خادم الحرمين الشريفين.. معذرة، فلا فائدة في الجامعة!
بقلم: محمد عبدالمجيد
الانجاز الحضاري ليس في جامعة سعودية مغلقة ومعزولة، لكن في تحويل كل جامعات ومعاهد المملكة إلى صروح علمية ليس لرجال الدين سطوة عليها، ولا يدخل حرَمها مطاوعة.
ميدل ايست اونلاين
خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبد العزيز،
كم وددت أن أبعث لك تهنئة بمناسبة افتتاح هذا الصرح العلمي الكبير، لكنني تراجعت مرات كثيرة، وكلما عرضتُ الأمرَ على قلبي وافق سريعاً على التهنئة، فإذا استأذنت عقلي، انتفض في وجهي صائحاً وغاضباً، واستدعىَ على الفور ضميري ليقفا معاً ضد ارسالي التهنئة رغم أنك تلقيت منها عدة آلاف من الزعماء والعلماء والفقهاء والاعلاميين، كأن المملكة قامت بتجربة صاروخ يحمل رؤوساً نووية، أو كأنها أعلنت أن علماءها تمكنوا من تخصيب اليورانيوم في وقت قياسي، وبدون مساعدة غربية!
كل انجاز حضاري عربي يسعدني، من جسر الملك فهد إلى مكتبة الاسكندرية، ومن نفق دبي إلى جامعة الملك عبدالله بن عبد العزيز للعلوم والتقنية، ومن التطور المدهش المعماري الأفقي في الدوحة إلى مضاعفة الوحدات السكنية في الجماهيرية الليبية، لكن فرحتي الكبرى لن تعرف طريقها قبل مشاهدة الانجاز الحضاري الأكبر في الإنسان العربي!
أبحث عن احتفال المملكة العربية السعودية بتوديع آخر الأميين، وبصدور قرار بالمساواة الكاملة بين كل المواطنين، سنة وشيعة، وبين كل المقيمين على أرضها، مواطنين ووافدين، وبين كل أصحاب الرأي و .. الرأي الآخر، وسد الفجوة بين الأغنياء والفقراء أو تقريبها.
أحلم برفع العَصابة عن أعين السعوديين، وبنزع الكمامة عن أفواههم، وبالغاء الرقابة على عقولهم، وبتركهم يجتهدون، ويفكرون، ويخطئون، ويلتمسون طريق المعرفة دونما حاجة لمرشد ديني قادم من زمن آخر لو رآه أهل الكهف لولوا منه فرارا، ولملئوا منه رعبا، وليس العكس!
أحلم بانجاز حضاري إنساني متسامح وذلك بعقد مؤتمر لمئات العلماء والفقهاء والفلاسفة وعلماء النفس وأساتذة الجامعات والنقاد وأصحاب المذاهب الأخرى والفنانين والأدباء ليناقشوا، ويفندوا، ويغربلوا عشرات الآلاف من الفتاوى التي كبّلت المواطنَ السعودي، وقيّدت فكره، وقلصت مساحة الحرية في عقله، وحذفت صور التسامح في اجتهاداته، وجعلته عبدا مأمورا لا يتنفس قبل أن يستأذن آلهة الفتوى الجدد، ولا يبحث بنفسه في معجزة آيات الله البينات قبل أن يعرض الأمرَ على شيوخ الفتاوى.. أصحاب صكوك الغفران في المملكة.
أحلم بانجاز حضاري عندما يستعرض خادمُ الحرمين الشريفين جيشا سعوديا يهتز له الخليج كله، وتعلن الرياضُ عن صناعة أول دبابة سعودية تخترق المملكة وصحراءها كأنها عفريت من الجن.
جيش سعودي يتسلح من مصانع حربية سعودية، ويحسب له الأصدقاء والأعداء ألف حساب، ثم تعلن المملكة أنها وبفضل الله، وبفضل تمسك أبنائها بعبقرية الاسلام الحنيف تستطيع صواريخُها أن تعبر القارات وتضرب أي هدف يهدد أرض الحرمين!
أحلم بمشروع حضاري ينهي كل صور الاستغلال، ويصبح نظام الكفيل من مخلفات الماضي الذي نخجل منه، ويضرب الوافديون المثل بالعدالة في المملكة، وأن يتأكد كل وافد سرق كفيلُه عرَقَه وجهده وتحويشة العمر أنها راجعة إليه بأسرع من لمح البصر.
أحلم بمشروع يُنهي عالم "المطاوعة"، وتعلن، خادم الحرمين الشريفين، أن شعبنا السعودي بلغ سن الرشد، وأن العصا للمجرمين وليست لاجبار المسلم على التوجه لأقرب مسجد، فالصلاة لله تحت سوط يلهب الظهرَ لن يكسب المسلمُ منها حسنة واحدة!
أحلم بتفجير قوى الابداع لدى أبناء شعبنا السعودي العظيم، وستكون مفاجأة لك، سيدي خادم الحرمين الشريفين، عندما ترى أبناءك السعوديين يُبدعون في الآداب والفنون والسينما والمسرح والفلسفة ومعامل الاختبار وصناعة السلاح وتفسير القرآن الكريم من منطلق الحب والتسامح وقبول الآخر والتعاون مع كل شعوب الدنيا.
أحلم بمشروع حضاري ينتج مواطناً لا يحركه روبوت كونترول في يد أحد شيوخ المؤسسة الدينية، فقد صنعت المؤسسة لعدة عقود المسلم البورنوجرافي الذي يرى الدنيا من خلال جسد امرأة لم يشاهد وجهها، ويرى الآخرة في أحضان ثلاث وسبعين من الحور العين، تعود لكل منها عذريتها بعد الجماع.
مسلم يتصور أن عفريتا من الجن ينزلق في فراشه فيجامع زوجته، ثم يشاهدها الجان وهي تأخذ دشا باردا في الحمّام، وأخيرا يتفحص الزوج جيدا ملامح وجه ابنه ليتأكد أنه ليس ابن أحد العفاريت!
أحلم بمشروع حضاري يجعل السعودية مركز الكتاب الحر، ومنافسة لبيروت الصغيرة في عدد دور النشر، وبأوركسترا سعودية من الرجال والنساء تعزف السيمفونية السادسة لموسيقي سعودي تهتز لروائعه أفئدة عاشقي الفن الأصيل.
أحلم للسعودية بانهاء عصر الفقر، وأن تكون هناك أنظمة للتأمين الصحي على السعودي والوافد بنفس القدر، وأن تكون للمسنين بيوتهم، ومرتباتهم، وأن تتم معالجة الطفل مجانا بغض النظر عن جنسيته، وأن يعلن أهل المملكة الشيعة أنهم يعيشون عصرهم الذهبي في مملكة التسامح، وأن يتساوى في الحقوق والواجبات عشرة آلاف أمير مع أبناء الشعب، وأن يبدأ الجيل الشاب في تسلم مقاليد الحكم بمعزل عن عصا المؤسسة الدينية.
الانجاز الحضاري هو صناعة مجتمع صحي لا يتصور فيه المسلم بأن وجه زميلته في العمل أو مواطنته في الشارع أو ابنة خاله في مجلس عائلي أو مضيفة الطيران أو طبيبته أو معلمته سيجعل الشهوة الجنسية تفجر كيانه، وتسري في جسده رعشة الشبق، فالمسلم ليس حيوانا لا يستطيع أن يكبح شهواته، فتغطية وجه المرأة هو نصف الطريق إلى التغطية على الرذيلة، ونصف الطريق لاخفاء الارهابيين والمجرمين والهاربين من العدالة.
الانجاز الحضاري، سيدي خادم الحرمين الشريفين، يبدأ عندما تفتخر المملكة بأنه ليس في سجونها سجناء سياسيون، فالرأي الآخر ليس جريمة.
الانجاز الحضاري الذي سيجعلني أصفق له طويلا عندما أشاهد مظاهرة سلمية ترفع شعارات مناهضة للحكم، وتتعامل معها الشرطة تعاملا حضاريا وجميلا وأخويا، ثم يعود كل متظاهر إلى أهله، ويمارس حياته العادية، ويتحدث عنها الملك بكل احترام ومودة، فالمعارضة التي تحميها حكومة رشيدة هي خط الحماية الأول للوطن و .. للحكم.
الانجاز الحضاري عندما تعلن المملكة عن مشاركة علمائها وخبرائها في الابحاث المتعلقة بأعماق البحار، ومرض الايدز، واكتشاف علاج للسرطان، واطلاق قمر صناعي يدور حول الأرض، وأن السعودية أكبر دولة ناشرة للكتاب العلمي والطبي.
الانجاز الحضاري ليس في جامعة مغلقة ومعزولة ويمثل السعوديون %15 فقط من طلابها، لكن في تحويل كل جامعات ومعاهد المملكة إلى صروح علمية ليس لرجال الدين سطوة عليها، ولا يدخل حرَمها مطاوعة.
الانجاز الحضاري يتمثل في إعادة صناعة الانسان فلا يُفرّق المرءُ مواطنا سعوديا في جدة أو الاحساء أو الطائف أو مكة المكرمة أو بريدة أو الدمام عن مواطن سعودي في لندن أو بانكوك أو جنيف أو المنامة أو القاهرة أو بيروت أو باريس أو لارناكا أو ماربيا، الضمير لا يتجزأ، والله هنا و .. هناك، والسلوك لا ترسمه عصا المطاوعة فوق الظهر.
الانجاز الحضاري هو صدور فتاوى حديثة تراقب غضب الله، فنسمع أن الكفر هو استغلال الآخرين، وأن الكفيل الذي لا يدفع المستحقات سيَصْلىَ نارا ذات لهب، وأن المساواة بين البشر كنطق الشهادتين تماما، وأن من يعذب إنسانا في السجن أو الحجز هو عدو لله والدولة والشعب السعودي.
أحلم للسعودية بمثقفين ومفكرين وإعلاميين لا ترتعش أيديهم، ولا تصطك أسنانهم، ولا تتخلخل رُكبهم فزعا ورعبا كلما أمسكوا بالقلم، فالسلطة الرابعة لا تتلقى الأوامر إلا من الضمير الحي، وليس من تعليمات وزارة الاعلام و..العين الحمراء للمؤسسة الدينية.
لو حدثتك، سيدي خادم الحرمين الشريفين، عن حقوق الانسان في النرويج لظننت أنني مخبول أمسك القلم، أو مجنون يكتب إليك عن عالم غير موجود أصلا!
أحلم للسعودية بمشروع حضاري يجعل منظمة العفو الدولية وهيومان رايتس ووتش وكل منظمات حقوق الإنسان تخجل من نفسها لو وضعت المملكة في الترتيب الثاني أو الثالث في احترام حقوق الانسان وليس في الترتيب الأول، أما الترتيب الحالي فأخجل من نشره!
أحلم للسعودية بكل صور الخير والجمال والحرية والابداع، وأن يعلن المسيحي واليهودي والبوذي والبهائي والهندوسي والشيعي والجعفري والاباضي والاسماعيلي والدرزي أنها أرض التسامح، وأنه يجهر بمذهبه ودينه بكل فخر، وأنه يستطيع أن يذهب إلى أي مكتبة سعودية كبيرة فيجد ما يبحث عنه من كتب ولو تعارضت مع فكر الأغلبية السعودية من سكان البلد.
أحلم بتوقف الهزل والعبث الذي يحرق الأعصاب من فتاوى ضد الوطن مثل تحريم السلام الملكي، وعدم تقبيل العلم السعودي أو القيام احتراما له، وأراك، خادم الحرمين الشريفين، قد تنازلت حتى عن أبسط حقوقك كقائد وولي أمرهم عندما ألغيت مشروع افتتاح دار عرض سينمائي، فالمطاوعة أكدوا أنه حتى لو تم الفصل داخل السينما بين الجنسين، فمجرد اطفاء الأنوار سيترك الرجال مقاعدهم للتوجه ناحية النساء!
اهانة بالغة لكل سعودي تبصق على عقله المؤسسة الدينية منذ عدة عقود، وتتهم خياله بأنه يقوم بتحويل كل الأشياء إلى جنس، حتى لو كان وجه ابنة عمه أو طبيبته في المستشفى أو الجماد الذي يحمل أسماء مؤنثة!
سيدي خادم الحرمين الشريفين،
هل عرفت الآن لماذا ترددت في ارسال تهنئة إليك كما فعل معظم زملائي في بلاط صاحب الجلالة السلطة الرابعة؟
أنت صدقت المهنئين وأكثرهم يكرهون السعودية وشعبها، أما أنا فلن أبعث إليك تهنئة بافتتاح جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية لأنني بكل بساطة أحبك وأحب شعبنا السعودي، ولن أشارك في جريمة التعتيم كما فعل غيري، ولن أكون شاهد زور ضد السعوديين!
محمد عبدالمجيد
رئيس تحرير مجلة طائر الشمال - أوسلو النرويج
مواقع النشر