عامر راشد - أنباء موسكو : قدّم المفكر العربي جلال صادق العظم، في مقابلة موسعة مع "مجموعة الجمهورية للدراسات"، رؤية تحليلية ونقدية شاملة لثورات "الربيع العربي"، أكد فيها أن "الآليات الفعلية للانتقال إلى الحالة الديمقراطية، لا يمكن الجزم أو حتى التنبؤ بها، لأنها تعتمد على صيرورة الثورة ومسارها الذي مازال مفتوحاً على المفاجآت والاحتمالات كلها".
الدكتور العظم، صاحب العديد من الإسهامات الفكرية الغنية في الثقافة العربية، اجتهد في المقابلة المذكورة بإعطاء إجابات على أسئلة الثورات، الراهن والاحتمالات المستقبلية، على ضوء واقع الحراك الشعبي والثورات والقوى الفاعلة فيه والموقف منها، وكلها أسئلة تفرض أجوبة مفتوحة على أكثر من احتمال، حيث "لا توجد ضمانات مسبقة لأحد، خاصة عندما نكون أمام أحداث تاريخية كبرى مثل الثورات ونتائجها القريبة والبعيدة".
لكن إجابات الدكتور العظم تستحق التمعن فيها، لأنها تؤسس لتفكيك (لوغاريثم) الثورات العربية التي فاجأت الجميع، حتى من كانوا قد تنبؤا بها، كما أنها تتعمق في تحليل واقعها كما جرى ويجري، دون القطع بتوقعات مسبقة، لأنه كما يعتقد الدكتور العظم لا يمكن الجزم أو حتى التنبؤ بالآليات الفعلية للانتقال إلى الحالة الديمقراطية، لأنها تعتمد على صيرورة الثورة ومسارها.
في إجابته على سؤال هل الثورات العربية نقض لفكرة "التنوير" التي نادت بها نخب علمانية لتأهيل المجتمعات العربية للديمقراطية، باعتبار أن مجتمعات قاصرة وغير مؤهلة، يؤكد العظم أنه "في الأساس لا توجد شعوب أو مجتمعات مؤهلة للديمقراطية بطبيعتها وبصورة مسبقة أكثر من شعوب ومجتمعات أخرى. حيثما نظرنا شرقاً أو غرباً، في عالمنا المعاصر، نجد أن الديمقراطية عادة مكتسبة، كما أن العلمانية حالة مكتسبة أيضاً وليس بهذه السهولة على الإطلاق، فالموانع كانت دوماً كبيرة والعقبات كثيرة داخلياً وخارجياً عند الجميع".
ويضيف: "كما أني لا أعتقد أن النخب التنويرية العلمانية العربية كان هدفها أصلاً مجرد تحضير وإعداد مجتمعاتها لتصبح مؤهلة لتقبل الديمقراطية. كان هدفها وطموحها ومطلبها هو نهضة شاملة من مفرداتها الديمقراطية والعلمانية، لذلك أرى أن مسألة التنوير أكبر بكثير من مجموعات من النخب المثقفة والعلمانية، التي تحاول تأهيل شعوبها لتقبل الديمقراطية عبر التوعية بضرورة العلمانية والعلمنة لتجاوز مشاكل القصور والعجز القائمين".
ويلفت الدكتور العظم إلى أن "ثورات الربيع العربي الراهنة غير قادرة على نقض فكرة التنوير بمعناها التاريخي الأوسع، هذا لو أرادت، فهي أيضاً تقول بالإصلاح والديمقراطية والتجديد والحرية والكرامة والنهضة والدستور وما إليه. وتريد، إن استطاعت، الاستجابة إلى رغبة دفينة عميقة وشبه جارفة في فاعليتها لدى هذه الشعوب كلها لتجاوز القصور المقيم في مجتمعاتها والتغلب على العجز الذي تشعر به دوماً في أعماقها. تبقى شروط واحتمالات النجاح أو الإخفاق في ذلك كله، مسألة أخرى".
وباعتبار أن العلمانية هي المخرج للثورات العربية يشدد الدكتور العظم على أن "أهم ما في العلمانية والديمقراطية هو طاقتهما الاستيعابية، بخاصة في المجتمعات المتعددة والمتنوعة، الإثنيات والأعراق والأديان والمذاهب والملل والنحل واللغات واللهجات… الخ.
بالإضافة إلى مقدرة هذه الطاقة الاستيعابية على توفير مناخ جيد وإيجابي لاستتباب السلم الأهلي، ليس قهراً وبالقوة العارية، وعلى توفير آليات مجرّبة جيداً (لدى الكثير من البلدان والشعوب والمجتمعات والثقافات الراهنة) لتداول السلطة سلمياً على أوسع نطاق في المجتمع. أضف إلى ذلك أن من ميزات العلمانية والديمقراطية أيضاً أنهما توفران أرضية محايدة لتلتقي عليها المذاهب والعقائد الدينية المتنافرة والاقصائية بطبيعتها.
وعن دور "الإسلام السياسي" في ثورات "الربيع العربي" والمواقع التي احتلها، أو سيحتلها، بعد الثورات يقول الدكتور العظم: "أخشى ذلك لأنه في ثقافتنا ومجتمعاتنا ما يكفي من العناصر السلطوية والتسلطية والسلبطجية والأبوية، والأبوية المحدثة والثأرية، بما يجعل إعادة إنتاج نظام الاستبداد مجدداً، بصورة أو أخرى، احتمالاً وارداً ومخيفاً مما يتطلب الحذر الشديد واليقظة التامة.
وفي أحوالنا الراهنة لا يجوز الاستسهال باحتمالات نشوء استبداد عسكري ما، مثلاً، مغلفاً هذه المرة بالعقيدة الدينية والأحكام الشرعية والتعصب المذهبي. لذا أحاول أن أتابع جيداً ما يجري في مصر اليوم، إذ عندما أعطى الرئيس المنتخب هناك محمد مرسي نفسه، فجأة، سلطات وحصانات استبدادية.
هبّ نصف المجتمع المصري تقريباً، هبة شعبية عارمة لمنع الرئيس من السير في طريق إعادة إنتاج الاستبداد في مصر حتى لو كان ذلك لفترة معلومة على حد زعمه، وحتى لو كان خطابه خطاباً إسلامياً وشرعياً، حتى مشايخ الأزهر وقفوا إلى جانب الهبة الشعبية كما صوتت القاهرة بـ"لا" مدوية على دستور مرسي المسلوق سلقاً من جانب الإسلاميين (كما يقول المصريون).
ولا أعتقد أن سوريا ستكون أقل من مصر في هذا الشأن أو أقل حرصاً على حماية نفسها من عودة الاستبداد بأي صفة كانت.
وفي الحالة السورية على وجه الخصوص يعتقد الدكتور العظم أن "الإسلام الذي سوف يطفو على السطح سيكون إسلام (البزنس) وإسلام رجال الأعمال وأصحاب المشاريع والشرائح التجارية، وهو غير الإسلام السياسي الذي نتخوف منه بسبب تصلبه وتشدده في أتون المعركة الجارية".
ويضيف "في مثل هذا المناخ المتوقع سيجري استيعاب تيارات الإسلام السياسي الأكثر تعنتاً وتخفيفها في بحر الإسلام الشعبي التقليدي ونموذج الإسلام التجاري – البزنس السوري المعتاد. أي أن سوريا غير مرشحة لسيادة ذلك النوع من الإسلام الذي يمنع التعليم ويحرق المدارس ويغلق الجامعات ويعطّل المعاهد ويحرم المرأة من التعليم والعمل المنتج". وبالتعميم، إن الحالات العربية الأخرى في مصر وتونس وليبيا ليست مرشحة لذلك أيضاً.
ويجزم الدكتور العظم بأن الحراك الشعبي السوري إذا ما أوصل السوريين إلى صناديق الاقتراع بأمان نسبي لن يتمكن أي من تيارات الإسلام السياسي في سوريا من اكتساح نتائج الانتخابات على الطريقة المصرية أو التونسية.
رغم أنه يؤكد في رده على سؤال لاحق أنه لا يعتقد أن سورياً واحداً اليوم يملك رؤية واضحة حقاً أو تصوراً متماسك لكيفية الانتقال الديمقراطي وآلياته في بلده بعد رحيل النظام؛ فالمسألة تبقى مفتوحة على مفاجآت واحتمالات متعددة.
أفكار تطرح أسئلة أكثر من كونها تدعي تقديم إجابات قاطعة وجامعة، وفي السؤال كما يقال نصف الإجابة أو أكثر، وهذا ما تحتاجه الثورات العربية والحراك الشعبي العربي، واقعية في التحليل والرؤية، وليس التنظير المجرد أو استخدام المساطر الايدلوجية البالية، فالثورات فعل تراكمي وانجاز أهدافها تراكمي أيضاً.
(المقالة تعبر عن رأي كاتبها)
مواضيع مماثلة من المصدر :
مواقع النشر