامسة إلى الثامنة، ومنها: البكاء والعويل ليحصل على مايريد، الشجار مع الأخوة، عدم وضع اللعب في مكانها، مقاطعة الكبار في الحديث.. وهكذا على حسب ملاحظتك لابنتك.
وبعد ذلك نقوم بتحويل هذه المساوىء إلى قواعد، فمثلا سلوك عدم وضع اللعب في مكانها نحوله إلى القاعدة الآتية "يجب وضع اللعب في مكانها بحلول الساعة السابعة كل ليلة"، وكذلك إهمال الواجبات الدراسية نحوله إلى قاعدة "يجب الانتهاء من الواجبات المدرسية قبل مشاهدة التليفزيون ويمنع القيام بها بعد الساعة..".
والخطوة الثالثة إعداد قائمة بخمس امتيازات يتمتع بها كل واحد منهم، وبالطبع فالقائمة للصغيرة تختلف عن امتيازات الوسطى والكبرى، فمثلا من امتيازات الأطفال من 3-8 سنوات اللعب خارج المنزل أو داخله، قراءة القصص، اللعب على الكمبيوتر، ركوب الدراجة، تناول الحلوى.. إلخ،ومن امتيازات الأبناء من 9- 16 سنة المذاكرة مع صديق، الذهاب للنادي، الخروج مع الأصدقاء، استخدام الهاتف، مشاهدة التليفزيون.. إلخ،وامتيازات أخرى لاحظيها وسجليها لمدة يومين أو أكثر قبل شرح النظام للأبناء، حيث تقومين بإعداد القوائم بناء على الملاحظة اليومية لكل ابنة، كل يوم بشكل ثابت لدرجة أن وجودها أصبح من المسلمات كل يوم بالنسبة له.
ثم الخطوة الرابعة نضع الجداول الذكية، والأطفال من سن 3-8 سنوات نستخدم معهم جدول يومي، أما الأكبر فأسبوعي، والجدول اليومي يحتوي على 8 مربعات بينما الأسبوعي على 12، ونضع الامتيازات الأقل أهمية للأبناء في المربعات الأولى والأكثر أهمية في المربعات الأخيرة، بحيث يكون أهم امتياز في آخر.
ونضع تحت الجدول بندان: قاعدة اليوم وأحسن أداء في اليوم السابق للصغار وفي الأسبوع الماضي للكبار.
والخطوة الخامسة هي أن نشرح النظام للأبناء في اجتماع عائلي.
ونلاحظ أن الامتيازات عطاء مادي، وهو مهم جدا بالنسبة لهم، وحرمانهم منه ضروري في حالة عدم تنفيذ القواعد، مع المرونة والتدرج في تطبيقه وتعليمه للأبناء بصورة جيدة، وأن يكون تنفيذه بحزم، وأن يكون الحرمان من الامتياز في مواقف الخطأ وعدم الالتزام بالقواعد المنزلية، ويكون فيه فرص للتنبيه والتحذير التدريجي قبل الحرمان، فلا يتم سحب الامتياز فجأة ولكن هناك4 فرص قبل إنزال المنع.
أختي الفاضلة، التربية بالعطاء مستمرة ودائمة ويحتاجها الأبناء لينمو نموا سليما، أما التربية بالمنع فينبغي أن تكون عارضة ومتقطعة عند عدم الالتزام بالقوانين المنزلية ولكن بعد إعطاء الفرص المناسبة للتعليم والاتفاق على القواعد وشرحها، ثم التدرج في التحذير عند وقوع عدم الالتزام بالقاعدة باعطاء الفرص.
وتمنياتي لك ولأبنائك بالسعادة والهناء،
مواقع النشر