اهــــ(الأحداث)ــــم

• تداول ارتفاع 18.40 نقطة عند 11,830.38 • بيع 100 مليون سهم الاتصالات • القمة العربية الإسلامية • وقف عدوان اسرائيل • انهاء ازمة فلسطين • تقرير: إسرائيل سبب موت وتجويع سكان غزة • احزاب إيران غربية الطابع
النتائج 1 إلى 6 من 6

الموضوع: السيرة النبوية

  1. #1

    نداء السيرة النبوية

    [SIZE="5"][FONT="Arial Black"]السلام عليكم ورحمة الله وبركاته


    السيرة النبوية ولادة محمَّد (ص) : ولادة أمّة شاهدة ورسالة واعدة

    ولادة محمَّد (ص) : ولادة أمّة شاهدة ورسالة واعدة

    يقول اللّه سبحانه في كتابه المجيد: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتّم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم} (التوبة:128)، وقال مخاطباً له: {وإنَّك لعلى خلق عظيم} (القلم:4)، {وما أرسلناك إلاَّ رحمة للعالمين} (الأنبياء:107). وقال مخاطباً المؤمنين الذين يريد منهم أن يؤمنوا به: {فآمنوا باللّه ورسوله النبيّ الأمّي الذي يؤمن باللّه وكلماته واتّبعوه لعلّكم تهتدون} (الأعراف:158).

    ولادة الرسالة من وحي ولادته:

    عندما نتطلّع إلى مولده فإنَّنا نتطلّع إلى ولادة الرسالة من خلال هذا المولد، حيث أعدّ اللّه سبحانه وتعالى في المدة الفاصلة بين هذه الولادة والبعثة المباركة الرسول، ليكون الإنسان الذي يجسّد في انطلاقاته العملية وفي علاقاته العامة، شخصية الإنسان الذي يمكنه أن يقوم بمسؤولية الرسالة في ما يصطفي اللّه سبحانه وتعالى بعض النّاس لرسالته.

    نحن عندما نقف أمام مولده، فإنَّنا نتطلّع إلى الرسالة التي ولدت على يديه من خلال ما أوحى اللّه له، وبالتالي إلى ولادة أمّة إسلامية أراد لها أن تنطلق نحو الأهداف الكبيرة التي يمكن لها أن تتحرّك في الحياة من خلالها.

    ولذلك فإنَّنا عندما نتذكره في ولادته، فنحن لا نتذكر شخصيته في حركة ذاته، وإنَّما نتذكر الرسالة، ونتذكر الأمّة، ونتذكر حركة الرسالة في الأمّة، ونتذكر مسؤولية الأمّة في حمل الرسالة، ونشعر أنَّ النبيّ (ص) عندما صنع هذه الأمّة من خلال الرسالة فقد جعل لها خطّاً عريضاً لا بُدَّ لها أن تتحرّك فيه في كلّ مرحلة من مراحل حياتها: {كنتم خير أمّة أخرجت للنّاس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر} (آل عمران:110).. كنتم خير أمّة أخرجت للنّاس، لا من خلال الصفة القومية، ولا من خلال الصفة الجغرافية، ولا من خلال الألوان، ولكن من خلال الدور الذي إذا أخلصتم له استطعتم أن ترتفعوا إلى المستوى الأرقى في المواقع الإنسانية، وإذا لـم تخلصوا له فإنَّكم إذا لـم تنزلوا إلى المواقع الدنيا، فعلى الأقل لن تحصلوا على قيمة الارتفاع.

    هذا هو الخطّ الذي أراد اللّه للنّاس أن ينتهجوه، وأن يقوم كلّ منهم بدوره في الحياة، لكي يتكرّس المعروف فيها ويتلاشى المنكر منها.

    وهكذا حدّثنا اللّه عن هذه الأمّة التي ولدت على يد الرسول وقال للنّاس كلّهم في مراحل حياتهم: {ولتكن منكم أمّة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون} (آل عمران:104) لا يكفي أن تكون هي الأمّة الآمرة بالمعروف والناهية عن المنكر، بل ليتحمّل الرجال في كلّ مرحلة من مراحل المستقبل مسؤوليتهم في عملية صنع التاريخ. وهذا لا يتأتى إلاَّ من خلال المواصفات التي يجب أن يتمتع بها المجتمع المؤمن والدور الذي يقوم به، حيث يعيش المؤمنون والمؤمنات فيه رجالاً ونساءً بعضهم أولياء لبعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.

    لا نعيش العبث اللاهي في مولده:

    لقد أراد اللّه للأمّة أن تسير في كلّ مرحلة من مراحل حياتها على أساس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا الدور يقوم فيه أفراد المجتمع الإسلامي من المؤمنين والمؤمنات في عملية تكاملية، فيرسمون الخطط ويتوزعون الأدوار فيما بينهم، لهذا نحن في مولده لا نعيش حالة الانفتاح اللاهي كما يفعل النّاس الذين يحتفلون بالمولد النبوي احتفال الغافلين واحتفال العابثين، احتفال فرح لا يحمل عمق الفرح الروحي في داخله، ولا وعي الإيمان المتجذّر في حنايا تلك الروح.

    هذه الاحتفالات التي تُشغل بضجيج موسيقاها الإنسان عن التفكير والتخطيط للمجتمع الذي يحتفل بهذا المولد. فيبقى الاحتفال مجرد زينة وكلمات لا تحمل معنىً كبيراً للإنسان تجعله ينفتح على مسؤوليته في خطّ العمل من أجل أن يصنع مجتمعاً كمجتمع محمَّد (ص)، وأن يختطّ طريقاً كطريقه، وأن يلتزم الأهداف التي التزمها، وأن يعيش الروحية التي عاشها، في مولده لا بُدَّ أن نجلس معه ونعيش في آفاقه وندرس رسالته وندرس مسؤوليتنا تجاه رسالته.

    لقد قدّمه اللّه إلينا: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم} ومن عمق الأرض التي درجتم عليها، ومن قلب المجتمع الذي نشأتـم فيه {عزيز عليكم ما عنتّم} رسولٌ يحمل همّ النّاس ويتألـم لآلامهم، إذا تعب النّاس من حوله فإنَّه يتعب لتعبهم لما يحمله من همّ كبير تجاههم، فيفكر في حلّ مشاكلهم وكيفية التخفيف منها، وما ذلك إلاَّ لأنَّه يعزّ عليه المشقّات والمصاعب والمتاعب التي تحملونها في حياتكم، فيحرص على التخطيط لحلّها، ويسخّر لأجل ذلك كلّ طاقاته ليدفع عنكم كلّ التحديات التي توجَّه إليكم. يحرص عليكم أن تكونوا الأعزاء أمام المجتمع الذي يريد أن يذلكم، والأحرار أمام المجتمع الذي يريد أن يستعبدكم، والعلماء أمام المجتمع الذي يريد أن يجهّلكم، وهكذا، يحرص عليكم ليرفع مستواكم وليؤكد حريتكم وليخطّط لكم السير في خطّ العدالة، خُلُقه الرأفة بكلّ المؤمنين والرحمة لكلّ المؤمنين.

    إنَّ اللّه عندما أراد أن يحدّثنا عن الحالة النفسية للرسول تجاه الأمّة التي أُرسِلَ إليها، كأنَّه يريد أن يقول لكلّ القيادات التي تتحرّك في خطّ رسالته، بأنَّه كان رسول اللّه يفكر في الأمّة، يتألـم لآلامها، فكونوا ممّن يتألـم لآلام الأمّة. كان رسول اللّه لا يعيش لشخصه ولكنَّه كان يعيش لأمّته، فكونوا الذين تعيشون للأمّة ولا تعيشون لأشخاصكم. كان رسول اللّه حريصاً على الأمّة لا يريدها أن تضيع، فكونوا الحريصين عليها. وكان الرسول الرؤوف الرحيم بالمؤمنين فكونوا الرؤفاء بالمؤمنين الرحماء بهم. كونوا الذين يتحمَّلون مسؤولية الإسلام في الأمّة كما يتحمّلون حركة الأمّة في الإسلام. إنَّه كلامٌ يوجَّه لكلّ القادة، ويوجَّه لكلّ المسلمين ليعيشوا هذه الروح في حركتهم التي ينفتحون بها على اللّه وعلى النّاس، لأنَّ اللّه أراد أن نجعل رسوله القدوة لنا: {لقد كان لكم في رسول اللّه أسوة حسنة لمن كان يرجو اللّه واليوم الآخر وذكر اللّه كثيراً} (الأحزاب:21).

    خلق الرسول(ص):

    وهكذا خاطب اللّه الرسول ويريد أن يخاطبنا من خلاله: {وإنَّك لعلى خلق عظيم} الخلق المنفتح على النّاس، الخلق الذي يستمدّ معانيه من خلال أخلاق اللّه، للتخلّق بأخلاق اللّه، فإذا قلتم إنَّ اللّه هو الرحمن الرحيم ففكروا أن تكون لكم أخلاق الرحمة، وإذا قلتم إنَّ اللّه هو العفوّ الغفور ففكروا أن تكون لكم أخلاق العفو والمغفرة، وإذا قلتم إنَّ اللّه هو العزيز القوي ففكروا أن تكون لكم أخلاق العزّة والقوّة، وإذا قلتم إنَّ اللّه سبحانه وتعالى هو العليم، ففكروا أن تكون لكم طاقة العلم في حياتكم. وبتعبير آخر، استهدوا بهدي اللّه وتخلّقوا بأخلاقه كما كان الأنبياء يفعلون ذلك، ولذلك فلا بُدَّ للذين يتبعونك في رسالتك أن يكونوا على خلق عظيم، لأنَّ أخلاق الرسالة تفرض على الإنسان أن يعيش وفق ميزانه الذاتي في الحياة، إذا كان رسولنا ونبيّنا هو الذي يملك الخلق العظيم فلا بُدَّ أن نكون كذلك وأن نتدرب خلقياً وعسكرياً وثقافياً، باعتبار أنَّ ذلك هو الطريق الأجدى للانفتاح على عقول النّاس وقلوبهم، {فبما رحمة من اللّه لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضّوا من حولك} (آل عمران:159). وهذا ما يجعلك تستميل النّاس وتربح مودتهم بدرجة تفوق إخضاعهم بالسّلاح أو بالمال، لأنَّ السّلاح يخضع الأجساد، والمال يخضع العواطف، ولكن بالأخلاق تخضع كلّ كيانهم، وإذا انفتح الكيان كلّه للّه فإنَّه بإمكانك أن تزرع فيه ما تشاء، وأن تلقي إليه ما تشاء.

    لذلك عندما نريد أن نتحمّل مسؤوليتنا كمسلمين يريدون فتح قلوب النّاس على الإصلاح، لا بُدَّ لنا أن نعيش الأخلاق الإسلامية المتوازنة التي تنفتح على الخير والرحمة كلّها والسلام الروحي في كلّ مجالات الحياة {وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إنَّ الشيطان ينزغ بينهم إنَّ الشيطان كان للإنسان عدواً مبيناً} (الإسراء:53)، {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلاَّ بالتي هي أحسن} (العنكبوت:46)، {ادفع بالتي هي أحسن} (المؤمنون:96) معنى ذلك أنَّك عندما تتكلّم فلا بُدَّ أن تختار أحسن الكلمات، وإذا أردت أن تجادل النّاس في ما تختلف معهم فعليك أن تختار أفضل وسائل الجدال، وإذا عشت المشاكل مع النّاس فعليك أن تدفع بالوسائل الأحسن والطرق الأسلم.

    تحسين الخطاب:

    ويعلّمنا اللّه عندما نريد أن نرتفع في مسؤوليتنا، أن نجيد خطابنا الذي نخاطب به النّاس، سواء كنّا نخاطب النّاس اجتماعياً أو اقتصادياً أو سياسياً، أو في بعض القضايا التي تتصل بالعاطفة وما إلى ذلك.

    يجب أن نحسّن خطابنا الاجتماعي والسياسي والعاطفي، ومعنى أن نحسّن الخطاب أن نختار الكلمات والأساليب والأفكار التي تنفذ إلى عقول النّاس ومشاعرهم، لنجذب النّاس إلى أفكارنا، ونجعلهم يؤمنون برسالتنا، ويقفون إلى جانب قضايانا.

    كما علينا أن نبتعد عن استخدام الكلمات والأساليب التي تعقّد النّاس وتبعدهم عنّا، وهذا ما يقدم عليه بعض النّاس الذين يعتقدون بأنَّهم لا يستطيعون أن يتحرّكوا في الحياة إلاَّ بمظاهر القوّة، فيقومون على السبّ والشتم والتهديد، وربَّما انطلق البعض الآخر في إثارة الكلام، وبأنَّه لو لـم يستخدم أساليب التهاويل والتخويف لكان قد استضعفه الآخر، وهكذا، لكنَّ المبدأ الصحيح هو أنَّه لا بُدَّ من إظهار القوّة في ساحات الصراع مع الآخرين، لأنَّ الآخرين عندما يشعرون بذلك فإنَّهم سوف يحسبون للقويّ ألف حساب، ولكن من قال إنَّ القوّة تلتقي مع الشتائم والسباب؟ ومن قال بأنَّ الكلمات الاستعراضية يمكن أن تكون عنصر إيحاء بالقوّة؟ عندما تتحدّث كثيراً وتفعل قليلاً فإنَّ النّاس سوف لا تحترم ما تتحدّث به، لكن عندما تفعل كثيراً وتتحدّث قليلاً فإنَّ الآخرين سوف يلاحقون كلماتك، لأنَّهم يشعرون بحجم قوّتك. قد يتخذ أعداؤنا كلماتنا الانفعالية والاستعراضية سبيلاً للإيحاء إلى شعوبهم البسيطة بأنَّنا أناس تدميريون لا نعرف إلاَّ لغة القتل والتدمير، ولا نتقن لغة الحوار، ولا نملك ذهنية الصراع السياسي. وبعبارة أخرى، قد يوحون للآخرين بأنَّنا لا نتعامل بالوسائل الإنسانية في مسائل الصراع، وبذلك يجعلون شعوبهم قوّة لهم في حركتهم ضدّنا.

    القوّة الواعية:

    علينا أن نكون الأقـوياء، ونعدُّ ما نستطيعه من قوّة {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوّة..} (الأنفال:60)، فإذا أوتيت طاقة جديدة، عليك أن تضيفها إلى الطاقة السابقة ليتولد منها قوّة جديدة، كما علينا أن نطوِّر وسائلنا ونحصِّن إرادتنا وكلّ الأجواء المحيطة بنا، ولكن ونحن في مرحلة الاستعداد ومواجهة الحرب المفروضة علينا لا ينبغي أن نبتعد عن إثارة الرفق، حتى لو كنّا نواجه العنف المفروض علينا بعنف مماثل، لأنَّ كلماتنا هي جزء من الحرب، فكما تحتاج في الحرب إلى قوّة تسقط بها أعداءك فإنَّك تحتاج في الحرب نفسها إلى كلمات تسقط بها حجج أولئك الأعداء. لهذا قال اللّه لرسوله: {وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن} (الإسراء:53) أن يقولوا الكلمات الأفضل التي يمكن أن تحقّق النتائج الكبيرة من دون أن تصنع سلبيات كبيرة. لذلك علينا أن نقلّل من إثارة كلمات العنف ولا نتحدّث بها كيفما كان، بل أن نتحدّث بها حيث تدعو الحاجة إلى أن نُطلق شعار العنف في الساحة، لأنَّ الساحة قد تحتاج إلى مثل هذا الشعار.

    وهكذا علينا أن لا نستهلك لغة السباب في كلّ صراعاتنا، وقد قال اللّه في ذلك: {ولا تسبّوا الذين يدعون من دون اللّه فيسبّوا اللّه عدواً بغير علم كذلك زيّنا لكلّ أمّة عملهم} (الأنعام:108) بأن لا تسبّ لأنَّ هذا السبّ يحدث ردّات فعل يجعل الآخرين يسبّون مقدساتك ورموزك ويكون البادي أظلم.

    مسؤوليتك أن تبلّغ:

    ولقد وضع لنا النبيّ (ص) استراتيجية لنتحرّك فيها، ففي الوقت الذي كان يفسح المجال فيه للعنف القوي أن يتحرّك في الساحة ضدّ الذين يريدون أن يفرضوا موقفهم على الواقع الإسلامي من خلال العنف، نراه كان لا يتفوَّه بكلمة شتم أو كلمة عنف. إنَّ علينا أن نختار الكلمات من خلال مصلحة الرسالة ومصلحة الهدف الكبير، لتكون كلماتنا تعبيراً عن استراتيجيتنا وعن خطّتنا المتوازنة الحكيمة.

    ونحن مع رسول اللّه (ص) قد نلتقي بما كان يلتقي به من حالات نفسية عندما كان يدعو النّاس إلى الخير والإسلام، فكان النّاس يواجهونه بالقوّة والشدّة والإنكار والرفض، وكان يشعر بأنَّ عليه أن يبذل جهداً كبيراً في سبيل إقناع الآخر بالدعوة وبالرسالة، فكان ينطلق في الصباح ليحدّث هذا فيهرب منه ويحدِّث ذاك فيشتمه ويحاول أن يمارس العنف معه، وهكذا يأتي إلى البيت متعباً مجهداً يعيش الحزن في نفسه. ولكنَّ اللّه يريد أن يقول له لماذا تحزن ولماذا تنزعج عندما يكذِّبونك ويرفضونك، فإنَّ النّاس لا يكذبونك ولا يرفضونك بشخصك ولكنَّهم يكذبون اللّه.. أنت أدّيت رسالتك، وسواء قبلها النّاس أو رفضوها فتلك مشكلتهم، فقد أقام اللّه عليهم الحجّة بذلك، أمّا أنت فارجع إلى بيتك راضياً مرضياً، سواء حصلت على هدايتهم أم لـم تحصل {ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر إنَّهم لن يضروا اللّه شيئاً} (آل عمران:176). إنَّ اللّه لا تنفعه طاعة المؤمنين ولا يضره كفر الكافرين {... إنَّه ليحزنك الذي يقولون فإنَّهم لا يكذبونك ولكنَّ الظالمين بآيات اللّه يجحدون * ولقد كذّبت رسلٌ من قبلك فصبروا على ما كذّبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدِّل لكلمات اللّه ولقد جاءك من نبأ المرسلين} (الأنعام:33ـ34).

    {واصبر وما صبرك إلاَّ باللّه ولا تحزن عليهم ولا تكُ في ضيق ممّا يمكرون * إنَّ اللّه مع الذين اتقوا والذين هم محسنون} (النحل:127ـ128). هذا رسول اللّه يقول اللّه له لا تحزن، فدورك أن تقول الحقّ {وقل الحقّ من ربِّكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} (الكهف:29). وأنتم المؤمنون الدعاة إلى اللّه عندما تدعون النّاس إلى الإيمان، سواء كان النّاس أهلكم أو أقرباءكم أو أصدقاءكم، أو كلّ النّاس من حولكم، فلا يتقبلون منكم، فيرفضونكم أو يشتمونكم أو يتحدّثون عنكم بطريقة غير سليمة، إنَّكم أدّيتم رسالة اللّه وقمتم بدوركم ويمكنكم أن تكرروا المسألة أولاً وثانياً وثالثاً ولكن عليكم أن لا تحزنوا.

    هذا درسٌ يريدنا اللّه أن نتعلّمه لكي لا نسقط أمام كلِّ حالات التجريح وكلّ حالات التشويه التي يتّهم بها النّاس الدعاة إلى اللّه.

    دورنا نصرة اللّه:

    لا بُدَّ لنا أن ننطلق في الحياة لنستجيب لنداء اللّه.. نحن أنصار من؟ بعضنا يقول نحن أنصار فلان، نحن جماعة فلان أو حزب فلان. النّاس عادة ينتمون إلى النّاس حولهم، ولكنَّ اللّه يريدنا أن نعطي صفة الانتماء إليه. فنحن عباد اللّه، واللّه سبحانه ينادينا: {يا أيُّها الذين آمنوا كونوا أنصار اللّه كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى اللّه قال الحواريون نحن أنصار اللّه} (الصف:14)، هذا نداء إلهي لنا في كلّ حركتنا في الحياة، علينا أن نختزن في مراحل شخصيتنا في كلّ حياتنا أنَّه ليس دورنا أن ننصر زيداً أو عمرواً أو ننصر عشيرة أو جماعة، بل دورنا أن ننصر اللّه فإذا كان هناك من النّاس من تكون نصرته نصرة اللّه لأنَّه يعمل في سبيل اللّه ولأنَّه يجاهد في سبيل اللّه فعلينا أن ننصره، لا بشخصه بل لأنَّه مجاهد في سبيل اللّه وأنَّه داعية إلى اللّه وأنَّه عامل من أجل اللّه. أن لا تكون نصرتك للنّاس من خلال العلاقات الخاصة التي تربطك بهم، بل أن تكون نصرتك للنّاس من خلال العلاقة الإيمانية التي تربطنا باللّه وتربطهم باللّه، وهذا أمر قد نجده سهلاً عندما نسمعه لكنَّه صعب عندما نمارسه، لأنَّنا اعتدنا على أن ننصر النّاس الذين نرتبط معهم برباط العصبية حتى على حساب إيماننا.

    فلو حصل خلاف بين شخصين الأول قريب لنا في العائلة والآخر قريب لنا في الإيمان ودار الأمر بين أن ننصر ابن العائلة أو ابن إيماننا فكم من النّاس من يغلّبون ابن الإيمان على ابن العائلة؟

    بعض النّاس من المؤمنين يحاول أن يغلِّب عصبيته لابن عائلته، واتهام ذلك المؤمن بأنَّه ليس بمؤمن. فالأمر صعب، أن تنطلق على أساس الإيمان باللّه وأن تكون من أنصار اللّه، بأن تنصر من تكون نصرته نصرةٌ للّه، وإذا استطعت أن تفعل ذلك فعليك أن تبتعد عن كلّ النّاس من حولك وتلتحق بأولئك الذين تكون بينهم وبين اللّه علاقة.

    هكذا كان حال الحواريين الذين اتّبعوا عيسى (ع)، فانفصلوا عن كلّ مجتمعهم ولـم تعد لهم صلة به إلاَّ من خلال صلة المجتمع بهم.

    هذا ما نحتاج أن نعيشه في نفوسنا قبل أن نطلقه في شعاراتنا. لا يكفي أن تقول إنّي من أنصار اللّه، بل ادخل إلى نفسك وحاول أن تختبرها؛ هل تنصر اللّه في حركتك في الحياة، أو تنصر النّاس الآخرين في هذا المجال؟ وعليك عندما تتحرّك في الحياة أن لا تتعقّد من الأعداء، ولا ممّن يشردونك أو يشتمونك، لأنَّه من الأمور الطبيعية أن يكون للإنسان الذي يحمل رسالة أعداءً، باعتبار أنَّ رسالته تتحدى مصالح المستكبرين ومخططاتهم ونزوات المنحرفين وشهواتهم. وقد أشار اللّه سبحانه وتعالى إلى ذلك بقوله: {وكذلك جعلنا لكلّ نبيّ عدواً شياطين الإنس والجنّ} (الأنعام:112) المهم أن لا تتعقّد ولا تتراجع ولا تسقط. {وكذلك جعلنا لكلّ نبيّ عدواً من المجرمين وكفى بربِّك هادياً ونصيراً} (الفرقان:31)، فمن يحمل رسالة النبيّ سيكون له أعداء من المجرمين وشياطين الإنس والجنّ، لذا أن تفكر بحمل رسالة ورفع مصير أمّة والانطلاق في الحياة من خلال القضايا الكبيرة ولا أحد يشتمك أو يضيّق عليك أو يتحداك فعند ذلك يكون بقاؤك في منزلك أفضل وأسلم.

    مميزات المجتمع الرسالي:

    وهكذا حدّثنا اللّه عن مجتمع رسول اللّه، وعن التمازج بين رسول اللّه في أخلاقه وصحابته في أخلاقهم، ما جعل هذه الطليعة المسلمة الواعية تتحمّل مسؤولية إيمانها في كلّ مواقعها الروحية والفكرية والعملية. وهذا ما يمكن أن نستوحيه في مسيرتنا لنقتدي بذلك، لأنَّ اللّه لـم يبعث رسولاً ليؤسس مجتمعاً في زمانه ثمَّ يترك الأزمنة التي تليه لتصنع المجتمع وفق هواها. وإنَّما أراد لرسول اللّه (ص) أن يصنع مجتمعاً رسالياً لتتحرّك المجتمعات الرسالية من بعده فتكون الحياة كلّها امتداداً له يركّز عناصره وقد أعدّه في كلّ مرحلة من مراحله: {محمَّدٌ والذين معه أشداء على الكفّار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجّداً يبتغون فضلاً من اللّه ورضواناً سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرعٍ أخرج شطئه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزرّاع ليغيظ بهم الكفّار وعد اللّه الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيماً (الفتح:29).

    هذه هي صورة المجتمع الذي تعيش فيه القاعدة مع القيادة، فلا تستعلي القيادة على القاعدة حتى لو كانت القيادة في أعلى درجات العلوّ الحقيقي فيما هي الدرجة عند اللّه. وبهذا نفهم حقيقة إسلامية في هذا الاتجاه، وهي أنَّ القيادة لا تلغي القاعدة، فالأمور في كلّ ما تحقّقه المسيرة لا تُنسب إلى القائد، بل إنَّ اللّه يقدّر للذين صنعوا الفتوحات فتوحاتهم مع القيادة، ويقدّر للذين قاموا بأعمالهم الكبيرة عملهم مع القيادة، ولهذا فإنَّه يعطيهم الدور ليقول من خلال ذلك لكلّ قائد في أيّ موقع من مواقع القيادة، سواء كان الموقع موقعاً رسالياً أو اجتماعياً أو سياسياً، إنَّك قد تكون هيّأت للنصر أيُّها القائد بفكرك وبخططك، ولكنَّ الذين معك هم الذين نفَّذوا الخطّة، وهم الذين أكّدوا قواعد النصر، وأعطوا عناصر النجاح من خلال ما يعيشونه في أنفسهم من روحية وعطاء ودفق إيماني.

    إنَّ الإسلام يريد أن يصنع قيادات تُشعر النّاس الذين يعيشون معها بأنَّ لهم الدور الكبير في كلّ ما يمكن أن يتحقّق في الحياة من انتصارات ونجاحات ومشاريع كبيرة، وهكذا كان محمَّد رسول اللّه والذين معه.

    كان المسلمون ـ ككلّ مجتمع من المجتمعات يملك خصوصية تجمع أفراده ـ يتحرّكون في دائرتين: الدائرة الأولى هي الدائرة الإسلامية في الداخل، والدائرة الثانية هي دائرة الكافرين الذين كانوا يحيطون بهم من كلّ جانب.

    ودائرة المسلمين هي دائرة المجتمع الذي يحتاج إلى أن يعيش كلّ فرد من أفراده مسؤولية قوّته وتوازنه وثباته. أمّا دائرة الكفر فهي الدائرة التي ينطلق فيها الكفّار الذين وقفوا في موقف التحدي أمام المسلمين من أجل أن يوقفوا حركة الإسلام وأن يخرجوا المسلمين عن إسلامهم، أو يقضوا عليهم، لذلك كان المسلمون في هاتين الدائرتين يحتاجون إلى عنصر أخلاقي يتحرّك بطريقة معينة في الدائرة الأولى ويتحرّك بطريقة أخرى في الدائرة الثانية.

    عندما تتحرّك في دائرتك، فقد يخطئ البعض وقد ينحرف، وهنا يجب على كلّ فرد من أفراد هذا المجتمع أن يعيش أخلاقية الرحمة في نفسه تجاه النّاس الذين معه، لتشيع الرحمة بينهم وتوحي إليهم بأنَّ هناك رابطة تربطهم فتجعل مصيرهم واحداً، بحيث إنَّ أيّة مصيبة تصيب واحداً منهم فإنَّها لا تقتصر عليه بل تشمل الآخرين، وأيّ خيرٍ يحصل لأحدهم فإنَّه يشمل الآخرين أيضاً، ما يجعل كلّ واحد منهم يشعر أنَّه يرتبط بالآخر ارتباطاً عضوياً، مصالحه مصالح الآخر وآلامه آلامه. ولذلك فإنَّ عليه أن يصبر على الآخر فيرحمه ولا يستعجل في مواجهته عندما يخطئ، ولا ينطلق على أساس العنف عندما يسيء، بل لتكن الرحمة طابع المجتمع، فإنَّ نبيّ هذه الأمّة كانت صفته الرحمة، ولا بُدَّ أن يكون هو القدوة {وما أرسلناك إلاَّ رحمة للعالمين} (الأنبياء:107)، {فبما رحمة من اللّه لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك} (آل عمران:159). ولذا لا بُدَّ أن يكون المجتمع الإسلامي مجتمع الرحمة، ترحم مجتمعك بأن تصبر على أخطائه، وإذا أردت أن تعالجها فلا تعالجها بروح القسوة والعنف، بل عالجها كما يعالج الطبيب مريضه علاج الرحمة.

    إنَّ الإسلام يصوّر لنا مجتمع الرسول (ص) الذي انطبع بأخلاقه وشخصيته، واستطاع من خلال هذه الأخلاق التي شملت الواقع الإسلامي أن يحصل على العنصر الأساسي الذي أعطاه القوّة، ومواقع القوّة الاجتماعية التي انطلقت من تعامله الإنساني مع الآخر، لأنَّ أخلاق القوّة ليست هي أخلاق العنف، بل قد تكون أخلاق اللين عندما يتحرّك اللين ليجعل المجتمع مجتمعاً واحداً يرتبط بالرباط الإنساني.

    إنَّ اللّه يحدّثنا أنَّ الرحمة ليست مجـرّد خُلُق نعيشه، بل هي مسؤولية عليك أن تتحمّلها {ثمَّ كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالرحمة} (البلد:17)، أن توصي أخاك بأن يرحم أخاه، فتكون الرحمة وصيّة المؤمنين في مجتمعهم، لكي لا تأخذ المشاكل حريتها في الحركة وتسيطر على مواقع الأمن الاجتماعي لتنسفه {إنَّما المؤمنون أخوة فأصلحوا بين أخويكم} (الحجرات:10) انطلقوا بفعل الرحمة للمتخاصمين بأن تدخلوا بينهم، فلا تسمحوا للمشاكل بأن تتعقد بحيث تتحوّل إلى مشاكل مستعصية تحرق الأخضر واليابس، فلو أصرَّ أحدهم على البقاء في مواقع البغي، فإنَّه يجب على المجتمع أن يتحرّك على أساس الرحمة بإجراء عملية جراحية ينقذ بها نفسه {وإنَّ طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر اللّه فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إنَّ اللّه يحبّ المقسطين} (الحجرات:9).

    إنَّ المجتمع الإسلامي مجتمع الرحمة بين أفراده، فلنقدر الظروف وننطلق من موقع المحبة في كلّ ما نمارسه، وفي هذا كان المسلم يعيش همّ المسلم الآخر.

    عندما انطلقت الدعوة الإسلامية في المدينة، وأصبحت المدينة الركيزة الأساسية للمسلمين، جاء المهاجرون من مكة حيث لا مال عندهم ولا ثياب ولا سكن، لأنَّ قريشاً شردتهم من ديارهم من دون أن تمنحهم فرصة ليأخذوا معهم ما يتّخذوه أساساً لحياةٍ جديدة، فأضحوا بذلك في موقعهم الجديد محتاجين، فكيف واجههم الأنصار في المدينة؟ إنَّ اللّه يحدّثنا عن ذلك فيقول للفقراء المهاجرين: {الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من اللّه ورضواناً وينصرون اللّه ورسوله أولئك هم الصادقون} (الحشر:8)، وقد يتضايق النّاس من المؤمنين ومن المجاهدين إذا حمَّلوهم مسؤوليةً أو احتاجوا إليهم، ولكن ما حدث مع أهل المدينة كما عبّر عن ذلك القرآن بأنَّهم: {والذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم يحبّون من هاجر إليهم... } (الحشر:9) قلوبهم مفتوحة لكلّ المهاجرين إليهم {الذين أخرجوا من ديارهم بغير حقّ إلاَّ أن يقولوا ربَّنا اللّه} يحبّونهم، شعورهم نحوهم ليس مجرّد شعور الإنسان عندما يلتقي بإنسان من خلال انتمائه، ولكنَّه شعور الإنسان الذي يحبّ كلّ إنسان آمن باللّه وجاهد في سبيله، لهذا كانت المحبة هي الشعور الغالب لكلّ هؤلاء الذين تبوأوا الدار والإيمان، لأنَّهم يشعرون بأنَّ علاقة الإيمان تفوق علاقة المحبة. إذاً وبتعبير آخر، فالإيمان ليس مجرّد حالة عقلية تعيشها من خلال ما تحمله من فكر، بل هو حالة شعورية عميقة تشعر فيها بالعاطفة تّجاه كلّ من يحمل هذا الإيمان، لأنَّ معنى أن تحبّ اللّه أن تحبّ من أحبّ اللّه وأن تحبّ من أحبّه اللّه. وبتعبير آخر، إنَّ الإيمان حركة فكر في عقلك وحركة عاطفة في قلبك {يحبّون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة ممّا أوتوا} (الحشر:9)، لا يشعرون في صدورهم بأيّ حرج أو ضيق أو مشكلة {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة} (الحشر:9)، كانوا يمنعون أنفسهم من المال الذي يحتاجون إليه ومن الغذاء الذي يقتاتون به ليعطوه للمهاجرين {ومن يوق شُحَّ نفسه فأولئك هم المفلحون} (الحشر:9)، هذا مظهر من مظاهر الرحمة. وبذلك انطلقت الرحمة لتكون مصدر قوّة لهم، لأنَّ المجتمع الذي يعيش الحالة الشعورية المترابطة فيما هي العاطفة والشفقة والرحمة هو مجتمع لا يستطيع الآخرون أن ينفذوا إلى داخله، لأنَّ الرحمة تسدّ الثغرات التي يستغلها الآخرون وتمنعهم من النفاذ إلى داخل البيئة الاجتماعية.

    سمات المجتمع المسلم:

    كيف ينفذ الآخرون إلى مجتمعاتنا؟!! إنَّهم ينفذون لأنَّنا لا نعيش بشخصية المجتمع ولكنَّنا نعيش بشخصية الفرد، من الطبيعي أن أعيش معك وتعيش معي في بيت واحد، ولكن عندما تفكر في نفسك بصفتك الفردية، وأفكر في نفسي بصفتي الفردية، فمعنى ذلك أنَّه لا رابطة بيننا وإن كان البيت يضمّنا معاً. إنَّنا عندما نكون أفراداً مجتمعين في مكان واحد لا تربط بيننا رابطة عضوية ولا تحكمنا حالة شعورية عاطفية، فإنَّ معنى ذلك أنَّ الثغرات تعيش في حياتنا بشكل طبيعي جداً. ويمكن أن ينفذ منها كلّ النّاس، ولذلك فإنَّ الأعداء عندما ينفذون إلى أيّ مجتمع إنَّما ينفذون إليه لأنَّ أبناءه لا يُمثّلون مجتمعاً مترابطاً، بل أفراداً متفرقين يتحرّك كلّ منهم في دائرته الخاصة وإن جمعهم تجمُّع واحد. وحدهم المؤمنون الذين يعيشون الإيمان بعمق ويخلصون للّه بعمق، هم الذين يعتبرون الترابط فيما بينهم أمراً أساسياً، بحيث لا يسمح إيمانُ أيِّ إنسان منهم أن ينفصل عن أخيه أو أن لا يعيش همّ أخيه، بحيث إنَّه لو فقد اهتمامه بآلام إخوانه فإنَّه يخرج عن الإسلام «مَثَلُ المؤمنين في توادّهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى»، هذا هو مثل المجتمع المؤمن. وهكذا نجد: «لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه ويكره له ما يكره لها»، ومن الصعب أن يربي الإنسان نفسه هذه التربية: أن يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه. ثُـمَّ »من لـم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم«، و »من سمع رجلاً ينادي يا للمسلمين فلم يجبه فليس بمسلم«.

    ومن هنا نرى أنَّ الإسلام يركّز على العلاقة التي تجعل الإنسان يعيش الشعور بالآخرين من المؤمنين كما يشعر بنفسه، والمسألة تحتاج إلى تربية ومعاناة وجهاد نفس ووعي للإسلام. وهكذا استطاع ذلك المجتمع المسلم الصغير بالرغم من وجود نقاط الضعف والمشاكل فيه أن يشكل قوّة {أشدَّاء على الكفّار} (الفتح:29)، وهذه صفة ثانية من المواصفات التي أودعها اللّه في المؤمنين، بأنَّهم يقفون بقوّة أمام مجتمع الكفر والاستكبار والظلم الذي يحاول قهر المجتمعات الأخرى، ولأجل ذلك يستنفرون كلّ عناصر القوّة وكلّ عناصر الشدّة وكلّ عناصر العنف في مواجهة الذين يريدون أن يفرضوا عليهم سيطرتهم من مواقع الشدّة والقوّة ليكونوا الأقوياء في هذا المجال، لأنَّ القرآن كان يحشد القوّة في نفوسهم ويحشد الشدّة في كلّ مواقفهم: {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين * إن يمسسكم قرحٌ فقد مسّ القومَ قرحٌ مثله وتلك الأيام نداولها بين النّاس} (آل عمران:139ـ140)، وهذا ما نحتاج إلى أن نعيشه إلى جانب أن نكون الرحماء فيما بيننا، أن نكون الأشداء على كلّ الذين يريدون أن يحاربونا في ديننا أو في حريتنا أو في عزّتنا أو في كلّ مواقع العدالة في مجتمعنا، فلا نستسلم لهم ولا نضعف أمامهم ولا نسترخي عندما يواجهوننا بالتحديات .. أن لا نعاونهم ولا نتجسس لهم، وأن لا نكون الجنود الذين يحاربون معهم ولا الأصوات التي تؤيدهم أو تبرر ظلمهم. من يفعل ذلك فهو خارج عن خطّ رسول اللّه ودائرته ودائرة المسلمين وداخلٌ في دائرة الكافرين.. فأيّ كفر أعظم من أن تعين الكافر والظالـم على أخيك.. أيّ كفر عملي أعظم من ذلك.. فما قيمة أن تكون مؤمناً بلسانك إذا كانت كلّ حياتك حركةً في اتجاه تقوية الكفر ودعمه أيّاً كانت مواقع الكفر، سواء كانت مواقع ثقافية أو سياسية أو أمنية واقتصادية. فالذين يتجسّسون للكافرين في الداخل والخارج ويعملون على تمكينهم من المؤمنين هم في دائرة الكفر لا في دائرة الإسلام. فإنَّ هؤلاء خانوا اللّه ورسوله، وغداً يوم القيامة سيحاسبهم حساباً عسيراً... أن نكون أشداء على الكفّار لا أن نكون أشداء لمصلحة الكفّار ولا أن نكون جنوداً لهم ومخابرات.

    الصفة الثالثة {تراهم ركّعاً سجَّداً} إذا كنت تريد أن تدخل في مجتمع رسول اللّه وأن تنال محبته شفاعته، أخلص للّه في عبوديتك، كن الراكع للّه بعقلك وبقلبك، كن الساجد للّه بعقلك وبقلبك، لأنَّ الكثيرين يسجدون للّه على جباههم، ولكنَّهم يسجدون للشيطان في عقولهم وقلوبهم، أن تكون قريباً إلى اللّه في سجودك إذا توافق سجودك الجسدي مع سجودك القلبي للّه، بحيث كان قلبك خاضعاً للّه ساجداً له تماماً كما هي جبهتك ساجدة له. فالمؤمنون في مجتمع الرسول (ص) كانوا يعيشون ذلك، يركعون ويطلبون من اللّه أن يمنحهم فضله، يسجدون وقلوبهم متعلّقة بكلّ ما يمنحهم اللّه من فضله {سيماهم في وجوههم من أثر السجود} (الفتح:29)، لأنَّ السجود كان طبيعةً من طبائع حياتهم لذلك أثرّ على جباههم تأثيراً طبيعياً.

    وفي هذا الجو أحبّ أن أؤكد أنَّ التركيز الإلهي جاء على أنَّ مجتمع الرسول (ص) هو مجتمع الراكعين الساجدين الذين يبتغون من اللّه فضلاً ورضواناً، وهذا يعني أنَّ الجانب الروحي الذي ينفتح على اللّه من خلال مواقع العبادة للّه والخضوع له والابتهال إليه يعتبر الأساس في حياة المسلم، أن تربي نفسك على أن تكون الراكع للّه بقلبك وعقلك وضميرك وحياتك وجبهتك، وأن تكون الساجد للّه في ذلك كلّه، أن تكون روحيتك منفتحة على اللّه، وأن يكون قلبك خاشعاً للّه، وأن تكون كلّ حياتك بين يدي اللّه، لأنَّه لا يكفي أن تكون مسلماً بكلامك وبفكرك وجهادك ما لـم تكن مسلماً بروحك المنفتحة على اللّه والخاشعة له {الذين إذا ذكر اللّه وجلت قلوبهم وإذا تُليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربِّهم يتوكلون} (الأنفال:2) لهذا أؤكد على التربية الروحية، فلنربّ أنفسنا وندربها على أن ننمي روحيتنا بانفتاحنا على اللّه، لأنَّنا كلّما استطعنا أن نحصل على الانفتاح على اللّه أكثر وعلى القوّة الروحية أكثر كلّما كنّا الأقوى في مواجهة الشدائد.

    وبما أنَّ الرسول (ص) هو القدوة والأنموذج، فإنَّنا نجد أنَّ هذه القوّة الروحية المنفتحة على اللّه تنجلي في مواجهته لقريش، وممّا يروى عنه أنَّه كان يسهو أثناء اشتداد المعركة ويقول: »يا عليّ يا عظيم«، كأنَّه يقول: يا ربّ إنَّ الموقف في هذه المعركة هو موقف إمّا أن يكون العلو فيه للمسلمين وإمّا للمشركين، وأنت العليّ فأعطنا العلوَّ وأنت العظيم فأعطنا العظمة، وهكذا كانت طاقة رسول اللّه الروحية هي التي استطاعت أن تثبته في أشدّ المواقف قساوة، ونحن نحتاج إلى هذا الانفتاح على اللّه، وهذه المحبة للّه، وهذه العبادة للّه حتى نستطيع من خلال ذلك أن نحمي بعضنا من بعض وأن نحمي أنفسنا من خطر غرائزنا، وأن نثبت أقدامنا يوم تزلّ فيه الأقدام، لذا فإنَّ الذين يركعون على أبواب السلاطين ويسجدون على أعتاب المستكبرين ويستنكفون أن يركعوا للّه وأن يسجدوا للّه ويسخرون من الذين يصلون، فهؤلاء ليست لهم علاقة بالإسلام ولا باللّه، وإنَّما تنحصر علاقتهم بالكفر، فمن يفعل ذلك كلّه كيف نصنفه في دائرة المسلمين.

    {يبتغون فضلاً من اللّه ورضواناً} أن يكون ذلك تفكيرهم في الليل والنهار، فهم عندما يتكلّمون يسألون أنفسهم: هل للّه رضىً في هذه الكلمة؟ عندما يعملون يتساءلون هل في هذا العمل رضى للّه؟ عندما يؤيدون هل في هذا التأييد رضى للّه؟ عندما يرفضون هل في هذا الرفض رضى للّه؟ إنَّهم لا يتحدّثون عن رضى زيد وعمرو، بل كلّ همّهم أن يرضى اللّه عنهم، وإذا رضي اللّه عنهم فلا يبالون أوقعوا على الموت أم وقع الموت عليهم »إن لـم يكن بك غضبٌ عليّ فلا أبالي« هذه هي الروح التي كان يعيشها ذلك المجتمع المسلم.

    ومسألة أن نكون كذلك صعبة شاقة، لكنَّ الإنسان الذي يدرب نفسه على الصعب سوف يتحول الأمر الصعب عنده إلى أمر سهل... أن ندرب أنفسنا على كلّ هذه الأخلاق الإسلامية، لنعتبر حقيقة واحدة، هي أنَّ الكثيرين منّا يعتبرون الحياة فرصة للراحة وفرصة للاسترخاء، ولذلك يثقلهم التعب وتثقلهم المسؤولية، لكن عندما نعرف أنَّنا خلقنا للآخرة من خلال الدنيا، وأنَّ الدنيا مزرعة الآخرة، وأنَّنا هنا في مواقع العمل {يا أيُّها الإنسان إنَّك كادح إلى ربِّك كدحاً فملاقيه} (الانشقاق:6) الدنيا ليست فرصة للراحة، وإن كان اللّه لا يمنعك أن ترتاح فيها، لكن علينا أن لا تكون الراحة هدفنا. أن لا تكون اللذات والشهوات والسعادة الدنيوية كلّ طموحاتنا، أن نعتبر أنَّ ما بين أيدينا من أموالنا ومن كلّ ما يحيط بنـا هو حاجة، أمّا هدفنا فهو رضى اللّه، ولذلك فإنَّ علينا أن نحرّك كلّ طاقاتنا في هذا الاتجـاه، حتى نحصل على الراحة هناك، ونحصل على رضوان اللّه، هناك وبذلك فإنَّ الملائكة تستقبلنا {سلام عليكم بما صبرتـم فنعم عقبى الدار} (الرعد:24).
    التعديل الأخير تم بواسطة عابر سبيل ; May 22nd, 2008 الساعة 01:06



    !!!

  2. #2

    افتراضي

    اللهم صلى وسلم على نبينا محمد


    هذا ما كنا نخشاه ان يتم وضع مواضيع لا يتم قارئتها او معرفة مصدرها

    اود من الاخ الكريم مشرف المجلس الدخول الى الرابط لمعرفة المصدر

    فهو مخالف ضوابط المنتدى




  3. #3

    افتراضي

    تم حذف الرابط ولي وقفه مع ما كتب

    ولك مني الشكر الجزيل اخي الغالي / ابن البد

    ورساله للاخ ابو فيصل الرجاء ملاحظة المواضيع ومعرفة صحتها

    وعدم وضع روابط مخالفة

    ولك مني جزيل الشكر

  4. #4

    افتراضي

    عابر سبيل

    جزاك الله خير على مرورك على الموضوع والتعليق

    لك مني أجمل تحية .



    !!!

  5. #5

    افتراضي

    ابن البلد

    جزاك الله خير على مرورك على الموضوع والتعليق

    لك مني أجمل تحية .



    !!!

  6. #6
    الرائد7

    افتراضي

    السلام عليكم
    كان المرور متأخرا..
    فبارك الله جهدك أخي عابر سبيل
    وشكر الله لك أخي ابن البلد

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. ماذا تتوقعون داخل هذه الشجرة
    بواسطة !!مذهلة!! في المنتدى خواطر
    مشاركات: 12
    آخر مشاركة: October 22nd, 2009, 00:27
  2. اسطوانة السيرة النبوية الشريفة
    بواسطة !!مذهلة!! في المنتدى منتدى محـو اُمّـيّـة التقنية
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: October 7th, 2009, 00:48
  3. الرحيق المختوم سلسلة حلقات تاريخية في السيرة النبوية
    بواسطة أم مالك الأزدية في المنتدى مُحَمَّد ﷺ
    مشاركات: 58
    آخر مشاركة: September 28th, 2009, 01:57
  4. قصه تهمك..... فلذة كبدي
    بواسطة المغتربه في المنتدى منتدى محـو اُمّـيّـة التقنية
    مشاركات: 6
    آخر مشاركة: June 17th, 2008, 00:13
  5. ليتني مثل تلك الشجرة
    بواسطة ابو فيــصل في المنتدى قُرّاء
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: May 15th, 2008, 15:01

مواقع النشر

مواقع النشر

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  

تنفيذ شركة تصميم مواقع الانترنت توب لاين
روابط مهمه روابط مهمه تواصل معنا
تواصل معنا