هناك علامات تدل على مدى الحياة في القلب ، وهذه العلامات مستقاة ومستخلصة من النصوص القرآنية ، ذلك أن التقوى المستقرة في قلوب المؤمنين هى أساس الصلاح وأساس الحياة " أولئك الذين أمتحن الله قلوبهم للتقوى " سورة الحجرات آية 3 .
ولما كان صلاح العلم والعمل مرهوناً بسلامة القلب وخلوه من العوائق والموانع التي تحول بينه وبين إدراك الحق وقبوله والإنقياد إليه وإيثاره . كان الإنسان السوي مطالباً بأن يتفقد قلبه كل حين حتى يحقق له أسباب الحياة والسلامة والصحة ، وذلك ما يجعل المؤمن في حالة يقظة وترقب .
ومظاهر حياة القلب علامات ، ودلالات على طريق المراقبة الذاتية تقدم لمن وجدها بشائر تشد أزره ، وتشحذ همته وتثبت خطاه على طريق الأستقامة ، كما يؤدي فقدانها إلى الخوف على الحال والمال ، ومن ثم فهى في الحقيقة وسيلة مهمة في المحافظة على حياة القلب وسلامته ، بل إنها أداة فعالة إذا حسن أستخدامها .
ونحن إذ نسوق جملة منها إنما نسعى إلى تحقيق المعنيين السابقين في حياة الناس لأن الله سبحانه وتعالى قد رتب على صلاح القلوب صلاح الأقوال والأفعال ، بل وطيب الحياة في الدارين .
فمن تلك المظاهر حسن الأنتفاع بالعظة والأستبصار بالعبرة والظفر بالثمرة ، فإن العمل الصالح هو ثمرة العلم النافع .
ومن تلك العلامات أو المظاهر وجل القلب من الله وشدة الخوف منه "
إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم " سورة الأنفال آية 2 . "
وبشر المخبتين الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم " سورة الحج الآيتان 34، 35 . "
والذين يؤتون ما أتوا وقلوبهم وجلة " سورة المؤمنون آية 60 . ومنها القشعريرة في البدن عند سماع القرآن ، ولين الجلود والقلوب إليه "
الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله " سورة الزمر آية 23 . ومنها خشوع القلب لذكر الله "
ألم يَأنِ للذين أمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله ومانزل من الحق " سورة الحديد آية 16 . ومنها الأذعان للحق والخضوع له "
وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فَتُخبِتَ له قلوبهم " سورة الحج آية 54 . ومنها كثرة الإنابة إلى الله "
من خشى الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب " سورة ق آية 33 . ومنها الإنس بذكر الله خلاف الذين يشمئزون منه "
وإذا ذُكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالأخرة " سورة الزمر آية 45 ، ومنها تعظيم شعائر الله "
ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب " سورة الج آية 32 . ومنها التضرع إلى الله والفزع إليه وقت الشدة "
فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا " سورة الأنعام آية 43 . ومنها الطمأنينة بذكر الله "
الذين أمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب " سورة الرعد آية 28 . ومنها السكينة والوقار "
فعلم مافي قلوبهم فأنزل السكينة عليهم " سورة الفتح آية 18 ، ومنها خفقان القلب بحب المؤمنين "
ربنا أغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غِلاً للذين أمنوا " سورة الحشر آية 10 . ومنها سلامة الصدر من الضغائن والأحقاد ضد المؤمنين "
وأذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً " سورة آل عمران آية 103 . ومنها عدم التقديم بين يدي الله ورسوله وعدم رفع الصوت فوق صوت النبي وغض الصوت عندة ، أي الأنقياد المطلق لأمر الله ورسوله والخضوع له "
يأيها الذين أمنوا لاتقدموا بين يدي الله ورسوله وأتقوا " سورة الحجرات آية 1 إلى قوله سبحانه وتعالى : "
أولئك الذين أمتحن الله قلوبهم للتقوى " سورة الحجرات آية 3 .
وهذا يعني أن إدراك الحق وإرادته وإيثاره من أهم مظاهر حياة القلوب وصحتها حيث يؤدي إلى حب الله والأنس به وإجلاله وتعظيمه والإنابة إليه والخضوع له والخوف منه ، وتعلق القلب به ورجائه ، والأطمئنان إليه والتوكل عليه ، وغير ذلك من أعمال القلوب التي تميز المؤمنين عن الكافرين ، وجماع ذلك كله محبة الله والأنس به والشوق إلى لقائه والتنعم بذكره وطاعته ، فذلك أطيب ما في هذه الدنيا ، فحياة القلب بذكر الحي الذي لايموت والعيش الهني إنما هو في الحياة مع الله ، ومن كان كذلك دله قلبه عن الدنيا وأنصرف كلية إلى الآخرة ، بل وعن كل شئ سوى الله تعالى ، فهذه هى حال قلوب المنيبين إلى الله .
وذلك كما وصف حارثة نفسه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فوصفه بأنه عبد نور الله قلبه بالإيمان وذلك في الحديث المشهور أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لحارثة : " يا حارثة كيف أصبحت قال أصبحت مؤمناً حقاً ، قال أنظر ما تقول فإن لكل قول حقيقة ، قال : يارسول الله عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلي وأظمأت نهاري وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزاً وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها وكأني أنظر إلى أهل النار كيف يتعارفون فيها قال أبصرت فالزم عبد نور الله قلبه بالإيمان " وهو يعني مصداق أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبن عمر : " كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل " .
فيتحصل مما سبق أن من أبرز مظاهر حياة القلوب وعلامات صحتها وسلامتها ، شدة التعلق بالله ، ودوام ذكره ، وأطمئنان القلب بذلك والإهتمام بصحة العمل بتصحيح النية تحقيق المتابعة ، والشح بعرضه كشح ذي المال البخيل ، والحزن على فوات الطاعات والأشتياق إليها ، وأجتماع الهم بالله والسعي في مرضاته ، وشهود نعمة الله والإحساس بالتقصير في حقه ، وذهاب الهم بالصلاة والأرتياح بها ، وإيثار الآخرة على الدنيا ، والنافع على الضار ، والتألم بورود القبائح على النفس ، والنفور من المعاصي ، وأن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما .
ومن خلقت فيه قوة الحب لله والإنابة إليه والعكوف بالقلب عليه والشوق إليه والأنس به ، فلذته ونعيمه أستعمال هذه القوة في ذلك وسائر اللذات دون هذه اللذة مضمحلة فانية وأحمد عاقبتها أن تكون لا له ولا عليه .
والقلب إن لم تسكنه محبة الله سكنته محبة المخلوقين ، والنفس إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل ، بل إن حال القلب مع الله هو كما قال أبن قيم الجوزية
: ( في القلب شعت لايلمه إلا الإقبال على الله ، وفيه وحشة لايزيلها إلا الأنس بالله ، وفيه قلق لايسكنه إلا الإجتماع عليه والفرار إليه ، وفيه نيران حسرات لا يطفئها إلا الرضى بأمره ونهيه وقضائه ومعانقة الصبر على ذلك إلى وقت لقائه ، وفيه فاقة لايسدها إلا محبته والإنابة إليه ودوام ذكره وصدق الإخلاص له ، ولو أعطى الدنيا ومافيها لم تسد تلك الفاقة ).
ومن ملاحظة واقع القلب ومعرفة حظه من تلك المعاني يعرف المرء حاله ومكانه . " وذلك لأن هذا الأنس المذكور يكون مبدؤه الكشف عن أسماء الصفات التي يحصل عنها الأنس ويتعلق بها كأسم الجميل والبر واللطيف والودود والحليم والرحيم ونحوها ثم يقوى التعلق بها حتى يكون معه طيب الحياة وقرة العين ولذة القلب وبهجة الروح مع كمال العافية بلا محنة والهداية بلا فتنة فتخف أعباء المسير ، ويزول كل فتور ويظل القلب في أزدياد من معاني الخير دائماً .
ولو أخذنا مظهراً واحداً من مظاهر حياة القلوب تلك لنعرض واقعنا عليه وهو خفقان القلب بحب المؤمنين فماذا نحن واجدون ، هل خفقت قلوبنا بحب أصحاب النوافل ؟ ، أم هل خفقت قلوبنا بحب أهل الصيام والقيام ؟ ، وهل خفقت قلوبنا بحب أهل العلم والدعوة والجهاد ؟ أم هل خفقت بحب أهل الصدق والبذل والإنفاق في سبيل الله ؟! . كلنا مطالبون بالإجابة الصادقة عن هذه الأسئلة لنقيس مدى الحياة في قلوبنا من خلال معيار واحد على الأقل .
مواقع النشر