المدينة المنورة (نبي الرحمة) : والحَمْدُ للهِ رَبِّ العْالمينَ، وَالصَّلَاةُ والسَّلَامُ عَلَى أَشْرَفِ الْمُرْسَلِيْنَ (
)... وبعد. إذا لم تكن البشرية قد عرفت أبر، ولا أعبد لله، ولا أتقى له من محمد (
)!. إذا كان يبذل قصارى جهده في الطاعة طول العام حتى يصل إلى الذروة القصوى من التعبد في رمضان. فحري بنا أن نقوم بإطلالة سريعة موجزة على بعض أحواله (
أولاً: مراجعته (صلى الله عليه وسلم) للقرآن: كان (صلى الله عليه وسلم) يراجع القرآن كاملاً مع جبريل كل عام، حتى راجعه في عامه الأخير مرتين. كما جاء عَنْ فَاطِمَةَ رضي الله عنها: ((أَسَرَّ إِلَيَّ النَّبِيُّ (
صلى الله عليه وسلم): «أَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُعَارِضُنِي بِالقُرْآنِ كُلَّ سَنَةٍ، وَإِنَّهُ عَارَضَنِي العَامَ مَرَّتَيْنِ، وَلاَ أُرَاهُ إِلَّا حَضَرَ أَجَلِي)) (1).
ثانيًا: تعليمه (
صلى الله عليه وسلم) المسلمين آداب الصيام: كان (
صلى الله عليه وسلم) حريصاً أن يكون الوعظ مناسبًا للحال، فمن ذلك حرصه على تعليم المسلمين حقيقة الصيام، والتي لا تنطبق إلا على من راعى آداب الصوم، وخرج منه بالأخلاق الحميدة.
فأكد (
صلى الله عليه وسلم) في عدة أحاديث الارتباط الوثيق بين الصيام، وحسن الخلق، والاستقامة في كل الأمور.
فمنها قوله (
صلى الله عليه وسلم): ((مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ)) (2).
وقوله (
صلى الله عليه وسلم) : ((رُبَّ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلَّا الْجُوعُ، وَرُبَّ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إِلَّا السَّهَر)) (3).
وقوله (
صلى الله عليه وسلم) : ((إِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلاَ يَرْفُثْ [يقول، أو يعمل أي شيء قبيح، أو يثير الشهوة] وَلاَ يَصْخَبْ [يرفع صوته]. فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ، أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ)) (4).
ثالثًا: هديه (
صلى الله عليه وسلم) في الصيام: كان يؤخر السحور. كما في الحديث عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رضي الله عنه؛ قَالَ: ((تَسَحَّرْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قُمْنَا إِلَى الصَّلَاةِ. قيل: كَمْ كَانَ قَدْرُ ذَلِكَ؟. قَالَ: قَدْرُ خَمْسِينَ آيَةً)) (5).
وكان يعجل الفطر. كما في الحديث عن عَائِشَةَ رضي الله عنها: ((كَانَ (
صلى الله عليه وسلم) يُعَجِّلُ الْإِفْطَارَ وَيُعَجِّلُ الصَّلَاةَ)) (6).
وكان يبدأ بالفطر قبل الصلاة، ويفطر على اليسير من الرطب، أو التمر، أو الماء؛ كما في الحديث عن أَنَس بْن مَالِكٍ؛ قال: ((كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُفْطِرُ عَلَى رُطَبَاتٍ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ رُطَبَاتٌ، فَعَلَى تَمَرَاتٍ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ حَسَا حَسَوَاتٍ مِنْ مَاءٍ)) (7).
وهذا سبيل التيسير، وعدم التكلف في الأمور.
رابعًا: كرمه (صلى الله عليه وسلم): كان (صلى الله عليه وسلم) أكرم الناس، وأجودهم، وأبذلهم لما في يده، وكانت نفقته في رمضان أعظم النفقات؛ كما جاء عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: ((كَانَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) أَجْوَدَ النَّاسِ بِالْخَيْرِ، وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ... فَإِذَا لَقِيَهُ جِبْرِيلُ كَانَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) أَجْوَدَ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ)) (8). وهكذا يكون الاجتهاد في العبادات المتعدية لنفع الآخرين كما في العبادات الخاصة بالعبد.
خامسًا: قيامه لليل (
صلى الله عليه وسلم): كان يقوم الليل طول العام، لا سيما في رمضان ما لم يكن هناك عارض.
كما جاء عن عَائِشَةَ رضي الله عنها: ((أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ خَرَجَ ذَاتَ لَيْلَةٍ [في
رمضان] مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ، فَصَلَّى فِي المَسْجِدِ، فَصَلَّى رِجَالٌ بِصَلاَتِهِ،..)) (9).
ثم ترك الصلاة بالمسجد خشية أن يجتمع عليها المسلمون وتفرض عليهم كما في الحديث.
وكان يطيل في صلاة القيام جدًا، وكان يقرأ بترسل، يسبح عن التسبيح، ويحمد عند التحميد، ويطلب الجنة إذا ذكرت، ويتعوذ من النار إذا وردت، وهكذا، كما في الحديث عَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ: ((صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ (
صلى الله عليه وسلم) ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَافْتَتَحَ الْبَقَرَةَ. ثم النساء، ثم آل عمران.
يَقْرَأُ مُتَرَسِّلًا، إِذَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا تَسْبِيحٌ سَبَّحَ، وَإِذَا مَرَّ بِسُؤَالٍ سَأَلَ، وَإِذَا مَرَّ بِتَعَوُّذٍ تَعَوَّذَ.
وكان ركوعه، وسجوده، وقيامه، وجلوسه بينهما سواء)) ( 10).
وكان يبدأ بالسواك. كما في الحديث عَنْ حُذَيْفَةَ؛ قَالَ: ((كَانَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يَشُوصُ [يغسل] فَاهُ بِالسِّوَاكِ)) (11).
ويصلي ركعتين خفيفتين قبل الإطالة. كما في الحديث عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: ((كَانَ رَسُولُ اللهِ (
صلى الله عليه وسلم) إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ لِيُصَلِّيَ، افْتَتَحَ صَلَاتَهُ بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ)) (12).
وكان يصلي إحدى عشرة ركعة. كما في الحديث عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: ((مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (
صلى الله عليه وسلم) وَسَلَّمَ يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ، وَلاَ فِي غَيْرِهِ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً يُصَلِّي أَرْبَعًا، فَلاَ تَسَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي أَرْبَعًا، فَلاَ تَسَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي ثَلاَثًا)) (13).
وكان يستفتح صلاته بأدعية، منها ما جاء عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: (( أَنَّ رَسُولَ اللهِ (
صلى الله عليه وسلم) كَانَ يَقُولُ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ: اللهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَلَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَلَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، أَنْتَ الْحَقُّ، وَوَعْدُكَ الْحَقُّ، وَقَوْلُكَ الْحَقُّ، وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ، وَالْجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ، اللهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ، وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ، فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَأَخَّرْتُ، وَأَسْرَرْتُ وَأَعْلَنْتُ، أَنْتَ إِلَهِي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ)) ( 14).
ومنها ما جاء عن عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ؛ قَالَتْ: ((كَانَ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ افْتَتَحَ صَلَاتَهُ: اللهُمَّ رَبَّ جَبْرَائِيلَ، وَمِيكَائِيلَ، وَإِسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ، إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)) (15).
سادسًا: اعتكافه (
صلى الله عليه وسلم) العشر الأواخر: وإذا كان رمضان يشهد أشد الاجتهادات النبوية في الطاعة، فإن ثلثه الأخير هو صاحب الحظ الأوفر من تلك الاجتهادات النبوية. كما في الحديث عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، قَالَتْ: ((كَانَ رَسُولُ اللهِ (
صلى الله عليه وسلم) إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ، أَحْيَا اللَّيْلَ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ، وَجَدَّ وَشَدَّ الْمِئْزَرَ [كنا��ة عن ترك الجماع])) (16).
وكان ذلك الاجتهاد تحريًا لليلة القدر لعظيم فضلها.
كما قال (
صلى الله عليه وسلم): ((مَنْ قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ،..)) (17).
فكان (
صلى الله عليه وسلم) يعتكف آخر عشر ليالٍ من رمضان تحريًا لليلة القدر، وتفرغًا للعبادة؛ كما في الحديث عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: ((أَنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم) كَانَ يَعْتَكِفُ العَشْرَ الأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ، ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ)) (18).
ويحض على الإكثار من الدعاء بهذا الدعاء : ((اللهُمَّ إِنَّكَ عَفُوّ تُحِبُّ الْعَفْوَ، فَاعْفُ عَنِّي)) (19).
سابعًا: جهاده (
صلى الله عليه وسلم): على غير المشهور عن الناس في رمضان من الكسل، والتراخي تذرعًا بالصيام؛ كان (صلى الله عليه وسلم) يعتبر رمضان شهر الأعمال الشاقة؛ بل أشق أنواع الأعمال على الإطلاق: إنه شهر الجهاد في سبيل الله تعالى.: "حتى كَانَ أَوَّلَ لِوَاءٍ عَقَدَهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) لحمزة بن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ إِلَى سيف الْبَحْر" (20). ثم أرسل عددًا من السرايا برمضان، منها: سرية غالب بن عبد الله الليثي إلى الْمَيْفَعَةِ[ا��أرض المرتفعة] (21)، وسَرِيّةُ عَصْمَاءَ بِنْتِ مَرْوَانَ (22)، وسَرِيّةُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ إلَى أُمّ قِرْفَةَ سَنَةَ سِتّ (23). كما أرسل خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ لهَدَمِ الْعُزّى، وأرسل عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ لهَدْمِ سُوَاعَ، وأرسل سَعْدَ بْنَ زَيْدٍ الْأَشْهَلِيّ لهدم مَنَاةَ لِخَمْسِ لَيَالٍ بَقَيْنَ مِنْ رَمَضَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ (24).
كما كان أول لقائه في جهاد المشركين ببدر وجه الخير على الإسلام، والمسلمين يوم جمعة من رمضان (25).
وما فتح الله عليه مكة إلا في رمضان (26).
وكان (
صلى الله عليه وسلم) يأمر بالفطر للتقوي على مواجهة العدو؛ كما في قوله: ((إِنَّكُمْ قَدْ دَنَوْتُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ، وَالْفِطْرُ أَقْوَى لَكُمْ)) (27).
كما حكم على من يصوم في الغزو صومًا يضعفه عن الجهاد بقوله: ((أُولَئِكَ الْعُصَاةُ، أُولَئِكَ الْعُصَاة)) (28).
كما أثنى على المفطرين الذين يستعينون بفطرهم على خدمة الصائمين في الغزو، فقال لهم: ((ذَهَبَ الْمُفْطِرُونَ الْيَوْمَ بِالْأَجْرِ)) (29).
مع كونه كان يصوم إذ لم يمنعه الصوم من أعمال الغزو كما في الحديث عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: ((خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فِي حَرٍّ شَدِيدٍ، حَتَّى إِنْ كَانَ أَحَدُنَا لَيَضَعُ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ، وَمَا فِينَا صَائِمٌ، إِلَّا رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) وَعَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ)) (30).
نسأل الله برحمته الواسعة أن يجعلنا ممن يقتفون أثره (صلى الله عليه وسلم) في كل ما دق، وجل.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد ألا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.
مواقع النشر