بوتشيش: هكذا عرفتُ عبد الهادي التازي "إمام المؤرخين"
حسن الأشرف (هسبريس) ـ كثيرون التقوا الدبلوماسي السابق والمؤرخ المخضرم، الدكتور عبد الهادي التازي، الذي وافته المنية مساء الخميس، عن سن ناهز الـ94 عاما، إما في محاضرات جامعية ألقاها، أو في لقاءات علمية شهدها، أو خلال زيارات أكاديمية داخل وخارج البلاد، فيكاد يكون الرأي واحدا حول شخصيته اللامعة والجامعة.
ومن الانطباعات بخصوص شخصية المؤرخ المغربي الراحل، التي حرصت هسبريس على نقلها للقارئ، ما اندلق في ذهن الأكاديمي وأستاذ التاريخ الإسلامي بجامعة مولاي إسماعيل بمكناس، الدكتور إبراهيم القادري بوتشيش، والذي اختصر مسار التازي بوصفه "إمام المؤرخين".
ألمعي وعصامي
وقال بوتشيش إن المرء لا يستطيع من فرط هول الفاجعة الأليمة، إلا أن يتلعثم لسانه وهو بصدد تقديم انطباعات حول مؤرخ في قامة الأستاذ عبد الهادي التازي تغمده الله بواسع رحمته، فالكلمات لا تفي بحق مؤرخ تربع بعلمه وإشراقات قلمه وأبحاثه الرصينة على عرش التاريخ".
وتابع بوتشيش قائلا "تشرفتُ بمعرفة التازي وأنا أخطو خطواتي الأولى في درب البحث التاريخي، وكان آنذاك مديرا لمعهد البحث الجامعي للبحث العلمي بالرباط، فوجدت فيه باحثا متواضعا في خلقه، شامخا بعلمه، يغذي طموح الباحثين الشباب، ويتتبع خطاهم أولا بأول، ويسعى لكي يورّث المشعل للجيل الجديد".
وأكمل "عند زيارة منزل الراحل، يتراءى أمامك مشهد الرجل العصامي، الغارق في دهاليز البحث والتنقيب، الناسك في عالم القراءة والاطلاع والاجتهاد"، مضيفا أنه "بهذا الاعتكاف الأبدي، استطاع أن يحقق من الإنجازات العلمية الهائلة ما لايصدق في زمن يئنّ فيه العلماء تحت وطأة التهميش".
واسترسل بوتشيش متذكرا لقاءاته بالتازي: "عندما جمعتني معه بعض الملتقيات والمؤتمرات العلمية في المغرب وخارجه، وجدت فيه أستاذا لَوْذَعيا، حاذقا مبرزا، وألمعيّا مفوّها، وموسوعة علمية، وحجة في التاريخ الذي مخض عبابه، وخبر أسراره، ما جعله يساهم في وضع حجر الأساس لمعمار الكتابة التاريخية في شموخ صامت، بعيدا عن البهرجة الإعلامية".
ويتذكر الأستاذ الجامعي كيف شاهده ذات مرة في إحدى الملتقيات العلمية، وهو يجر عربة مملوءة بالمخطوطات التي اعتمدها في تحقيق رحلة ابن بطوطة"، مشيرا إلى براعة الراحل عبد الهادي التازي، التي لا تضاهى، في التحقيق الذي كان فيه صاحب القدح المعلى"، وفق تعبيره.
وأفاد بوتشيش أن الراحل التازي وهبه الله أسلوبا فريدا في إلقاء المحاضرات، إذ كان محاضرا مفوها، يستطيع حبس أنفاس المستمع، ويبذر عنصر التشويق في نفسه، مع براعته في اختيار درر الألفاظ اللغوية المستفرهة التي تجعل محاضراته جذابة، لا تشبع منها الأذن".
وفي مضمون كتاباته، يضيف بوتشيش، كان "لا يتهاون في الدفاع عن وطنيته وعروبته، وكان منظوره للتاريخ يقوم على أن فهم التاريخ العربي الإسلامي لا يتأتى دون إدراك السيولة التاريخية بين المشرق العربي ومغربه، لذلك كان يدعو أهل المشرق للانصباب على قراءة تاريخ المغرب، والعكس صحيح أيضا".
دبلوماسية وأخلاق وشباب
وبخصوص جانبه الدبوماسي، قال بوتشيش لهسبريس إن التازي رحمه الله كان شغوفا بالتاريخ الدبلوماسي الذي لا يشق له فيه غبار، حيث أبدع فيه، وأكمل تلوين مربعاته التي كانت فارغة، كما كان حريصا على الآثار التاريخية باعتبارها الحلقة التي تسمح باستكمال قراءة التاريخ، وإعادة استنطاق أحداثه".
وتابع المتحدث بأن الراحل كان شديد الغيرة على الآثار التاريخية، باعتبارها ذاكرة التاريخ وقلبه النابض، لذلك سخّر قلمه أثناء الغزو الأمريكي للعراق، للتنبيه إلى مخاطر إتلاف الآثار التاريخية من سطو الاحتلال، ومن نهب العوام لمادة تاريخية لا يقدّرون قيمتها الحضارية".
وعلى غرار الجانب العلمي الذي كان له فيه الكعب العالي، يضيف بوتشيش، كان الفقيد يختزن رصيدا أخلاقيا يزيد من بهائه العلمي ويكمله، فهو معروف لدى الخاص والعام بطهارة السريرة، والحزم والانضباط، إلى جانب التسامح، وفتح باب الهزل والملاطفة والبشاشة".
ولفت أستاذ التاريخ بجامعة مكناس بأن "إمام المؤرخين" كان حريصا جدا على تشبيب عقله وتجدده، إذ كان في كل اللقاءات التي جمعتهما معه، يحرص على إجراء التمارين الرياضية في الصباح الباكر، لذلك ظل التازي شابا في عقله رغم تقدمه في السن" وفق تعبير بوتشيش.
ولفت الأكاديمي المغربي إلى أن الأستاذ التازي كان شيخ الرحالة في هذا العصر الحديث، فقد قام بأزيد من ألف رحلة طلبا للعلم، أو لإنجاز مهمات علمية وسفارية، مما يجعله يستحق لقب "ابن بطوطة القرن العشرين"، على حد قوله.
وبكلمة جامعة، خلص إبراهيم بوتشيش إلى أن "رحيل المؤرخ والسفير، عبد الهادي التازي، سيخلف جرحا غائرا في بيت المؤرخين، وبياضا من الصعب ملؤه، وسنظل نحبه كما أحببناه في حياته، وندعو الله له بالرحمة والمغفرة، وجنان الفردوس" يورد المتحدث.
مواقع النشر