دار الإعلام العربية : لم تكن العلاقة بين محفوظ والسينما تنتهي بمجرد إعجاب مخرج برواية ما له. فيحولها إلى صورة مرئية. ولكنها امتدت إلى أبعد من ذلك، إذ تزامن ظهور إبداع محفوظ الأدبي، مع كتابته سيناريوهات العديد من الأفلام المأخوذة عن روايات وقصص كتاب آخرين، مثل :
توفيق الحكيم، إحسان عبدالقدوس. كما شارك محفوظ في صناعة السينما، عبر المناصب التي تقلدها. إذ كانت ترتبط ارتباطاً مباشراً بالسينما. ذلك كرئاسته إحدى شركات القطاع العام، المعنية بتولي أمور الإنتاج السينمائي، في الستينات من القرن الـ20. وكذا ترؤسه جهاز الرقابة على المصنفات الفنية.
سيناريوهات محفوظ
كتب نجيب محفوظ 26 سيناريو للسينما، كان أولها في العام 1947. وهو فيلم "المنتقم"، بالاشتراك مع المخرج صلاح أبو سيف. ثم أفلام: "لك يوم يا ظالم"، "درب المهابيل"، "شباب امرأة"، "جعلوني مجرماً"، "الفتوة".
واستمر محفوظ في كتابة سيناريوهات أفلام مصرية، إلى أن أخذ صلاح أبوسيف روايته "بداية ونهاية" وحوّلها إلى فيلم سينمائي في 1960. هكذا تأخرت هذه الخطوة 13 عاماً. ومنذ ذلك الوقت بدأ المخرجون المصريون يعملون على تحويل رواياته التي تعكس الشخصية المصرية والمجتمع المصري وأحواله السياسية، إلى أفلام سينمائية.
السينما العالمية
كما انتبهت السينما المصرية إلى أعمال نجيب محفوظ؛ انتبهت السينما العالمية، أيضاً، لأديب نوبل، بعد حصوله على جائزة نوبل للآداب عام 1988. لتقدم السينما العالمية "بداية ونهاية". وكذا فيلم "حارة المعجزات" المأخوذ عن "زقاق المدق"، في المكسيك. وفي أذربيجان قدم فيلم "اعترف" المأخوذ عن رواية "اللص والكلاب".
نجوم في حياة محفوظ
يعد محفوظ أكثر أديب عربي حوّلت أعماله إلى السينما والتلفزيون. وجسد أعماله العديد من الفنانين الذين صنعوا نجوميتهم، من خلال عمق إبداعاته وصدق شخصياته ذات الأبعاد المختلفة، والتي تجذب وتستهوي أي فنان حقيقي لأدائها.
ومن أشهر النجوم الذين جسدوا أعماله، سعاد حسني أو إحسان شحاتة- في "القاهرة 30، الطريق، الكرنك"، محمود مرسي في "الشحاذ، السمان والخريف"، "سي السيد" بطل ثلاثية نجيب محفوظ الفنان يحيى شاهين، شادية صاحبة النصيب الأكبر في تجسيد رواياته "ميرامار"، "الطريق"، نور في "اللص والكلاب، وحميدة في "زقاق المدق". وكما كان لشادية نصيب كبير من أعمال محفوظ كان لنور الشريف نصيب أيضاً من أعماله، مثل: "السكرية، المرايا، حب تحت المطر، الكرنك".
ثراء فني
يشدّد الناقد الفني، محمد عبدالعزيز، على أن نجيب محفوظ أعطى ثراءً للعاملين في مجال السينما، في الفترات التي كتب عنها. كونه تناول فترات مختلفة ومهمة من تاريخ مصر. إذ بدأ اهتمامه بالحقبة الفرعونية من خلال روايات تاريخية كانت هي الأولى في مشواره الأدبي، مثل: "رادوبيس" و"عبث الأقدار".
ويشير عبدالعزيز إلى تغيير بعض المخرجين نهاية الفيلم عن الرواية. وكان هذا يحدث بالاتفاق مع محفوظ في بعض الأحيان، لافتاً إلى أن التغيير كان يراعي عدم الخروج عن السياق العام للرواية، وكان يجري من منطلق أن لكل مبدع رؤية، فنجيب محفوظ قال رؤيته في العمل الأدبي، والمخرج من حقه أيضاً، أن يعبّر عن رؤيته الإخراجية. وأن يترك بصمة، من دون أن يطمس أدب الكاتب.
ويؤكد عبد لعزيز أن نجيب محفوظ كان يتمتع بحرفية عالية في كتابة الرواية، وتقطيع المشاهد. فهو لم يكن يسرد الأحداث من البداية، إنما كان يجزئ الرواية كأجزاء بشكل مبدع. ويضيف: "لم يكن هناك من لا يتمنى أن يكتب له محفوظ سيناريو ما، لما له من قامة وشموخ وتعمق في الواقع المصري..
إن الأفلام المأخوذة عن أدب محفوظ، أصبحت من كلاسيكيات السينما المصرية، تُدرس في المعاهد الفنية، لحرفية وعمق كتاباته. إذ كان قادراً على إيصال المعنى بتلقائية وسلاسة. فعندما نشاهد فيلماً من أفلامه، في الوقت الحالي، نشعر وكأننا بالفعل نحيا هذا الزمن. وقلة من كتاب السيناريو من يستطيعون جعل المشاهد يشعر بهذا الإحساس، فالقصة والسيناريو عصب أي عمل سينمائي".
روائي عظيم ومبدع مرهف
يرى المخرج، الدكتور محمد كامل القليوبي، أن نجيب محفوظ واحد من الذين استفادوا بشكل أساسي من عمله كسيناريست للسينما، لافتاً إلى أن للسينما تركيباً زمنياً بدأ يظهر في كتابات محفوظ الأدبية بعد "الثلاثية"، إذ انتقل محفوظ من كتابة الرواية الكلاسيكية، إلى الأوروبية الحديثة. ويعترف القليوبي بعظمة نجيب محفوظ كروائي. ولكنه يرى أنه لم يكن على المستوى نفسه، وكذا العظمة في كتابته للسيناريو، موضحاً أن محفوظ استفاد في مرحلة كتابة السيناريو في حياته، كنوع من التجريب وكمرحلة للانتقال من الرواية الكلاسيكية إلى الرواية الأوروبية.
ويبين القليوبي أن محفوظ كان مقتنعاً أن الفيلم مسؤولية المخرج، والرواية مسؤولية الكاتب. فلم تكن لديه الحساسية المرضية التي يعاني منها البعض حالياً.
ويستنكر قول البعض إن بعض الأعمال السينمائية شوهت أدب محفوظ، مؤكداً أن الرواية موجودة في المكتبات وسيظل بإمكان أي فرد، الاطلاع عليها وعلى مستواها. لكن، ونتيجة الجهل، لا نجد من يقرأ أو من يحكم على الروايات الأدبية من خلال رؤيته لها في السينما أو التلفزيون. فالسينما تفيد المشاهد في أن تدفعه للتعرف إلى الرواية وقراءتها، وليس الاكتفاء بما رآه.
وعن أفضل الأعمال الأدبية لنجيب محفوظ، وتلك التي تحوّلت أيضاً إلى أعمال سينمائية جيدة، يوضح القليوبي أن فيلم "السمان والخريف"، المأخوذ عن رواية بالاسم ذاته، قُدّم بشكل جيد.
مضيفاً أن "الثلاثية" كذلك، قُدمت بشكل متميز من خلال مخرج الروائع حسن الإمام، خاصة "بين القصرين، السكرية". وهناك، حسب رأيه: "زقاق المدق". وأما "بداية ونهاية" لصلاح أبو سيف، فيشدد القليوبي على أنه أهم عمل تناولته السينما عن أدب محفوظ. ويشيد أيضاً بـ: "القاهرة 30" عن رواية "القاهرة الجديدة" وفيلم "الطريق".
القراءة الفردية والمشاهدة الجماعية
يؤكد السيناريست أبو العلا السلاموني، على وجود اختلاف بين فن الرواية والفن السينمائي. فلكل منهما متطلباته. إذ إن النص الروائي المقروء، بالطبع، سيختلف عند تحويله إلى شاشة السينما لإعطائه أبعاداً أخرى عن الرواية. ولكنه يلفت إلى أن العمل التلفزيوني ربما يكون أقرب إلى فن الرواية؛ لأنه مسلسل طويل يمتد حلقات طويلة. وكثير من الأعمال التلفزيونية نجح لاعتماده على فن الرواية، عكس السينما التي تأخذ جزءاً من الرواية، حيث تعتمد على فكرة من أفكارها وتبني عليها السيناريو، لاعتمادها على زمن قصير.
ويشدد السلاموني، على أهمية عدم الخلط بينهما. فإذا كانت الرواية تعتمد على القراءة الفردية، فالسينما تعتمد على المشاهدة الجماعية، مشيراً إلى استفادة محفوظ من فن السينما في كتابة الرواية والعكس، حيث استفادت السينما من كتاباته الأدبية. ويلفت كذلك، إلى سهولة تناول روايات محفوظ في السينما خاصة، لابتعاده عن فن كتابة الرواية الحديثة، التي يصعب تحويلها إلى السينما، لارتكازها على ما بعد الحداثة، ولاحتياجها تكنيكاً تجريبياً. وبذا هناك صعوبة في تحويلها إلى الشاشات المرئية.
ويلمح السلاموني إلى أن أفضل أعمال محفوظ هي: "الثلاثية"، "حديث الصباح والمساء" و"بين القصرين". كما يشير إلى أن محسن زايد كان أفضل سيناريست ترجم أعمال نجيب محفوظ للسينما والتلفزيون، متابعاً كذلك أعمال: "اللص والكلاب"، "الكرنك"، "السمان والخريف"، "ثرثرة فوق النيل". فكلها، برأيه، حققت نجاحاً كبيراً وسمعة طيبة وجوائز عديدة.
ويشير السيناريست أبو العلا السلاموني، إلى متعته الإبداعية الكبيرة، في ترجمته روايات من أدب محفوظ إلى شاشة التلفزيون، ومن بينها: "اللص والكلاب"- بطولة عبلة كامل ورياض الخولي وهاني رمزي، "حكاية بلا بداية ولا نهاية" في مسلسل - بطولة نبيل الحلفاوي وآثار الحكيم التي حصدت جائزة أحسن ممثلة عن العمل.. وكذلك حصل المسلسل على جائزة أحسن مسلسل اجتماعي وأحسن سيناريو من مهرجان الإذاعة والتلفزيون.
22 رواية تحولت أفلاماً سينمائية
اعتنت السينما المصرية، بتحويل أكبر عدد ممكن، من روايات محفوظ، إلى أفلام. وذلك لميزات كتاباته، التي تجعل العمل السينمائي، نابضاً بالحيوية والتشويق. وهكذا وصل؛ رصيد الروايات التي تحوّلت إلى أعمال سينمائية 22، من إجمالي 30 رواية.
ومن هذه الأفلام: (بداية ونهاية)، (اللص والكلاب)، (زقاق المدق)، (الطريق)، (خان الخليلي)، (الثلاثية.. "بين القصرين، السكرية، قصر الشوق")، (السمان والخريف)، (الفتوة)، (الشحاذ)، (ميرامار)، و(السراب)، (ثرثرة فوق النيل)، (المرايا)، (عصر الحب).
ولعب فنانون بارزون، أدوار البطولة في تلك الأعمال. كما أنها كانت بوابة ذهبية، لبعض المبتدئين، ليدخلوا عوالم الشهرة والنجومية. ومن بينهم: شكري سرحان، كمال الشناوي، عماد حمدي، تحية كاريوكا، سناء جميل، رشدي أباظة. كما أنه؛ كذلك من أبرز المخرجين الذين حولوا أعماله إلى شاشات السينما:
مخرج الروائع حسن الأمام، رائد الواقعية صلاح أبو سيف. ومن اللافت أنه لم تكن شعبية روايات نجيب محفوظ، لتطغى أبداً على الأعمال السينمائية التي تجسدها، أو العكس،إذ شكلا معاً واحة إبداع وتشويق .
كاتب ديمقراطي ونهج بنّاء
عرف عن نجيب محفوظ، وفي سياق التجارب الإبداعية السينمائية التي عكست أعماله، امتناعه عن كتابة سيناريوهات أعماله الأدبية، التي تحوّلت إلى السينما. ويرى نقاد سينمائيون، أن ذلك كان ذكاءً من كاتب كبير لا يريد أن يستأثر بالعمل من الألف إلى الياء.
وبذا ترك مبدعين آخرين يبرزون رؤيته التي يريد إيصالها إلى المشاهدين. وبناءً على هذا الأساس، يصفه البعض بـ"الكاتب الديمقراطي". ويرجع نقاد آخرون، السبب في عدم إقبال محفوظ على كتابة سيناريوهات رواياته، لإدراكه عدم تمكنه من هذا الجانب.
بقلم : منى الموجي
مواقع النشر