حيفا - نبيل عودة (رأي اليوم) يجري حول اللغة العربية حوار صاخب أحياناً، بين العديد من المثقفين واللغويين ومختلف أصحاب الرأي.
ويبدو ان هذا الحوار يميز الناطقين بلغة الضاد فقط، إلا أن ذلك لا يشير الى أهمية غير عادية للغة الضاد، بقدر ما يشير الى أزمة عميقة باتت تقلق المتعاملين مع اللغة، وتتمثل في قصورها الفاضح في المجالات المختلفة، وبالأساس المجالات العلمية والتقنية، وأيضا في مجال الاستعمال الأدبي الإبداعي.
وتبرز الأزمة بوزنها الكبير، في هرب أصحاب اللغة من لغتهم الى لغات أجنبية للتعبير، وإشكاليات استيعاب الطلاب العرب للغتهم، بل ونفورهم من أساليب تعليمها ومن التناقضات الكبيرة بين اللغة المحكية واللغة التي تسمى فصحى، لدرجة أن تعريف الفصحى بات يشكل موضوعاً للخلاف، نتيجة دخول أساليب تعبيرية واصطلاحات وجمل متعارف عليها، لا يمكن ان تخترق أسوار الحواجز النحوية التي وضعها سيبويه قبل مئات السنين، في مناخ ثقافي ولغوي مختلف، وبات غريباُ عن مفرداتنا وعن صياغاتنا وعن متطلباتنا اللغوية في هذا العصر الذي يشهد نقلة نوعية عاصفة في العلوم والتقنيات، وفي اللغات واستعمالاتها.
الا لغتنا العربية مسجونة داخل كهف يقف على أبوابه حراس اللغة، ظناً منهم انهم يخدمون لغتهم، ولا يستوعبون ان حراستهم تقود لغتنا الجميلة الى الموت السريري، أو تحولها الى لغة لا يتجاوز عدد المتحدثين فيها عدد المتحدثين اليوم باللغة الآرامية في العالم!!
هذا الموضوع شغلني منذ سنوات ليس كلغوي، بل كمثقف وكاتب يعيش نبض اللغة التي تشكل سلاحه التعبيري، وأداته الهامة للتواصل، الأمر الذي وضعني بمواجهة إشكاليات لغوية تعبيرية في الحديث او الكتابة عن مواضيع تكنلوجية وعلمية وفلسفية، لم أجد لها صيغة عربية، ووجدت في اللغة العبرية التي أتقنها بشكل جيد، لا يرقى الى مستوى إتقاني للعربية بالطبع، تعابير واصطلاحات سهلة واضحة ميسرة مفهومة، وقابلة للاستعمال، بدون تعقيدات نحوية.
شغلني أيضا سؤال ما زال مطروحاً: بأي لغة عربية نكتب؟
الفصحى القديمة أضحت لغة لا مجال لاستعمالها وفهمها من الأكثرية المطلقة لمن يعرّفون أنفسهم كعرب. الفصحى الجديدة السهلة، او لغة الصحافة كما يسميها البعض، أيضا غير ميسرة لأوساط واسعة جداً من العرب.. بسبب انتشار الأمية الهائل الذي لا يقلق حراس اللغة بقدر قلقهم على مواصلة السجن القسري للغة في زنزانة نحو وضع لمناخ لغوي لم نعد نعيشه، ومن المستحيل ان نعود اليه.
في كتاباتي دائماً اتلقى نقداً لغوياً حول استعمالاتي للغة. ومحاولات تصحيح لغتي، وانا على قناعة تامة ان تمكني من التعبير بلغتي العربية، متطور جداً، ليس بسبب دراستي للغة، بل نتيجة ممارستي وتجربتي الغنية قراءة وكتابة، وأعترفت مرات عديدة اني لا أعرف قواعد اللغة، ولا أريد ان أعرف أكثر مما أعرفه اليوم، واذا كان لا بد من إصلاح فلغتي هي لغة معيارية حديثة، متطورة في تعابيرها، وسهلة الفهم لأوساط واسعة، وتحمل من جماليات التعبير والصياغة أكثر من كل نصوص المتقعرين، الذين لا أستطيع ان افهم نصوصهم أو أهضم ثقل دم لغتهم!!
ربما أطلت في مقدمتي، ولكني اندفعت اليها بحماس إثر قراءتي لكتاب شدني بلغته الجميلة وشروحه المنفتحة الراقية، حول إشكاليات لغتنا العربية صادر عن مجمع اللغة العربية في حيفا، للبروفسور سليمان جبران، الذي كان رئيساً لقسم اللغة العربية وآدابها في جامعة تل أبيب، قبل اعتزاله العمل هناك. يحمل الكتاب عنواناً دالاً: “على هامش التجديد والتقييد في اللغة العربية المعاصرة”، وافتتح سليمان جبران كتابه ببيتين من الشعر عن “الغيورين” على اللغة:
جاروا عليهــا زاعمين صلاحها في نبذ طارقهــا وفي تقييـدهـا
لم يفقهوا ان اللغــات حياتهــا في بعث تالدها وفي… تجديــدها
وهناك مقدمة للدكتور عادل مصطفى (باحث مصري في اللغة والعلوم والفلسفة) يقول فيها: “العربية في أزمة، يجفوها أهلها، ويهجرها بنوها، ولا يكاد يتقنها سدنتها وأحبارها. ان العربية على فراش المرض، تعاني من تضخم في القواعد والأصول، وفقر في المصطلح، وعجز عن مواكبة الجديد ومجاراة العصر. الداء واضح للعيان، ولم يعد بالإمكان إخفاؤه. فبئس الدواء إنكار المرض، وبئس الحل إنكار المشكلة.”
مقدمة الدكتور عادل مصطفى تستعرض إشكاليات اللغة، التي يعالجها البروفسور سليمان جبران في كتابه، وتتطابق أفكاره تماماً مع طروحات وشروح سليمان جبران، بحيث بدا لي متحمساً للكتاب وطرحه الذي يثبت ليس فقط معرفة سليمان جبران الكاملة بأصول اللغة ونحوها، انما معرفة موسوعية نادرة بكل ما مرت به اللغة العربية من تحولات وتطوير في القرن التاسع عشر، خاصة منذ بدأ اللبناني فارس الشدياق: “رجل النهضة الأدبية الحديثة الأول” – كما وصفه مارون عبود، وسائر النهضويين الرواد العرب أمثال المصري رافع الطهطاوي، جهودهم العظيمة في إحياء اللغة العربية التي قتلها التتريك والتخلف السائد في الأقطار العربية والذي كان لا بد ان ينعكس سلباً على واقع اللغة العربية. وللأسف، يبدو كأن الزمن توقف، وما زلنا نحاور من نفس المنطلقات، وما زلنا نلوك نفس الحجج..
قلت اني لست لغويا، ومع ذلك قرأت بحث سليمان جبران اللغوي بشوق كبير، أولاً بسبب لغته الجميلة وأسلوبه التعبيري الواضع، وقدرته على التعامل مع الإشكاليات اللغوية المختلفة بتحليل وتفسير واستنتاج، مبني على المعرفة الموسوعية، وهو أمر سحرني به سليمان جبران، لأني وجدت به أجوبة عن القضايا المطروحة أمام تطور مجتمعاتنا المدنية، فمن يظن انه بنحو لغة قديمة خاضع للمرحلة التي نشط فيها سيبويه، يمكن بناء مجتمع مدني علمي تقني حديث هو واهم. اللغة أداة للتواصل لابد منها للعلوم والتقنيات والثقافة والفلسفة والمجتمع، وليس للقداسة فقط.
من المواضيع التي يطرحها الكتاب: “لغتنا العربية: لا هي عاجزة ولا معجزة، متى نؤلف نحواً حديثاً للغتنا العربية؟، دور الشدياق في تطوير اللغة العربية، العامية والفصحى مرة أخرى، الترادف غنى أم ثرثرة؟، تصحيح الصحيح، تجليات التجديد والتقييد”.
تتميز لغة الكتاب بالاقتصاد في التعبير والابتعاد عن الفضفضة، التي نواجهها في الكثير من النصوص. وكأني به الى جانب بحثه القيم يعطينا درساًً ونموذجا في الصياغة الحديثة بدون فضفضة وترهل لا يضيف للمعنى شيئاً، وقناعته تقول اننا في عصر السرعة ولا يمكن الا ان نقتصد في الكلمات لنؤدي نفس المعنى.
ترددت في إيراد النماذج، لاني شعرت بأني سأنقل كل الكتاب للقارئ، وهذا غير ممكن.
وأعتقد ان انتباه معلمي اللغة العربية لهذا الكتاب، في كل مستويات التعليم، خاصة الثانوي والجامعي، واستعمال المداخلات والنماذج التي يطرحها سليمان جبران، سيحدث ردة فعل إيجابية تقرب اللغة العربية لأبناء هذه اللغة، وتفتح أمامهم آفاقاً لغوية جمالية تنعكس بشكل إيجابي على تقريب اللغة للطلاب العرب، وتقريب الطلاب العرب من لغتهم وقدراتها التعبيرية والجمالية، مدركين ان الإشكاليات التي يهربون منها، هي وليدة واقع مريض، وليس نتيجة لغة عاجزة ومعقدة.
صدر للبروفسور سليمان جبران:
1- المبنى واللغة في شعر عبد الوهاب البياتي، دار الأسوار، عكا، 1998.
2- كتاب الفارياق: مبناه وأسلوبه وسخريته، جامعة تل- أبيب، 1991. طبعة ثانية: دار قضايا فكرية، القاهرة، 1993.
3- صلّ الفلا، دراسة في سيرة الجواهري وشعره، جامعة حيفا، 1994. طبعة ثانية: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، عمان وبيروت، 2003.
4- نقدات أدبية، جامعة تل أبيب، 2006. طبعة ثانية: دار الفكر، عمان، 2007.
5- نظرة جديدة على الشعر الفلسطيني في عهد الانتداب، جامعة حيفا، 2006. طبعة ثانية: مكتبة مدبولي، القاهرة، 2007.
6- صغار لكن…، مجموعة قصائد للصغار، حيفا، 1996.
7 – “اوراق ملونة” نصوص بين السياسة والثقافة
8- مقالات ودراسات أخرى كثيرة في النقد الأدبي واللغة.
nabiloudeh@gmail.com
بقلم: نبيل عودة
الكتاب: على هامش التجديد والتقييد في اللغة العربية المعاصرة
المؤلف: بروفسور سليمان جبران
اصدار: مجمع الللغة العربية – حيفا
مواقع النشر