الرباط، المغرب (CNN) -- يتواصل النقاش العمومي الذي احتدم بالمغرب على مدى الأسابيع الأخيرة حول سقف وصيغة تقنين اللجوء الى الاجهاض في حالات معينة، من أجل وضع حد لعمليات الإجهاض السري التي تجري في مؤسسات طبية أو غير طبية بعيدا عن أنظار القانون.
وجاء تدخل العاهل المغربي، في ذروة الاستقطاب بين الأصوات المحافظة من جهة والمشهد الحقوقي والنسائي من جهة ثانية، ليطرح إشكالية تقنين الاجهاض على أجندة السلطات العمومية لكن على أساس استشارات موسعة مع الفاعلين والهيئات العلمية، "في إطار احترام تعاليم الدين الإسلامي الحنيف والتحلي بفضائل الاجتهاد، وبما يتماشى مع التطورات التي يعرفها المجتمع المغربي وتطلعاته، وبما يراعي وحدته وتماسكه وخصوصياته"، حسب بلاغ سابق للديوان الملكي.
وفي انتظار توصل الملك بمقترحات ملموسة في غضون الأيام المقبلة، ترسم مستقبل التعامل التشريعي مع إشكالية حساسة يتجاور فيها الحقوقي مع الديني، والاجتماعي مع الطبي الانساني، يتواصل الجدل بين الفرقاء حول مرجعية التقنين وحدود الاجتهاد في الحالات الاستثنائية للجوء الى الاجهاض.
ويبدو أن مهمة بناء توافق حول هذا المشروع لن تكون سهلة في ظل مطالبة جمعيات حقوقية ونسائية، مجسدة في تحالف "ربيع الكرامة"، بجعل أمر الإجهاض، مقرونا بإرادة المرأة الحامل لوحدها دون سواها، وهو ما لا يجد ترحيبا لدى المرجعيات المحافظة.
وطالب التحالف الحقوقي النسائي في ندوة، أمس الجمعة بالرباط، بإخراج الإجهاض الطبي من دائرة التجريم الجنائي، في أفق تجاوز التداعيات المترتبة عن ممارسات إيقاف الحمل خارج نطاق الإشراف الطبي، والتي تودي بحياة العديد من النساء.
وشدد التحالف على ضرورة الاحتكام الى القوانين والاتفاقيات الدولية التي صادق عليها المغرب، وتوصيات منظمة الصحة العالمية.
واعتبرت الناشطات في إطار التحالف أن تجريم الإجهاض شكل من أشكال الميز ضد المرأة واعتداء على حقها في صيانة حرمة جسدها مطالبات بتعديل القانون الجنائي المغربي في هذا الاتجاه، علما أن القانون الحالي يفرض عقوبات سجنية على المرأة المجهضة إراديا وكذا على من يساعدها.
وكان الفاعل السياسي قد دخل على الخط، حيث دعا الأمين العام لحزب الاتحاد الاشتراكي، (معارضة) إلى مراجعة مقتضيات القانون الجنائي حول الإجهاض السري، في أفق ارساء "تشريع عقلاني في معالجة موضوع الإجهاض السري، وعدم الانصياع وراء الخطاب المحافظ الجاف، القائم على الاجترار السطحي للمرجعية الإسلامية، في اختلاف تام مع الاجتهادات الرائدة لفقهائنا وعلمائنا المتنورين في ميادين ومجالات مختلفة".
وخلال لقاء دراسي نظمه الفريق الاشتراكي بمجلس النواب، أول أمس الخميس، طالب لشكر بالخروج من عباءة "الوصايا الثقافية والمزايدات السياسية التي لا فائدة منها" محذرا من عواقب الاستنمرار في ممارسة الإجهاض السري الذي يودي بـ 44 ألف امرأة سنويا في مختلف أنحاء العالم، حسب منظمة الصحة العالمية، بينما يعرف المغرب اجراء أكثر من 800 حالة إجهاض سري يوميا، حسب بعض الإحصائيات غير الرسمية.
وجدير بالذكر أن رفع الطابو عن هذا الموضوع يدين الى حد كبير للناشط شفيق الشرايبي، وهو طبيب مختص في التوليد وأمراض النساء، ورئيس الجمعية المغربية لمكافحة الاجهاض السري، الذي عرف بنضاله من أجل التقنين منذ سنوات. ونبه الشرايبي خلال ذات اللقاء الى عواقب الاجهاض السري على صحة المرأة، ومستعرضا جملة من الحالات التي تستوجب إجراء عمليات إجهاض آمنة، ومؤطرة طبيا، على غرار الحمل الناجم عن الاغتصاب، وزنى المحارم، وحمل القاصرات، والمسنات أكثر من 45 سنة، وحمل المصابات بأمراض عقلية خارج مؤسسة الزواج، والأجنة المصابة بتشوهات خلقية، إضافة إلى العديد من الحالات الاجتماعية المأساوية.
وكان الشرايبي قد أعفي من منصبه في مؤسسة طبية عمومية إثر تصريحات له في برنامج تحقيق تلفزيوني فرنسي تناول ظاهرة الاجهاض السري في المغرب، خصوصا من خلال عينات فتيات وقعن في حمل غير مرغوب فيه نتيجة علاقات خارج الزواج أو التعرض لاغتصاب. وأطلق المجتمع المدني النسائي، بجناحه الحداثي، حملة تضامن واسعة مع هذا الناشط.
في المقابل، نشر الفقيه أحمد الريسوني، أحد أشهر المراجع الشرعية في المغرب، مقالا على صفحته على الفيسبوك بعنوان بالغ الدلالة: "الإجهاضيون الجنسانيون.. إلى أين هم ذاهبون؟" ينتقد فيه دعاة الإجهاض و"جهادييه" من منطلق أنه "لا يشكل الإجهاض عندهم إلا حلقة ومحطة من مسلسل طويل عريض، ضمن رؤية تستهدف تحرير الإنسان وطاقاته الجنسية من سلطان الدين؛ أي الوصول في النهاية إلى إنسان بلا دين، وممارسة جنسية بلا حدود ولا قيود".
وقال الريسوني إن هؤلاء تتركز معركتهم على حذف الفصل 449 والفصول التفصيلية التابعة له من القانون الجنائي، حيث ينص الفصل على أن "من أجهض أو حاول إجهاض امرأة حبلى، أو يظن أنها كذلك، برضاها أو بدونه… يعاقب بالحبس من سنة إلى خمس سنوات. وإذا نتج عن ذلك موتها، فعقوبته السجن من عشر إلى عشرين سنة".
وحذر من أن الناشطين المطالبين برفع التجريم إذا نجحوا كليا أو جزئيا في معركتهم ضد الفصل 449، "فسيحولون نيرانهم صوب عدو أكبر منه، سبق لهم معه عدة مناوشات، وأصدروا في حقه عدة تهديدات. وهو الفصل 490 الذي ينص على أن كل علاقة جنسية بين رجل وامرأة لا تربط بينهما علاقة الزوجية تكون جريمة الفساد، ويعاقب عليها بالحبس من شهر واحد إلى سنة. فهذا الفصل 'المتطرف' لا معنى له ولا مكان له في منظومتهم الحقوقية الحداثية".
وخلص الريسوني الى أن "فلسفة الإجهاضيين الجنسانيين التي يعلنونها دوما هي: أن كل علاقة جنسية رضائية فهي مشروعة، ولا ينبغي لأحد أن يعكرها أو يضيق عليها، لأن كل واحد حر التصرف في جسده".
وكان وزير الصحة قد أعلن في لقاء ضم فعاليات جمعوية ورسمية وطبية وفقهية، عن خطة قومية يجري اعدادها، تتمحور حول عناصر، من بينها تطوير سبل الوقاية من الحمل غير المرغوب فيه بتطوير برامج التربية الجنسية والإنجابية، وولوج النساء ضحايا الإجهاض السري لخدمات الصحة الإنجابية دون أي خوف من الملاحقة القانونية مع تحسين جودة التكفل بالمضاعفات الناتجة عنه، ثم مراجعة الإطار القانوني والتنظيمي الخاص بالإجهاض الطبي في المغرب، "مع الاحترام الكامل للقيم الدينية والأخلاقية والخلفيات الثقافية للبلاد ووفقاَ لحقوق الإنسان المتعارف عليها دوليا".
هي مهمة صعبة بالنظر الى موقف شرائح من النخبة العلمية والفقهية. فقد أكد العلامة المغربي البارز مصطفى بنحمزة خلال نفس اللقاء أنه "لا يجوز التصرف في حياة الجنين الا اذا كان يشكل خطرا حقيقيا على صحة الام و يحرم إجهاضه لمجرد الرغبة في إخفاء الحمل أو تحت ذريعة وجود تشوهات خلقية قد تكون في بعض الاحيان بسيطة أو لكون الحمل ناتج عن زنا المحارم، لأنه لا يحق تحميل الجنين أثر فعل لا يد له فيه".
يجمع المراقبون على أن البحث عن التوافق حول مسألة ذات حساسية قصوى اجتماعيا وثقافيا أمر محمود، لكنهم يجمعون أيضا على أن الطريق إليه لن تكون مفروشة بالورود.
مواقع النشر