قلعة الدوسرية
على ارتفاع يقارب 200م فوق سطح الأرض تنتصب قلعة الدوسرية كفارس متشح بالمجد والنصر، لا يأبه بتعاقب السنين على أمجاده والضاربة في أعماق تاريخ المنطقة. الدوسرية التي يسمونها القلعة هي في حقيقتها الحصن المنيع الضخم أو الثكنة العسكرية تطل على مدينة جازان بشموخها شرقاً، وتيهها على البحر الأحمر غرباً. مدهشة جنباتها، عابقة حناياها. قف على سطحها وحلق في تاريخ ثري لأيام حافلة لم تبق اليوم سوى شذى التاريخ، وعتاقة العظات ورائحة العسكر المرهقين، وترديد حلقات التعليم في مفارقات مدهشة.
قلعة وثكنة
من على شارع الكورنيش في غرب مدينة جازان يمكنك أن تلمح قلعة الدوسرية، وتستطيع أن تصل إليها عن طريق الخط المتفرع بجانب أمانة المنطقة صعوداً ببعض المنحدرات الصغيرة قبل أن تسلك طريقا صغيرة ملتوية وتدور في عدة منعطفات صغيرة لتصل إليها فتشعر بمهابة غريبة، ولأن القلعة لم تحاط بسور بعد فيمكنك الاقتراب قدر ما تستطيع سيارتك بلوغه. قد تحتاج لخطاب أحياناً من المشرفين على هيئة السياحة والآثار إذ قد يمر بعض أفراد دوريات سلاح الحدود.
المكان مهيب جداً وتستشعر ذلك بمجرد دخول الباب العتيق.. وإذا نظرت خلفك في أي جهة فستجد أن المكان يبسط أمامك المدى للمدينة كلها في كل اتجاه والبحر خصوصاً في جهة الغرب. في ضوء وضع القلعة حالياً لا يمكنك زيارتها في المساء.. المكان موحش قليلاً. يقول الباحث في الآثار د. فيصل طميحي: اعتاد الأهالي هنا في المدينة والمنطقة عموماً، ولدى العديد من الباحثين في مجال الآثار على تسمية القلعة بهذا الاسم، لكن يمكن القول ومن الناحية الأثرية إلى أن التسمية ليست دقيقة إلى حد كبير، فالمبنى القائم عبارة عن حصن ضخم يتسع لإقامة ثكنة عسكرية محدودة وقد لا يتجاوز عدد أفرادها الأربعين إلى ستين في الحد الأقصى، وهذا لا يعني أننا لن نسير على ذات العرف ونسميها قلعة.
تقع قلعة أو حصن الدوسرية في الجهة الغربية من مدينة جازان وبينها وبين البحر مسافة قريبة جداً لا تزيد عن 1000م، بل إنها تصلح لتكون فناراً بامتياز وهي تنتصب على قمة الجبل المعروف باسم جبل جيزان بارتفاعه الأعلى في المدينة ويتراوح بين (150-200م تقديراً فوق سطح البحر)، ويمكن أن نستنتج بسهولة أن القلعة من موقعها ذلك تطل إطلالة مباشرة على البر والبحر، وتكشف للناظر من ذلك الارتفاع مساحات شاسعة واسعة بامتداد النظر، وهي مربعة الشكل ومساحتها الإجمالية لا تقل عن 900 متر مربع، مدعمة بأربعة أبراج ضخمة تبدو محتفظة بالكثير من قوتها وهيبتها رغم حاجتها الشديدة والعاجلة للترميم. ويعود الطميحي إلى تاريخ القلعة فيقول: (لا يعرف شيئاً من التاريخ عن إنشاء هذه القلعة أو الحصن، ولا من قام ببنائها، إذ لا يوجد ذكر لذلك في أي من المؤلفات المصدرية، وإن كان هناك بعض الباحثين في تاريخ المنطقة من يعتقد أنها تركية الطراز والتصميم، في حين لا يمكن تجاهل أن هناك العديد من الإشارات التي تشير وتبين استخدامها في فترة الأسرات الحاكمة في المنطقة في فترة القرن الثالث عشر الهجري، وأيضاً أنها استخدمت في فترة السيد الإدريسي، وكذلك في عهد الملك عبد العزيز والملك سعود، ومما يلفت النظر وقد يدهش الزائر فعلاً أن القلعة توثق لفترة شغل فيها الأمير مشعل بن عبد العزيز منصب وزير الدفاع، وذلك من خلال مادون ونقش على بعض جدران القلعة الداخلية ومنها عبارة (الأمير مشعل وزير الدفاع 1374هـ).
إلا أن تاريخ القلعة لا يختصرها في المهام الحربية والسياسية فقد جعل منها الشيخ القرعاوي؟ العالم الشهير في تلك الفترة في المنطقة-جعل منها مقرا ومكاناً للتعليم والدراسة ونشر العلم بين طلاب المنطقة المتعطشين في بدايات مشرقة.
داخل القلعة
بنيت جدران القلعة في الأساس من الحجر المكسو بطبقة من الملاط الأبيض (الجص)، أما الأسقف فقد بنيت من الأخشاب، ويوجد في بعض أجزاء أسقف القلعة بعض القضبان الحديدية الضخمة، وهي لا تنتمي على ما يبدو إلى الفترة التي بنيت فيها القلعة، بل هي إضافات حدثت -ربما كترميم- لاحقا في عهد الملك عبد العزيز، للقلعة مدخلان كبيران: شرقي وهو الرئيس، وآخر شمالي، يقودان إلى صحن القلعة الذي تطل عليه الأروقة والغرف. يلاحظ على القوس الذي يعلو الباب الرئيس المطل على صحن القلعة، وجود شق طولي يزيد عن المتر، يتسع من الأسفل ويضيق كلما اتجه علوا، وكذلك شقان طوليان من الأعلى إلى الأسفل، في كل من قمة البرج الشمالي الشرقي، والبرج الجنوبي الشرقي، وهيئة تلك الشقوق (التصدعات) توحي وكأنما زلزال قد حدث في فترة ما من تاريخ المدينة. وهناك بعض الفجوات في السقف الخشبي لرواق القلعة الشمالي، وكذلك وجود فجوة في الأخشاب التي تمثل أرضية الحجرة التي تقع تحت ذات الرواق، وهي فجوة تقود إلى قبو تحت تلك الحجرة. وللقلعة أقبية سفلى يمكن النزول إليها عبر سلم يقع في طرف الصحن من الجهة الغربية، أما السقف فيصعد إليه عبر سلم يقع في الجهة الشمالية الغربية من صحن القلعة. لا زالت القلعة تحمل طبقات الملاط التي كسيت بها الجدران، وخصوصا الخارجية منها، جميع الأسطح يجب الحذر الشديد أثناء السير عليها حالياً ويمكنك المشاهدة البديعة من خلال الفتحات الكبيرة الموجودة في جدران السطح ويبدو أن الفتحات الصغيرة كانت تستخدم فيها الأسلحة وكذلك الكبيرة.
ويختم د. الطميحي بقوله: تعد القلعة بشكلها الراهن أفضل أثر شاخص في مدينة جيزان والسهل التهامي في المنطقة بصفة عامة، وما تحتاج إليه هو عمليات ترميم متقنة تعيد للقلعة رونقها. وقد جرى استلام القلعة بشكل مبدئي من وزارة الدفاع لصالح الهيئة العليا للسياحة والمفاوضات الآن قائمة بيننا وبين الممتلكات العسكرية للحصول على حرم ملائم للقلعة من الجهات الأربع، وهناك ثلاث جهات يمكن الحصول منها على مساحات وافية وكافية، غير أن الملاحظ هو وجود برجين للاتصالات في الجهة الشمالية للقلعة، إحداهما للدفاع المدني والآخر للدفاع الجوي، وهما قريبان جدا من القلعة ولا يبعدان عنها سوى مسافة تتراوح ما بين 5-7 أمتار، والبرجان يعملان تارة على الطاقة الكهربائية العامة، وتارة أخرى على مولد كهربائي ضخم، ينتج عنه حينما يعمل أصوات مزعجة سيكون لها تأثيرها السلبي على الزوار الذين يقصدون القلعة، كما وأن منظر البرجين يشوه المظهر العام للقلعة، فلا تناسق بين الاثنين. لكن الأمر الذي يخشى خطره، هو الاهتزازات الشديدة للغاية التي يحدثها المولدان أثناء عملهما، فهي اهتزازات ستؤثر حتما في القلعة، هذا إذا لم تكن قد أثرَت في القلعة فعلا، وخاصة في ازدياد التصدعات الحاصلة في بعض أجزاء القلعة، وهناك كتلة حجرية من القوس الذي يعلو الباب الرئيس قد سقطت، ولا نستبعد أن يكون سقوطها بسبب تلك الاهتزازات. لذا فإننا نرى أنه من الضرورة الملحة والعاجلة أن تجري مخاطبة الجهات المعنية بالبرجين بسرعة نقلهما إلى مكان آخر بعيدا عن القلعة، فبقاؤهما هناك أكثر ضررا من نفعهما.
بقلم: محمد عطيف
مواقع النشر