الرياض: بدر الخريف (الشرق الأوسط) : تكشف رحلة الحاج محمد صالح (تاكيشي سوزوكي) إلى الأماكن المقدسة في السعودية قبل حوالي 70 عاما عن جوانب لواقع الحياة في الدولة الناشئة أيام الملك المؤسس عبد العزيز.
مطار جدة (الأقدم) اواخر بداية الستينات الهجرية (بدر بدره) - العصر
أدى مناسك الحج 3 مرات.. وأعطى وصفا لواقع الحياة في السعودية بكل أبعادها
* الحاج الياباني قال عن المؤسس: النصر يواكبه حيث مضى.. وحليفه على جميع أعدائه
* وصف الملك بالشخصية القديرة والسياسي البارع والبطل الذي لا يقهر
فالياباني الذي عشق وطنه وتغنى بمحاسنه وعمل من أجله، واعتنق الاسلام بعد أن عاش بين المسلمين في جزر اندونيسيا عدة سنوات، دوّن مذكراته عن رحلته الثالثة الى الأماكن المقدسة وأدى خلالها مناسك الحج بعد رحلتين سابقتين للهدف ذاته، وأثمر ذلك عن تأليف كتاب عُد نموذجا متكاملا للنمط الأدبي المعروف بـ «أدب الرحلات»، وهو النمط الذي له علاقة بجميع العلوم الاجتماعية، ويستفيد من كتاب السير وعلماء الجغرافيا والاجتماع واللغة.
الملك عبد العزيز يتشرف بغسل الكعبة المشرفة بماء زمزم الممزوج بالورد
ومعه ولي العهد الأمير سعود بن عبد العزيز
واللقطة من فيلم استديو مصر الذي صور الحج عام 1357هـ 1938م
وسجل الرحالة في مؤلفه الذي عنونه باليابانية (الحج إلى مكة المكرمة) وترجم الى العربية بعنوان (ياباني في مكة) معلومات تتعلق بالاسلام ومبادئه، وعن الرحلة ذاتها، والظروف التي دفعته الى القيام بها، مركزا على الأمور الجغرافية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والعمرانية، ووصف الطرق والعمران والمرافق، والظواهر المناخية، ووجه عناية خاصة للأمور الاجتماعية من خلال تناوله للانسان، وفئات المجتمع، وطبقاته، ووضع الرجال والنساء في المجتمع.
ورسم المؤلف في كتابه صورة للملك عبد العزيز الذي شاهده عن قرب والتقى به، وقد خصه الملك دون غيره من الحجاج باللقاء أطول وقت ممكن، حيث أوقفه بجانبه طوال مدة مصافحته لوفود العالم الاسلامي التي قدمت للسلام على الملك المؤسس في حج عام 1356هـ (1938)، فرسم المؤلف للملك صورة دقيقة الملامح، جميلة القسمات، خطها بأصدق الكلمات وأوضح العبارات، دون رياء، أو مجاملات، وكتب عن حياة الملك وعن كفاحه حتى استرد ملك آبائه وأجداده، وتمكن من توحيد أجزاء البلاد، وتأسيس السعودية الحديثة، ووصف الملك في كتابه بأنه «رجل لا يقهر» وبأن «النصر يواكبه حيث مضى»، وأن النصر «حليفه على جميع أعدائه».
المؤلف مع احد الحجاج الاندونيسيين
وأنجزت مكتبة الملك عبد العزيز العامة، ترجمة الكتاب الى العربية في كتاب حمل عنوان «ياباني في مكة» وقام بترجمته كل من الدكتور سمير عبد الحميد ابراهيم، وسارة تاكاهاشي، وعُد هذا العمل أول مرة في التاريخ يقدم فيه فكر أدبي اسلامي ياباني للقراء العرب. ورأى المؤلف بأن مذكراته عن الحج التي ضمنها في الكتاب بعد زيارته الى الاماكن المقدسة حاجاً ثلاث مرات كتبها حتى يقدم للناس في بلاده «اليابان» فكرة واضحة عن الجزيرة العربية التي يظنها الناس «مكانا غامضا» و«مكانا سريا»، مشددا بالقول انه كتب ذلك بكل أمانة، وسوف تغمره السعادة إذا اهتم الناس بالاسلام، ورغبوا فيه ومالوا الى اعتناقه، بعد قراءتهم لكتابه.
واعتبر المؤلف تاكيشي سوزوكي أو الحاج محمد صالح بأن الأرض المقدسة أرض أحلامه، وأورد قصة حصوله على إذن بدخوله السعودية بعد رحلة من ميناء كوبيه الياباني الى مصر مع مجموعة من مسلمي منشوريا، حيث حصل على تأشيرة الدخول الى الاراضي السعودية بعد اسبوعين من وصوله الى مصر من خلال القنصلية السعودية التي عندما دخلها شاهد بعض موظفيها وهم يرتدون ملابسهم الرسمية الأمر الذي أثار استغرابه، وبعدها ركب سفينة من السويس متجهة الى جدة وأسماها «سفينة الحجاج» ليؤدي الحج للمرة الثالثة، وشاهد على ظهر السفينة فيلمين احدهما اميركي فكاهي والآخر مصري، الأول أثار سعادته وسعادة الركاب وجعلهم يضحكون من قلوبهم، بل صاروا يقهقهون ويقرقرون.. أما الثاني فأثار غضبه لأن الفيلم في رأيه يهدف الى رفض المنتجات اليابانية من الملابس واستبدالها بملابس محلية تنتجها شركة مصر للأقمشة.
الملك عبد العزيز على جواده بعد خروجه من المسجد الحرام متوجهاً الى
دار الحكومة (الحميدية) التقطتها عدسة المصور شفيق محمود 1924م.
وبعد ثلاثة أيام وصلت سفينة الحجاج الى جدة وكان الركاب قد ارتدوا ملابس الاحرام:«كانت أشعة الشمس حارقة، تلهب الوجوه، كنا ننظر بشوق من بعيد الى ميناء جدة، كان الجميع في سرور وفرح، والوضع في ميناء جدة شبيه بالوضع في جزر سايبان في المحيط الهادئ، يجب ان تتوقف السفينة بعيدا جدا عن الساحل بسبب انتشار الشعب المرجانية هنا».
ويواصل المؤلف الحديث عن كيفية وصوله الى مكة المكرمة ودخوله الحرم، وأعطى وصفا للكعبة وساحة الحرم والحجر الاسود والسعي بين الصفا والمروة والحلق والتقصير والليلة الأولى في مكة، كما أعطى وصفا لنهار قائظ ومهاجمة الناموس له في مكة الى ان وصل الى عرفة والوقوف في صعيدها الطاهر، وتأدية جميع مناسك الحج، وقدر عدد الحجاج في تلك السنة بحوالي 200 ألف حاج.
الملك عبد العزيز بلباس الإحرام أثناء حج 1353هـ (مارس 1935م) والى يمينه :
الأمير سعود بن عبد العزيز، فؤاد حمزة وكيل وزارة الخارجية، رشدي الصالح ملحس.
شجاعة الملك المؤسس
* وعرج المؤلف على ذكر طواف الإفاضة في حجته تلك متذكرا حادثة الهجوم على الملك عبد العزيز ومحاولة اغتياله الفاشلة التي اثارت استياء المسلمين بل والعالم في حج عام 1353 هـ (1935م) بقوله: علينا أن نطوف حول الكعبة ونسعى، وهذا الطواف يجب ان يقوم به الحجاج اليوم، لكن بعض الناس يمكنهم القيام به عند مغادرتهم مكة، لكن المسلم المتمسك بأداء الفرائض جيدا، يجب ان يقوم به الآن.
حين كنت أقوم بهذا الطواف في حجي الأول عام 1935، حدثت واقعة تاريخية هنا، وهي أخطر واقعة في الجزيرة العربية، هكذا قالت الصحف، شاهدت الملك ابن سعود وهو يتعرض للاغتيال، لا يمكن أن أنسى هذا ابدا، ولحسن الحظ، وبفضل الله، فشلت محاولة الاغتيال، لكن هذا الحدث أوضح للناس ان هناك من يتأبط شرا، ويتربص بأمن واستقرار الوضع في جزيرة العرب، كما أوضح للناس ان هناك نوايا مغرضة تجاه الجزيرة العربية.
شاهدت الملك الشجاع ابن سعود، ويمكن ان نستشف تاريخ حياته من خلال ملامحه ومظهره، بما في ذلك سلوكه غير العادي، وثباته، ودرايته، وطريقة تصرفه في مثل هذا الموقف الحرج، لا أحد ينكر ـ بعد مشاهدة هذا الحدث ـ أنه بطل الجزيرة العربية، شاهدت (بأم رأسي)، ورأيت بكل وضوح كيف تصرف في ذلك الوقت، وشاهدت كل ما حدث من البداية حتى النهاية.. انني أبجله كثيرا، وأكن له كل الاحترام، من أعماق قلبي.
كان الملك ابن سعود يطوف حول الكعبة المشرفة، جئت للحج أول مرة، وفي مثل هذا اليوم انتهينا من رجم ابليس، وجئت لطواف الافاضة.
في ذلك اليوم (15 مارس عام 1935م) وفي الساعة العاشرة صباحا جئنا للطواف بمكة المكرمة، وفي ذلك الوقت جاء الملك ابن سعود مع خمسين من حرسه الخاص، ليطوف حول الكعبة، وكان الملك وحرسه في ملابس الاحرام أيضا، وكان عدد قليل من الحرس يمسكون ببنادقهم، وبينما كان الملك ابن سعود يطوف، طلب من بقية الحجاج ان يفسحوا الطريق للملك حتى ينتهي من الطواف.
كان الملك يقرأ القرآن الكريم، ويتوجه بالدعاء لله، وكذلك كان الحرس المرافق له، وانتهى الملك من الشوط الرابع في الطواف، وفي وسط الشوط الخامس، وفجأة اندفع خمسة رجال، خرجوا من بين الناس، وكان بيد كل واحد منهم خنجر، فهجموا على الملك.
ظننت أنه قتل، لكن الشجاعة تحمي الانسان دائما بعد حماية الله كان مشهدا من مسرحية، استغرق لحظات..
مقهى في بحره
أطلقوا النار على ثلاثة من المهاجمين وقبضوا على واحد منهم، حدث كل هذا بسرعة عجيبة، عند سماع صوت أعيرة الرصاص تنطلق من البنادق قال الملك:
ـ لا تقتل.. لا تقتل.. اقبض عليه.
لا أزال أتذكر صوت الملك وهو يردد: لا تقتل.. لا تقتل.. اقبض عليه بعد الانتهاء من تلك المشكلة، ساد الهدوء الحرم مرة أخرى، كما لو لم يكن قد حدث أي شيء من قبل، وتابع الملك ابن سعود طوافه حتى النهاية! آه! هذا الجسم القوي الفارع، الذي يزيد طوله عن مائة وثمانين سنتيمترا، وذلك التصرف في مثل تلك الظروف، ثم تصرف الملك بعد انتهاء الحادثة، والهدوء العجيب الذي غطى قسمات وجهه، والسماحة التي كانت تشع من عينيه.. كل هذا جعلني أتعجب كثيرا، وجعلني أبجله كثيرا وأحترمه كثيرا، شعرت بأنه فعلا هو الرجل الذي قهر أشد الصعاب، فوحد هذه البلاد الصحراوية الصعبة، أشعر الآن، وسيلازمني هذا الشعور في كل مكان، بعظمة هذا الملك ابن سعود.
مقابلة الملك عبد العزيز
* ويصف المؤلف الحفل الذي يقيمه الملك عبد العزيز عادة كل عام لاستقبال وفود الحجاج من مختلف دول العالم:
«بعد الانتهاء من الطواف، والذهاب ثانية الى منى، والانتهاء من تقديم القربان (الهدي)، وبعد ظهر ذلك اليوم، وصلتني دعوة من الملك ابن سعود، في اليوم الحادي عشر من ذي الحجة، كانت الشمس كالعادة ترسل أشعتها الحارقة وكان الهواء قد هرب تماما من المنطقة وحتى حجرتنا كانت من الداخل كالمحرقة، فشعرت برأسي يكاد يلتهب من شدة الحرارة المحيطة بنا.
كان الوقت ظهرا، غيرنا ملابسنا، ارتدينا الزي النجدي، وانطلقنا الى قصر الملك ابن سعود، ارتدى تشان (ممثل مسلمي منشوريا) أيضا الزي النجدي مع المشلح، كان تشان طويل القامة، ولهذا ناسبه الزي النجدي تماما.
على كل حال.. غادرنا الفندق برفقة عبد الله ابن صاحب الفندق الى مقر الحفل كانت المدينة تعج بالناس وكان الغبار يتصاعد من رمال الطريق تحت اقدام الناس، كما لو كان يمنعنا من تنفس الهواء ومن خلال الزحام الشديد وصلنا بالقرب من المبنى الرسمي للشيخ عبد الله بن سليمان وزير المالية، ومن هذه النقطة تستمر المباني الحكومية، والجو هنا مختلف عن الجو داخل المدينة، واذا ما مشينا تجاه الناحية الجنوبية، أمكننا مشاهدة قصر يتكون من طابقين مطلي باللون الابيض، كان قصرا فخما ضخما، لا يمكننا ان نتخيل وجوده، اذا ما تذكرنا شكل البيوت في مكة المكرمة، لم يكن القصر محاطا بسور من الحجارة أو غير ذلك، فبدا بالنسبة لي قصرا غير حصين.
جاء الناس للقاء الملك ابن سعود والسلام عليه، كانوا جميعا في ملابس جميلة، وهم يمثلون مختلف بلاد العالم، كانت ملابسهم وازياؤهم المختلفة الاشكال والالوان عجيبة جدا بالنسبة لنا، لكن يبدو انها غالية جدا، وتنوعت هذه الازياء: الازياء الافريقية والازياء الهندية والازياء الاندونيسية والازياء الافغانية وغيرها أكثر من اربعة وعشرين وفدا يمثلون اكثر من اربع وعشرين دولة.
يقف هؤلاء الآن في أزيائهم القومية كما لو كنا في معرض للقوميات ومعرض للازياء ايضا، ويمكنني ان اشاهد في اجتماع اليوم ممثلي كل عرق لا ممثلي كل بلد، ويمكن ان ارى بشرات اناس متعددة الالوان، كلما تطلعت هنا او هناك.
حين وصلنا القصر كان ممثلو وفود الدول قد سبقونا، وجدنا عددا كبيرا من الناس في المدخل الامامي للقصر، قادني أحد الحراس الى غرفة الانتظار، في الجانب المقابل للمدخل، وتعجبت، فقد وجدت في داخل الغرفة خيمة كبيرة، خيمة رائعة!! كان فيها حوالي مائة مقعد، لا يمكن ان اتصور جمال السجادة الحمراء المفروشة على الرمال داخل هذه الخيمة، كان لون السجادة يتماشى تماما ويتناسب مع قماش الخيمة الاخضر من فوقنا.
كان أكثر من نصف المقاعد قد شغلت، جلس عليها الضيوف في انتظار دورهم للسلام على الملك ابن سعود، بعد مدة جاء أحد الجنود يرتدي ملابس نجدية تقليدية، ويضع سيفا طويلا في وسطه، وخنجرا على صدره، فقدم لنا عصير الليمون، وبعدها قدم أحد الحراس في ملابس نجدية عسكرية تقليدية، وقد وضع فوق هذه الملابس معطفا طويلا أخضر اللون، وعلى كتفه علامات نسجت بخيوط مذهبة، فقادنا للسلام على الملك.
تطلع الينا الناس الذين كانوا ينتظرون، فقد فكروا ان مقابلة الملك ستتم بترتيب الوصول الى هذا المكان، لكنهم هنا عاملونا دائما معاملة خاصة، لأننا لم نضطر الى الانتظار، فنلنا بسرعة شرف لقاء الملك. كانت مساحة الغرفة التي يقابل فيها الملك الضيوف حوالي مائة «تتامي» (ما يعادل 125 متراً مربعاً) ولها مدخلان: مدخل على اليمين، وآخر على اليسار، ومن يدخل من جهة اليمين يشاهد من فوره الملك الذي يقف أمام هذا المدخل، وعندها يصافح الملك ثم يخرج من الباب الموجود جهة اليسار.
أمام المدخل وضعت أحذية الناس الذين قدموا للسلام على الملك، كما هو الحال في اليابان، يجب أن تخلع هنا الأحذية قبل الدخول الى الغرفة.
ويجب أن أذكر هنا أن الغرفة التي يقابل فيها الملك الضيوف، تخلو تماما من الصور والزخارف، فالسلفيون لا يحبون الزخارف والصور ولا يميلون الى التبذير والترف، ولهذا لم يكن من المناسب زخرفة الغرفة هنا.
بالنسبة لي.. هذه هي المرة الثالثة التي أقابل فيها الملك ابن سعود.
صافحني الملك وصافح السيد تشان، وشد على أيدينا لفترة.
الملك العظيم الذي أنجبته جزيرة العرب.. الآن يمكن أن أشعر بحرارة يد هذا الانسان العظيم.
حين صافحته انهمرت الدموع من عيني، غلبت مشاعري علي، لم أتمالك نفسي، لم استطع أن أدقق في وجه الملك، فقد غطت الدموع وجهي، بما في ذلك عيني..
أمسك الملك يدي لفترة..
كل ما أحسست به في أعماقي، ومن داخل قلبي هو عينا الملك، ودموعي، ومصافحته لي.
لحظات شكلت خليطا من المشاعر التي لا يمكن أن أصفها، ويمكن فقط للآسيويين فهمها، لحظات مملوءة بالانفعالات المتداخلة.
سحب الملك يده بهدوء، وأمر الحارس الذي يقف بجواره بأن يبتعد قليلا، وأوقفنا بجواره على يساره، ومن هذا المكان، وعلى هذا الوضع كنا نشاهد الضيوف الذين قدموا للسلام على الملك..
كان هذا ترحيبا لم نتوقعه، وشرفا لم نفكر في الحصول عليه، وهدية لم نكن نحلم بها على الاطلاق.
بعد نصف ساعة صحبنا وزير المالية الشيخ عبد الله بن سليمان الى خارج الغرفة، وفي ذلك اليوم، وفي ذلك المكان أمكنني أن اقابل الامير فيصل الابن الثاني للملك، وأيضا ياسين وزير الخارجية ( يقصد يوسف ياسين المستشار السياسي للملك ولم يكن وزير الخارجية).
وأذكر هنا ان الحارس الذي كان يقف في غرفة الاستقبال، كان يرتدي زيا نجديا عسكريا تقليديا، لم أر أي جندي يرتدي زيا شبيها بالزي البريطاني، الذي يرتديه الجنود الذين يحرسون المدينة.
لا يمكن أن أحكم على شخصية الملك من خلال مسألة الزي هذه، فهذا خروج عن الأدب واللباقة، لكن الحقيقة أن الملك يعتبر من يكره الزي العربي، إنما يحتقر الروح العربية، بالطبع كان الملك يرتدي زيا عربيا، ويضع على رأسه مشلحا من نوع خاص. ويمكنني أن أتذكر الآن وسأظل أتذكر على الدوام، في كل وقت، وفي كل مكان، هذا الشعور المثير الذي شملني حين قابلت الملك، فلا أزال أشعر حتى الآن بيده تصافحني.
حين جئت للحج للمرة الأولى التقيت أيضا الملك، كان ذلك في اليوم التالي لمحاولة الاعتداء عليه في الحرم المكي، لكن الملك ابن سعود كان آنذاك كما هو اليوم، وكأن شيئا لم يكن، حين رأيت هذا شعرت من أعماق قلبي بالاحترام الشديد لابن سعود، ويمكن أن أقول بكل ثقة بأن هذا الانسان بطل منذ أن كان صغيرا، عاش حياة كلها كفاح مستمر، ونضال لم يتوقف، حتى وأنا أكتب هذه الجملة، أريد أن أتطلع على يدي اليمنى التي لمست يده وصافحته، لا يمكن أن أتمالك نفسي عن التفكير في تلك اللحظات، كانت يده قدر يدي مرتين، كانت آثار وعلامات الكفاح والنضال، لا تزال واضحة للعيان على اصابع كفيه، واتخيل ايضا قامته الفارهة، أكثر من مائة وثمانين سنتيمترا، كان علي أن أرفع رأسي، وأشد قامتي الى أعلى حتى أشاهد وجهه، الذي اتسم بالهدوء والحنان.. لا أزال أتذكر جيدا ملامح وجه الملك، فبعد أن قابلته نسيت كل شيء من حولي، وامتلأ قلبي بشعور السعادة الغامرة.
مبنى على الطراز العربي في مكة
بطل لا يقهر
* يبلغ الملك ابن سعود من العمر ستين عاما (ولد الملك عبد العزيز عام 1880م) ويمكن أن نقول انه الرجل الذي وحد الجزيرة العربية في ظل حكومة مركزية، واسس المملكة العربية السعودية، وهو يلقى احتراما وتبجيلا من جميع العرب الذين يضعون ثقتهم فيه.
يقولون ان الملك ابن سعود له شخصية تتمتع بمبادئ سامية، وتحمل بداخلها عوامل الانتصار على الأعداء، ويسميه الناس «ملك المملكة العربية السعودية» ويطلقون عليه أيضا «البطل الذي لا يقهر» وهو ليس فقط بطلا عسكريا عظيما، لكنه أيضا سياسي بارع، اكسبته مصاعب الصحراء حنكة، وشكلت شخصيته القديرة، مما مكنه من توحيد مناطق صحراوية شاسعة، كان من الصعب توحيدها.
غرفة الحريم
* وتناول الحاج الياباني في مذكراته جوانب اجتماعية واقتصادية وظواهر لمسها اثناء رحلاته الى الحج من الصعب تقديمها باسهاب، فقد تحدث عن الزواج في الجزيرة العربية ورأى انه لا يسمح بشكل عام للفتاة العربية بأن تظهر نفسها أمام الآخرين، حين تبلغ الثامنة من عمرها ويجب ان تقضي معظم وقتها في غرفة الحريم، كما اعطى وصفا لغرفة الحريم التي رآها عند زيارته لأحد بيوتات مكة وهو بيت تاريخي مشهور بحجة انه سيرى مساحة الحرم من فوق أعلى المبنى القريب من الحرم.
اصطحبه شيخ كبير الى المبنى المكون من خمسة طوابق والمبني بالخشب والطين، كانت السلالم مغطاة بالأسمنت أو الأحجار، وهي سلالم حلزونية، ومخيفة، وصلنا الى السطح وأخذنا نتصبب عرقا، بينما جذب العجوز مفتاحا من بين «ربطة» المفاتيح التي ثبتها في خصره، ووضع المفتاح في فتحة الباب.
لحظة مثيرة جدا، يمكن أن ترى غرفة الحريم الآن.
ذهبت جميع النسوة الى عرفات، وهذا يمكن أن نزور غرفهن بسهولة، ومع أن هذا العجوز صاحب البيت له الحق في أن يشاهد كل مكان في بيته، لكن ليس له الحق في أن يرى غرفة الحريم.
يبدو انه كان فخورا بأن جعلنا نشاهد غرفة الحريم هذه، بصفتنا من كبار الضيوف، وها هي غرفة الحريم أمامنا..
غرفة جميلة للغاية، جميلة جدا، إذا ما قارناها بغرفتنا، كانت هناك طاولة مصنوعة من نوع خاص من الخشب، وبجوارها مرآة كبيرة، وامتلأت الغرفة بزخارف متعددة الأشكال ومختلفة الأنواع، طغى عليها اللونان: الأحمر والأزرق.
شعرت فجأة أنني دخلت عالما آخر مختلفا تماما، لا يمكن أن أعبر عنه بالكلمات، شاهدت ملابس النساء معلقة في ركن الغرفة، وملابس الشابات الصغيرات التي كانت تشبه الزي الاسباني المزركش، كانت هذه هي المرة الأولى التي أرى فيها ملابس النساء الملونة المزركشة، منذ أن دخلت جزيرة العرب، فعادة ما تغطي المرأة العربية جسمها من أعلاه الى أسفله بملابس سوداء، ولا يمكن لأحد ان يرى وجوههن، وحتى بالنسبة لنا أيضا لم نر وجوه أحد من النساء على الاطلاق، لهذا لم أكن أتصور أن تحت هذه الملابس السوداء التي يرتدينها مثل هذه الملابس الجميلة الملونة المزركشة.
وأخذت أتخيل شكل المرأة وأنا أشاهد هذه الملابس، لا بد أن صاحبة هذا الثوب لها عيون سوداء، ممشوقة القوام، ضامرة الخصر، هذا مجرد تخيل فقط، لكنني أشعر انه لو وقفت في هذه الغرفة سوف يلاحقني هذا التخيل ويتتابع على ذهني دون توقف.
جئت لجزيرة العرب حيث الأماكن المقدسة، لأداء فريضة الحج، وبالطبع انقطعت عن جميع رغباتي، لكن حين دخلت هذه الغرفة السرية، وشاهدت ملابس النساء الملونة، وشعرت برائحة العطور النسائية تزكم أنفي، بدأت أتخيل النساء ببشرتهن القمحية الملساء، فمنذ أن دخلنا جزيرة العرب لم يكن للمرأة وجود في عالم خيالنا.. إنه لأمر محزن، ففي جزيرة العرب لا يوجد وجه امرأة، توجد فقط الصحراء الحارة الجافة، وفي الصحراء نرى اللون الأصفر فقط، ونادرا ما نشاهد اللون الأخضر، لا أشجار، ولا أزهار، ولا حشائش، ولا حتى مجاري ماء أو أنهار، لا وجود لتغريد البلابل أو شقشقة العصافير، والمنظر يوحي بالسكون الرهيب والصمت المخيف.
لقاء وزير المالية
* ويسهب المؤلف في وصف الحفل السنوي لممثلي الدول الاسلامية الذي دعاه اليه وزير المالية في عهد الملك عبد العزيز، عبد الله السليمان الحمدان بعد تأدية مناسك الحج ولقائه بالوزير في حديقة منزله في مكة، وتناوله طعام الغداء الذي كان خليطا من الطعام الياباني والغربي والعربي مع زميليه والوزير وثلاثة من مساعديه.
عن ذلك اللقاء يقول الحاج الياباني: كنا قد ذهبنا الى منزل الشيخ عبد الله بن سليمان وزير المالية بسيارة الوزير، وكان اللقاء في حديقة المكتب، شاهدنا احواض الزهور، من حول نافورة جميلة اراح هذا المنظر عقولنا، لأننا اعتدنا مشاهدة الرمال الصفراء فقط من حولنا، لفترات طويلة، كما شعرنا في نفس الوقت اننا ما زلنا على قيد الحياة، كانت النافورة فخمة ومن النوع الغالي الذي يعطي انطباعا بالأبهة، وبدا الوزير كما لو كان فخور بها، وله الحق في ذلك.
احضروا الطعام، وكنا نحن الضيوف الاساسيين ثلاثة من اليابانيين مع الوزير، وثلاثة من مساعديه، ولم يكن الطعام على الطريقة العربية التقليدية، بل كان خليطا من الطعام الياباني والغربي والعربي.
قدم إلينا الوزير الطعام بنفسه، كان يجب علينا احيانا ان نأخذ الطعام من طبقه الى اطباقنا، وبعد الطعام تكلمنا عن الحج، وعن المؤتمر الديني. واستمر الحديث اربع ساعات من دون توقف، لكننا انتهينا من كل شيء تقريبا، فطلبنا السيارة لنغادر المكان، وحملنا علم المملكة العربية السعودية الذي اهداه لنا الشيخ عبد الله بن سليمان في مساء اليوم التالي، وقبل المغرب غادرنا بالسيارة الى جدة. كان علينا ان نبقى في جدة اسبوعا، وهو موعد مغادرة السفينة، انتصف الليل، وعم السكون وكنت استطيع سماع صوت حترشة الحشرات، بدا صوتا حزينا جدا. وعي مبكر لفتى في جدة
* بعد ان وصلنا الى جدة اسرعنا الى القنصل المصري للحصول على تأشيرة دخول الاراضي المصرية.
لا يسمحون بركوب اول سفينة تغادر جدة إلا للحجاج المصريين فقط، ولهذا كان علينا ان نركب السفينة التالية، هذه هي القواعد المعمول بها في ايام الحج، فسفينة الحجاج الاولى يجب ان تقدم تقريرا صحيا عن حالة الحجاج المصريين، الذين سينزلون في «الكرنتينة» الكائنة في جبل الطور في شبة جزيرة سيناء، فإذا ما تأكد المسؤولون من عدم وجود اوبئة او امراض معدية، كتبوا تقريرا، عندئذ تغادر السفينة التالية من جدة.
وواجهنا مرة أخرى مشكلة الحصول على تأشيرة لتشان لأنه من منشوريا، لكن القنصل المصري سمح باعطائه تأشيرة دخول، وفرحنا جدا لأن مصر اعترفت بمنشوريا.
سوف نغادر جدة خلال ثلاثة أيام، ذهبنا لنتمشى على شاطئ جدة، يمكن ان نرى بعض الهضاب الصخرية القريبة من الشاطئ. عند هذه الهضاب شاهدت مباني بيضاء، هذه «فيلات» بناها اهل جدة ويطلق على المنطقة اسم «البغدادية» ويقال انها جنة في الصيف.
وفي مواجهة الشاطئ مكاتب وقنصليات بريطانيا والاتحاد السوفيتي ومصر وهولندا وايطاليا وفرنسا. فقد شاهدت اعلام تلك البلاد ترفرف على هذه المباني وحزنت حين كنت اشاهد تلك الاعلام، فلم اجد من بينها علم اليابان فشعرت بالأسى وكأنهم نسوا اليابان او اهملوا ذكرها.
في جدة رافقنا ابن صاحب الفندق الذي نزلنا فيه، كان يدعى يوسف، وهو يختلف عن عبد الله الذي كان يرافقنا في مكة، فهو شاب ذكي، وهو فخور بنفسه لأنه عاش في ايطاليا يدرس لمدة سنة، وهو يهتم كثيرا بهندامه وملابسه وسلوكه العام، يتكلم الانجليزية، لكن ليس بطلاقة كما يستخدم او يحشر الكلمات الفرنسية في حديثه، له شارب تحت انفه، ويبدو من هيئته العامة انه رجل «جنتلمان» لكن قد يتعجب القارئ فعمره خمس عشرة سنة واربعة شهور فقط، الشباب في مثل عمره عندنا لا يزالون في المدرسة المتوسطة (الاعدادية) والاكثر عجبا من هذا انه متزوج بزوجة عمرها اثنتا عشرة سنة فقط، اخبرنا بأن امله الذهاب الى اليابان للدراسة.
كان الشاب يتكلم بكلام اكبر من سنه، وطريقته في الحديث تعطيك انطباعا بأنه اكبر من عمره الحقيقي، وقال:
ـ هل سمعتم آخر الأخبار؟ يقولون ان بريطانيا دفعت ثمانين مليون جنيه لتحصل على حقوق التنقيب عن الذهب في «مهد».
ومهد اسم مكان قريب من شاطئ البحر الأحمر، وهناك شائعات بين الناس بوجود مناجم ذهب في المنطقة، استمر يوسف في الكلام فقال:
ـ بالطبع استثمر البريطانيون خمسمائة الف جنيه، لكنهم يعرفون منذ البداية انهم لا يمكن ان يحصلوا على فائدة من ذلك، انه مشروع لا يدر عليهم أي ربح، وهدف بريطانيا ليس مناجم الذهب، لكن هدفها السيطرة على الطريق الساحلي في منطقة البحر الأحمر، ومعظم هذه النفقات صرفت على المعدات التي تنصب على ساحل البحر الأحمر، وربما تهدف بريطانيا الى انشاء ميناء حربي ملاصق للشريط الساحلي الذي يمهدون له الآن.
حين وصلنا الى الميناء عرفنا ان هناك حفلة سيقيمها غدا الوزير عبد الله بن سليمان، وعند الميناء شاهدنا السفينة التي سوف تقلنا وهي السفينة «كوثر».
جاء وزير المالية الشيخ عبد الله بن سليمان لوداعنا حين كنا نغادر مكة متجهين الى جدة، وبالطبع لم يأت خصيصا من اجلنا، لكنه جاء اصلا للترحيب برئيس بنك مصر «طلعت باشا» وكان من بين اهدافه ايضا عقد اجتماع معنا لاطول مدة ممكنة، فقد كان يرغب في تطوير التجارة بين اليابان والمملكة العربية السعودية.
تحدثنا عدة مرات في هذا الموضوع اثناء وجودنا في مكة، قال:
ـ كما تعلم لدينا ثقة كبيرة في المنتجات اليابانية وحكومتنا هنا توصي بصفة خاصة بضرورة الاستيراد من اليابان، كما اننا نخفض «التعريفة الجمركية» بالنسبة للبضائع اليابانية، مما اثار غضب بريطانيا، وهي تريدنا ان نساوي بين بضائع البلاد المختلفة في نسبة التعريفة الجمركية، وتلح في هذا الطلب بشدة لكن المملكة العربية السعودية بلد مستقل، يتمتع بالحرية، واقتصاده المستقل، خاضع فقط لأنظمة الدولة ولا يمكن لأحد التدخل في شؤوننا فهذا امر داخلي يخص بلدنا.
صور من خارج المقال
صور من مجموعة الورقات البريدية
مواقع النشر