العلاقة بين الرجل والمرأة علاقة تكاملية، عمادها المودة والرحمة ومنطلقها الزواج، الذي يمثل أسمى مراتب هذه العلاقة التي تنشأ عنها الأبوة والأمومة والتقارب وتشكيل الأجيال، وبها يتحقق الاستقرار واستمرار العنصر البشري الذي عهد إليه بعمارة الأرض وخلافة رب العالمين فيها، ليسود السلام وتستظهر كنوزها ويواءم بين الكائنات فيها، واستثمار عطائها. وخير زواج ما أسس على التقوى وانتهج فيه الاحترام المتبادل، وجسدت فيه معاني المودة والرحمة، وسعى أطرافه إلى تشكيل أسرة تستجيب لأهداف هذه المؤسسة المثال، ذات المسؤولية الجسيمة المستحقة للرعاية والتضحية والإيثار.
أما عن نشأة ونمو هذه العلاقة فالأصل فيها التوافق الذي يعزز كيانها ويورف ظلالها، ولئن تطورت مقومات النشأة فإن أكثر ما يشد الطرفين إلى عقدها هي تلك المعاني والصفات التي يكون عليها الرجال والنساء، ومن بينها الجمال الذي هو عامل جذب لا يكفى لتأسيس علاقة يؤمل أن تكون مثالية، ولكنه يفسح لرؤية جمال آخر يكمن في الدين والخلق، والبنية الجسدية للرجل والتفكير النابه لدى الطرفين وما يعززه من علم وجزئيات شكلية ومعنوية، إلى ما وراء ذلك من حسابات المكتسبات والمؤثرات في المكونات التربوية والعرقية التي تدعو لحسن الاختيار، فالعرق دساس، وإن أصبحت هذه المسألة من المتممات لما طرأ على المجتمع من تغيير، أهمه التساوي في الاغتراف من معين المعرفة والتأهيل للمكانة وفق المكتسبات العلمية والخبرات والكفاءة، فالجذور المعنية في العرق إنما بسبب الاختلاف في القيم ومدى احترامها فإن ذلك يولد الفوارق التي يخشى منها على تصدع بناء الأسرة نتيجة للتصادم بين أطراف هذه المؤسسة، ولذا وجب الاختيار لمكونات هذه العلاقة.
ولقد تغلب الزمن على كثير من العوائق التي كانت تحول بين لقاء طرفين متجاذبين أو متنافرين إلا قضية واحدة ظلت وستظل حاجزا مانعا لتحقيق تطلعات الرجل بخاصة لاحتواء أمل شارد سبب له السهر والقهر وحلق به بعيداً في الآفاق، إنه الشيب، هذا الضيف الذي يصعب الاعتذار من استقباله أو الهروب منه، بل وتجاهل تبعاته أو دفعه مهما حاول المبتكرون جادين لمواجهته بمبتكراتهم الموارية للشكل أو الداعمة للمعنوية، فإنه لا يصلح العطار ما أفسد الدهر.
الجميل في الشيب عدله فهو لا يستثني أحداً، ولا يجدي لدفعه خضاب أو خطاب وحراب، فهو يتسلل إلينا زاعما أنه يلبسنا رداء الوقار، وينبهنا إلى تدارك مافات، واغتنام الفرصة فيما بقي من أعمارنا، متجاهلاً ما يسببه من فرقة بين ملذات الوصال وأحلام اليقظة. ومهما حاولنا تجاهل وطأته إلا أنه يظل صامداً حتى تتوارى كل آمال الانتصار عليه.
وهو بين الرجل والمرأة قضية شائكة أدركها الأوائل حين قالوا:
فإن تسألوني بالنساء فإننى
خبير بأحوال النساء طبيب
اذا شاب راس المرء أو قل ماله
فليس له من ودهن نصيب
يردن ثراء المال حيث علمنه
وشرخ الشباب عندهن عجيب
إنها مقولة رجل تظل مكوناته الاجتماعية تجعله لا يتنازل عن غروره، وتعلقه بالمتعة والتسلح من أجلها دون جدوى، أما المرأة فإن القيم الإنسانية تجعلها أحيانا تستسلم لمظلة المشيب لا من أجل ذاتها وإنما لظروف قاهرة تتصل بالأبناء والروابط الأسرية.
وقضية المشيب مع قدمها فهي في المجتمع الحضري والبدوي سواء، مشاعر الرجل نحو المرأة لا تعير الشيب أهمية ولا تعده عائقا يمنعه من التمتع بالنساء. ومن ذلك ما عاناه الشاعر محمود الجحرش البلوي الذي رغب في الزواج من امرأة في حيهم امتلك حبه لها قلبه، وقد بلغ من العمر سناً متقدمة لم تمنعه من التفكير في الزواج من امرأة ليست في سنه، تكبد السهر واللوعة واختلال التفكير في سبيل الزواج منها يقول:
يا من لقلبٍ به دواكيكْ ولْهود
واشيا خفيَّة ما عرفها الطبيبِ
ظليت اراعي ساري النجم يا سعود
إلى ما الثريا هكَّبت للمغيب
أبيع واشري في تماثيل وردود
ما اعَرْف منها المخطية والمصيب
أشيا تهدّ القلب والقلب مهدود
أشيا تحيَّرْ فيه عقل اللبيب
إنه ينهج منهج الشعراء في طرح شكاواهم إلى ذي مودة من أقرانهم، الذين يلاحظون شرود تفكيرهم، فلا يترددون في التودد إليهم والاستفسار عما يشغلهم، وسعود صديق وشاعر مقرب من الشاعر المضنى الذي بادر صديقه بشرح ما يعاني من لوعة، وما سبب له السهر منذ طلوع نجم الثريا حتى مغيبها، في معاناة وحوار مع الذات دون بلوغ نتيجة تهون عليه ما واجه من صدود ممن تعلق بها قلبه، من أحسن بها الظن وأسبل عليها من حسن الصفات، ثم ترد طلبه رداً مخلفا ظنه بها حين عيرته بالشيب:
جاني كلامْ من اريش العين ماكود
يشمت عليّه مع تردِّى نصيبي
تقول: والله ما تدانيت محمود
أكبر من الوالد وراسه مشيبِ
كلام مؤكد بعدم موافقتها على طلبه الزواج منها، لانه أكبر سنا من أبيها، خيبة أمل يمنى بها الشاعر المضنى الذي يواجه أيضاً حظاً لا يرقى إلى آماله، صدمة أخرى بعد قلقي من ممن أحب صدمات الحياة.
إنه يعتقد أن مثله لا يرد له طلب، فوفق قيم زمنه ليس رجلاً سيئا، بل إنه لا مقصراً في واجباته وليس ممن تنتقد سيرتهم في المجتمع، وليس به رداءة:
ولا دام لا هابي ولا امشي بمنقود
ولا ني رديٍّ عن لزومي أغيبِ
الشيب ما هو عيب يا دقيّق العود
يا فاطمة من طال عمره يشيبِ
نعم يا سيدي الشاعر من طال عمره يشيب، ومن شاب انصرف عنه كثير ممن تربطه بهم مصالح، أنت لم تشهد أسلوب البنوك اليوم التي لم تعد تعتمد قروضاً من تجاوز الستين من العمر، وكذلك التوظيف أصبح رهنا بمن يعتقد أنهم أهل للوفاء بمتطلبات القروض والتوظيف، ربما هذه التنظيمات لم تكن في زمنك.
وهل نلوم المرأة التي ترفض الزواج من مسن؟ المرأة كأي كائن حي تبحث عن السكن الذي بني عليه الزواج، وتبحث عن الأمن الاجتماعي لها ولأسرة تتكون من خلال هذه العلاقة، إنه التكافؤ الذي هو أساس في الزواج، ولذا لا تلام إن ترفض زواجا غير متكافئ زمنيا ومستقبلا، وشباب المرأة من آمن السبل للزواج فكيف تستسهل التضحية به في طريق غير آمنة، لا من حيث الاستجابة العمرية لمتطلبات الحياة الزوجية ولا من حيث النظرة لمستقبل ينتظرها.
المتعة ليست مبرراً للزواج، والأمن الاجتماعي الذي يتشكل من التطلع إلى تشكيل أسرة وعلاقة متينة عمادها التوافق والتكافؤ، وبغير ذلك يفتقد الزواج أكبر عناصره، كما يفتقد الزوجان سعادة الاستقرار والشعور بالأمن الأسري، أما إذا أدرك الطرفان المقاصد التي يؤسسان عليها هذه العلاقة ويستجيبان لها بكل رضا وارتياح فما المانع من ذلك؟ إنهما قبلاه ما عن قناعة ورضا، ولم يساقا إليه لغايات أخرى لا تصب في مصلحة الزواج.
شاعرنا عاش في صدر القرن الماضي وأحد شعراء يلي، تلك القبيلة التي عاشت حياة البر والبحر وامتدت أطرافها إلى الشاطئ الغربي للبحر الأحمر وقد ابدع الشاعر في كل فنون الشعر الشعبي، وتمثل أبياته التي تناولناها لونا من الشعر الغزلي والاجتماعي الذي يبدع فيه شعراء يلي.
بقلم : عبدالرحيم الأحمدي - جريدة الرياض - العدد 15934
مواقع النشر