[align=justify]كان يحدثني مبتسما وهو يهز رأسه متكئا بمرفقيه الي مسند الكنبة ودون ان ينظر الي، كأنما يسترجع لنفسه لايحكي لي ، قال لي كنت قد أخذت في ا لكتـًاب : ( والشمس وضحاها ) ورجعت يومها من عند الشيخ مشدوها منبهرا وكأني لم أكن أعرف الشمس من قبل ، صوت شيخنا كان عريضا قويا ويبزغ من خفوت كبزوغ الشمس وقت الفجر، هكذا كان أبي يقول، آه لو كنت سمعته حين يقول( والشمس وضحاها) .
رجعت إلي البيت رسمت علي لوحي الإردواز شمسا كبيرة بالطبشور وكتبت إسمي في منتصفها ( حسين )
صعدت إلي سطح الدار ليلا وانا مصمم أن أراها كيف تولد من قلب الليل كما يقوم صوت شيخنا من خفوت ، ماكنت شاهدت بزوغ الفجر من قبل ، كان مثيرا لي ان اري كيف يولد الصبح واين يفر الليل
قاومت النوم طويلا بأن ارش وجهي كل حين بماء ، ولكن نسمة الهواء الليلية غلبتني ومسحت علي خشمي مع رائحة النعناع والريحان وغيرها من زروع حولنا يسمر زهرها ليلا وسحبتني جميعا للنوم ، ماأيقظني إلا صوت أبي وقت الظهيرة
: أأنت هنا ونحن قلبنا عليك البلد ؟!
سحبني من يدي إلي أسفل بغلظة وانا نزلت معه في صمت ووجل ، ومعصمي ضائع في كفه الغليظ الموشوم ، وفي منتصف اليوم كانت هناك غضبة أخري أ شد علي لوحي الإردواز الذي ضاع ،لااذكر إلا أن آخر ماسطرت ورسمت عليه هو إسمي داخل قرص الشمس .. ولا أعرف أين نسيته .
وضحك ضحكة صافية وطويلة حتي بدا وكأن آخرها موشي بنبرة بكاء ، وشرد وكأنه لم يعد معي ….
تذكرت هذا الحديث الطفولي الباسم الشجي وأنا اليوم علي نفس السطح ، تحت تكعيبة عتيقة تآكل خشبها ، وربما هي التي آوي اليها يوم ضيع لوحه الإردواز، بيت مهيب مبني في منتصف القرن التاسع عشر ، تستمع لصرير ابوابه الضخمة ، فيخيل لك أن ستشهد خلف الأبواب المغلقة رجا ل لهم سحنات وملابس مختلفة يتحدثون عن الوالي وا لفيضان وعفاريت البلدة وشجرة العائلة ، عصر آخر خلف الأبواب ، والسطح ايضا مهيب ، كانه مهبط لآرواح تتدلي رويدا رويدا من السماء الزرقاء ، وبقية فرن الخبز الشمسي بالناحية الأخري من السطح وعن يساره قليلا أطلال عشة للدواجن ، ويرن في اذني نداءا لآمرأة ماتت منذ اعوام طويلة تزعق علي ابنها ليشتري لها الخميرة من اجل عجين الخبز الشمسي ، واذا طللت للقرية وجدت عالما سابحا في ظلام الليل .
علي موعد أنا في الصباح مع زيارة هامة، تذكرت حديثه ، ولم يكن هذا الجو الذي تحل فيه أطياف الجدود والجدات ليسمح بالنوم السريع .
شدني إحساس داخلي وحنين نبع في قلبي وسيرني كالمنوم ان أعبث بعصا في هذا الشق ما بين حائطين منخفضين عند التكعيبة ، كانا بداية لبناء لم يكتمل ، لامست العصا شيئا ما ، أخذت أعالجه حتي أصبح قريبا ، وبعد جهد سحبت الخبيئة ، لوح إردواز عليه شمس وضيئة وكلمة حسين ، لان قلبي كقطة في يدي صاحبها ، تحفة أن تجد شيئا كهذا ، سطح اللوح يعلوه بعض الغبار والتآكل وبعض الحفر .. ابتسمت واستسلمت للنوم العميق .. والنعناع والريحان يهدهداني سويا .
في الصباح نزلت إلي الطريق إخترقت حقول السمسم وفي يدي الخبيئة ، انظر للشمس التي لم تتغير ومرت عليها ملايين الوجوه ، وصلت إلي آخر الحقول حيث كرم النخيل وزراعات صبار ، وصوت خريرالمياه والأوز والأطفال يأتيني من بعيد محتفلا بالحياة .
الان أنا اخترق المقابر في تهيب ، وصلت أخيرا ، رميت عليه السلام وفردت يدي أرِيه ما معي ، وابتسمت له
: ها قد وجدت لوحك الإردواز ....... وشمسك
نظرت للوحة الرخامية البسيطة ( الحاج حسين إبراهيم 1904-2004) ووجدت سربا من اليمام يودع الحقول الخضراء ويذهب بعيدا في الأفق ، ارتعش جسدي ، ودعته مبتسما ودامعا ، سرت في طريق العودة وأشعر أن عيني طفل في السابعة تودعني مبتسمة من عند المقبرة ، وكلما التفت غاب بين مشاهد القبور،كطفل شقي ظريف ، فشعرت بألفة مقلقة ، فوسعت خطواتي دون الهرولة ،لأهرب بكبرياء ، لااعرف إن كان هو جدي ... ام هو انا ، لاأعرف إن كان يودعني للأبد أم ينتظرني لميعاد محتوم[/align]
مواقع النشر