التكامل الأوروبي في مسار يقود إلى التفكك
الكاتب رئيس مكتب ''فاينانشيال تايمز'' في بروكسل
من المقرر أن تعيد بروكسل النظر في قواعد منطقة شينجن في أوروبا
ما يدل على تحول قوي في اتجاه الرياح السياسية في منطقة اليورو
بيتر سبيجل - عن صحيفة "الإقتصادية"
مرة في كل عشر سنوات تحدث أزمة تقسِم الاتحاد الأوروبي وتعطل جهود ما بعد الحرب لتحقيق التقارب في القارة. ويصر قدامى المحاربين في هذه المعارك أن الأزمة، سواء أتت من الخارج (العراق) أو من الداخل (رفض معاهدة الاتحاد الأوروبي) تختفي في النهاية وينتعش المشروع الأوروبي.
ربما تكون هذه المرة مختلفة. ففي الشهر الماضي لم يتوقف مشروع التكامل فحسب، بل يبدو أنه دخل في مسار معاكس.
فكل من اليورو ومنطقة السفر دون تأشيرة، وهما أهم إنجازين في التكامل ما بعد الحرب، يتعرض لانتقادات خطيرة بحيث أن المسؤولين يتوقعون علنا انهيارهما. وفي الأسبوع الماضي، كان مفوض اليونان الأوروبي أول مسؤول يوناني كبير يلمح إلى إمكانية عودة العملة اليونانية، الدراخما. ويعود أفراد الشرطة الفرنسية ومسؤولو الجمارك الدنماركيون إلى حدودهم الوطنية للتحقق من حركة المرور الواردة عن طريق البر. ومن المقرر أن تعيد بروكسل النظر في قواعد منطقة شينجن في أوروبا.
هذا التفكك المفاجئ دلالة على تحول قوي في الرياح السياسية. فلم يعد الناخبون الأوروبيون الذين قبلوا العام الماضي على مضض، تدابير التقشف وعمليات الإنقاذ، راضين عما يجري. وفي الأشهر الستة الماضية سقطت حكومتا البرتغال وإيرلندا، في حين حققت الأحزاب الشعبوية المناهضة للاتحاد الأوروبي مكاسب كبيرة في فنلندا وهولندا. ويثور أعضاء البرلمان في برلين، ويتظاهر الطلاب في برشلونة، ويحاصر أعضاء اتحادات العمال مقار الشركات المملوكة للدولة في أثينا.
والسؤال الذي يجب على أوروبا الإجابة عليه هو ما إذا كان هذا اهتياجاً مؤقتاً، أم أنه تحول جوهري في الطريقة التي تتم بها ممارسة السياسة. وفي الولايات المتحدة أدت مطالب شعبوية مماثلة من حزب الشاي إلى إصلاح شامل لأجندة الجمهوريين وإعادة تشكيل السباق الرئاسي للحزب.
وحتى الآن استجابت أوروبا ببطء أكبر بكثير. ففي الشهر الماضي دعا خوسيه مانويل باروسو، رئيس المفوضية الأوروبية، الحكومات الوطنية إلى مقاومة ''إغراء الشعبوية'' وتجاهل مطالب الأصوات المناهضة للاتحاد الأوروبي.
لكن قد لا يكون من الحكمة، أو من الممكن تهميش هذه المجموعات. وتوضح هولندا التي تصارع المعسكر المناهض للعولمة، الذي يزداد انتشارا منذ اغتيال القائد الشعبوي بيم فورتيون قبل عقد من الزمن تقريبا، مخاطر تجاهل الجوقة المتزايدة.
لقد كانت هولندا بمثابة كاليفورنيا أوروبا، تتحدد فيها الاتجاهات العامة للقارة، من أفكار التنوير من الفيلسوف باروخ سبينوزا إلى التجارة العالمية المدعومة بالقوة البحرية الهولندية في القرن السابع عشر، والتسامح والانفتاح الذي تجسده مقاهي أمستردام.
وهي أيضا في صميم التكامل الأوروبي لفترة ما بعد الحرب، وعضو مؤسس لكل مؤسسة رئيسية، من الناتو إلى اليورو نفسه. لكن في الأشهر الأخيرة يمكن القول إن هولندا أصبحت أكثر دولة معيقة في معارك بروكسل حول مستقبل الاتحاد الأوروبي.
فقد عارضت الحكومة الهولندية بشدة منح صندوق الإنقاذ لمنطقة اليورو بقيمة 440 مليار دولار مزيدا من الصلاحيات لمساعدة البلدان الطرفية المثقلة بالديون في الاتحاد الأوروبي. وتزداد عزلتها باستمرار لاعتراضها على توسع الاتحاد الأوروبي باتجاه دول البلقان الغربية. وقد ضغطت على بروكسل لإصلاح سياسات اللجوء السياسي والهجرة وسط اندفاع اللاجئين الأفارقة على الشواطئ الأوروبية.
ويعارض المسؤولون الهولنديون بشدة أن يتم وصفهم بأنهم معيقون. لكن ليس من قبيل المصادفة أن تصبح حكومة الأقلية الهولندية العام الماضي أول دولة في منطقة اليورو منذ بدء الأزمة المالية التي تعتمد على بقاء حزب مناهض صراحة للاتحاد الأوروبي - حزب الحرية بزعامة جريت ويلدرز الشعبوي المعادي للمسلمين - في السلطة.
ونتيجة لذلك لم تتجاهل الحكومة الهولندية نصيحة باروسو في عدم الاكتراث لمشاعر الشعبويين فحسب، بل نبهت بروكسل إلى ضرورة إيلاء مزيد من الاهتمام لغضب الشعوب المتزايد وشعورها بعدم الأمان الاقتصادي، وأن تأخذ مخاوفها على محمل الجد.
ويقول بن كنابن، الوزير الهولندي لشؤون الاتحاد الأوروبي: ''أغبى شيء هو تجاهل هذا وإخبار الناس أنهم جاهلين ولا يفهمون ما يحدث في العالم''.
وهذا درس ينبغي أن تتعلم منه حكومات أخرى في منطقة اليورو. فقد شعر القادة الفنلنديون بالصدمة هذا الربيع حين كاد حزب الفنلنديين الحقيقيين، المناهض للاتحاد الأوروبي، يفوز بالانتخابات الوطنية. وأضافت ماري لو بن، الزعيمة الجديدة لحزب الجبهة الوطنية اليميني المتطرف في فرنسا، خطابات مناهضة للاتحاد الأوروبي إلى لهجة حزبها التقليدية المعادية للمهاجرين، وهي تكسب التأييد.
لكن هل الاعتراف بمخاوف الشعبويين كاف لكسب تأييد الناس؟ لم تحقق الاستراتيجية الهولندية بعد أرباحاً انتخابية. وحقق ويلدر مكاسب كبيرة في الانتخابات الإقليمية في آذار (مارس)، وفشل التحالف الحاكم في ضمان أغلبية في مجلس الشيوخ الهولندي الأسبوع الماضي.
وبدلا من ذلك ربما نشهد تغيير أجيال في القوى المحركة للسياسة الأوروبية. فقد ضاقت الانقسامات التقليدية بين اليمين واليسار. فلا يوجد الآن مرشح ديمقراطي اجتماعي يدافع عن التخطيط الاقتصادي المركزي، ولا مرشح محافظ يشكك جديا في دعم دولة الرعاية الاجتماعية.
وبدلا من ذلك نشهد انقساماً جديداً، بين المدافعين عن العولمة والداعين إلى المحلية. وتواجه النخب الحضرية من اليسار (المثقفون ودعاة الليبرالية العالمية) واليمين (أنصار التجارة الحرة وزعماء الأعمال العالميين) تحديا لإجماعهم في مرحلة ما بعد الحرب يتمثل في جماعة جديدة من الانتقاميين.
وتأتي هذه القوة السياسية أيضا من كل من اليسار (النقابيين والبيض من الطبقة العاملة) واليمين (القوميين الريفيين والمعادين للأجانب من أقصى اليمين). والأهم من ذلك أن هذا قد يؤدي إلى تحد جديد غير مسبوق للمشروع الأوروبي.
مواقع النشر