الحلقة التاسعة والخمسون
شعرت في تلك الأيام بألم شديد في الجزء الأيسر من رأسي..
ظننته صداعا عابرا ..فاستعملت المهدئات..
ولكن الألم استمر وزاد حتى صار عذابا لا يطاق..
توجهت لقسم الطوارئ في مستشفى الملك سعود..
قال لي الطبيب: يجب أن تنوم في المستشفى لنرى ما القصة؟؟
لا أشك أنه قد ظن أن في الأمر شيئا خطيرا فقرر تنويمي..
اتصلت على شيخنا وبلغته بالحاصل..
فقلق علي رحمه الله واتصل على المشرف العام ليستبين الموضوع..
وضعت في غرفة جميلة وهادئة وكنت فيها وحيدا ..
وهذه من جمائل الدكتور عبد الله البداح المشرف العام..
بعد صلاة العصر.. جاءني في المستشفى للزيارة شيخنا رحمه الله
ومعه جمع كبير من الطلاب ..
لم أكن اشعر بشيء خطير سوى تلك الآلام التي تأتي ثم تروح ..
ولم يكن يوقفها سوى المهدئات والمسكنات والتي سيكون لها آثار جانبية في
المستقبل كما سترون..!!
إن مجرد رؤية هذا الرجل الشهم والعالم الجليل وهؤلاء الكرام حوله
من طلبته الأخيار ..
أشعرني بالفخر والشرف أن أنتسب لتلك الطائفة الصالحة رضي الله عنهم
زارني المشرف العام مرارا ومعه المدير الطبي ورئيس شئون المرضى
وفي بعض الأحيان عدة مرات يوميا جزاهم الله خيرا..
كثرت علي التحاليل والأشعة حتى أيقنت أن في الأمر شيئا ما !!
قلت في نفسي: أخي الكبير محمد رحمه الله سبق وأن مات بسرطان في دماغه
فهل ياترى توارث المرض لي؟؟
كنت كلما تذكرت العذاب الذي وجده والداي ونحن الأبناء من مرض أخين
الكبير محمد أصاب بالقلق والخوف..
ماذا لو تكرر الموضوع؟؟
أخي محمد رحمه الله له قصة أستميح القراء في روايتها وإن طالت ..
هذا الشاب الذي اذكر عنه أشياء بسيطة ،توفي رحمه الله وأنا ما زلت في سن
السابعة أو قريبا منها..
وذلك في سنة 1402 للهجرة ..
حيث شعر بآلام شديدة في رأسه .. وتعب الأطباء وعانوا في اكتشاف
سبب ذلك .. فقائل : هو ورم غير مرئي!!
وقائل : هو مرض نفسي ..
وقائل:هو دلع وتدلل صبياني!!
نقل على أثرها إلى الرياض لمستشفى الملك فيصل التخصصي ..
وهناك شخص المرض بأنه ورم خبيث في الدماغ..
أستأصل الأطباء الورم وادعوا نجاح العملية ..
ولكن الآلام لم تتوقف .. يئس الوالد رحمه الله من ذلك المستشفى
ونقله لمستشفى عرفان في جده
واستعملوا الإبر الصينية معه وأنفق مبالغ طائلة وبلا طائل!!
لم يسمع أبي بطبيب في شرق المملكة أو غربها أو قريبها وأقصاها إلا وذهب إليه وتعب هو وشقي كما شقي أخي محمد أو كاد..
أستعمل الأدوية الشعبية والكوي..
أذكر مرة أنهم كووه المسكين حتى سمعت صراخه وأنينه ونحن في السيارة
وكنا نبكي لبكائه رحمه الله ..
أما الوالدة فلا تسل عن حالها ولا عن كربها خلف الله عليها خيرا..
كنا نتقل بين مدن المملكة لعلاج أخينا أينما حل فقد كنا صغارا ولا راعي لنا بعد الله سواه..
أشار على الوالد عدد من أصحابه أن يعالجه في الخارج..
فتردد الوالد ولكنه أخيرا عزم ولكن أين وكيف وكم؟؟؟؟
جمع الوالد مبلغا وفيرا من المال وأظنه استدان جزءا منه ..
وسافر بأخي والوالدة واثنين من إخوتي الصغار لأمريكا ..
إلى مدينة هيوستن بولاية تكساس( ولا أدري هل نطقتها صحيحة)..
بقي أخي محمد لشهرين تقريبا مدركا لما يجري حتى دخل في غيبوبة ..
لم يستيقظ منها أبدا..
قرر الأطباء أن الوقت تأخر كثيرا !!
وقالوا للوالد : لو أتيت به مبكرا لأمكن استئصال الورم ولكنه الآن انتشر في دماغه ولو حاولنا إزالته فنجاح العملية فقط 1% (واحد في المائة )!!
ولك القرار؟؟
احتار الوالد ماذا يفعل واستخار ربه وأخيرا قرر أن لا يجري له العملية
فهي مخاطرة كبيرة وموت ابنه في بلده وبين أهله أهون على نفسه من موته في أمريكا ..
وسلم أمره لله تعالى..
طالب المستشفى الوالد بتسديد ما بقي عليه من مبالغ متأخرة..
فأخبرهم أن ما لديه لا يغطي مصاريفهم ومصاريف السفر..
فقالوا له : أدفع مبالغنا المتبقية ولا يعنينا كيف ترجع لبلدكم هذه مشكلتك.!!
اتصل الوالد على عدد من شركات الطيران لكي يرتب للعودة..
وجميعها رفض أن يوافق على النقل بسبب خوفهم من موت أخي وهم في
السماء!!
قال لهم الوالد: أنا اكتب لكم إقرارا أنكم لا تتحملون أي مسئولية عن ذلك وتقع
كل المسئولية علي إن مات.. فأبوا وأصروا على الرفض!!
خوفا على سمعة شركاتهم..
تقول الوالدة : أخذت الحيرة بابيك ولم يدر ما يفعل..
كانت هناك مترجمة لبنانية وعملها الأصلي التمريض في نفس المستشفى ..
قالت لأبي : يا أخ أحمد يوجد أمير من العائلة المالكة السعودية يتعالج
في القسم الذي تحتنا مباشرة ..فلماذا لا تذهب لتتحدث معه عن مشكلتك!!
توجه والدي دون أن يرد عليها فورا إلى القسم المذكور ..
وبحث عن أناس بسحنات عربية .. فوجد مجموعة من الشباب ومعهم رجل كبير في السن ويظهر عليه أنه ذو غناء وسلطة !!
سلم عليهم الوالد فردوا التحية وخصوصا ذلك الكبير منهم ورحبوا به ترحيبا كبيرا ..
وزاد سرورهم حينما علموا أنه من المملكة ومن أبناء بلدهم..
واستفسروا عن سبب وجوده ؟؟
فقال لهم : لأجل هذا جئتكم.. !!
وروى لهم حال الأخ محمد ووضعه مع المستشفى وشركات الطيران..
فقال له الأمير: هون عليك يا أخي واعتبر الموضوع منتهي وجهز حقائبك للسفر غدا..
أي تيسير من الله تعالى هذا التيسير ؟؟
الحمد لله على نعمه..
سدد الأمير كل رسوم المستشفى وتكفل لهم بطائرة تنقلهم مباشرة إلى الرياض..
جزاه الله خيرا ..
بخصوص اسم الأمير ذاك فإن كنت اذكر قال لي الوالد رحمه الله أن اسمه :
محمد بن سعود الكبير فجزاه الله خيرا إن كان هو أو غيره !!
بقي أخي في الرياض لأسبوع واحد ثم نقل للطائف لمستشفى القوات المسلحة في الهدى..
وفي صبيحة يوم خميس بعد أسبوع تقريبا من وصوله للطائف..
تقول أمي: كان أخوك ينظر إلى ما حوله دون أن يتكلم ..
فهو لا يشعر بمن حوله ولكنه يشير بأصبعه أحيانا..
في تلك اللحظات وحوالي الساعة التاسعة صباحا ..
جرك إصبعه وأشار إليها فنظرت في وجهه ..
فرأت اختلافا في ملامح وجهه ..
وكأنه يريد أن يقول لها شيئا ولكنه عاجز عن الكلام ..
قالت له : يامحمد ياقرة عيني ماذا تريد ياوالدي ؟؟
خرجت من عينيه دموع بسيطة ولكنها ذات معنى..
قبضت على يده وبقيت ترقب نبضه فقد كان يضعف ويضعف..
حتى فاضت روحه عليه رحمة الله وأسكنه جنات النعيم..
دار في مخيلتي وأنا في عنيزة تلك القصة وتلك المعاناة
هل ستتكرر معي..
دخل علي المشرف العام على المستشفى ومعه شخص أو شخصين..
وطلبوا رقم شيخنا وكأنهم يريدون تبليغي بأمر والشيخ يسمع!!
قال له الدكتور عبد الله : ياشيخنا الفاضل فلان يجب نقله بطائرة الإخلاء إلى الرياض فورا !!
قال شيخنا: هل حالته تستلزم ذلك ؟؟
قال : نعم ، فقد ظهر لنا من خلال الأشعة وجود ورم في رأسه !!
كان الوالد والوالدة والعائلة تتصل علي يوميا للتابع الأخبار..
حينما أبلغت الوالد أنهم سينقلونني بطائرة الإخلاء..
طلب مني الانتظار حتى يقدم ..
وصلت طائرة الإخلاء والوالد معا في نفس الوقت..
نقلت بالإسعاف للمستشفى العسكري في الرياض..
لم أكن أشعر بآلام تلك الأيام ولكن يبقى رأي الأطباء هو الحكم هنا..
رجوت الوالد أن يرجع للطائف فقد كنت أعلم المعاناة والمشقة عليه في بقاءه معي
وترك عمله وعائلته خلفه ..
أستفسر من الأطباء عن وضعي فقالوا له : الموضوع هو اشتباه واطمئن ولا تقلق..
رافقني أحد زملائي وهو الأخ سعود الحربي وأنعم به وأكرم من أنيس ومعين..
كان يخدمني في تلك الأيام محتسبا جزاه الله عني خير الجزاء..
رغم أني أستطيع السير والتنقل ..
كان بجواري شاب مصاب بشلل نصفي مؤقت..
أصيب به في أمريكا وعاد للملكة للعلاج..
كان شيخنا رحمه الله يتصل علي في اليوم عدة مرات ليطمئن علي ويسمع
المستجدات..
سمعني ذلك الشاب وأنا أذكر اسم شيخنا فرجاني أن يكلم الشيخ ولو لكلمتين إن
اتصل علي مرة أخرى، وهذا ما حصل..
قال لي: هل هو والدك؟؟
قلت : نعم أنا لي والدين اثنين !!
والد بالنسب والدم .. ووالد بالبر والرحمة وكلاهما عزيز على قلبي ولهما حق الأبوة علي..
رحمهما الله وأسكنهما الفردوس الأعلى ..
مكثت في المستشفى لأسبوعين اثنين ..
وكانت النتائج والحمد لله أنه مجرد اشتباه والورم هو انتفاخ في أوعية الدماغ ..
والآلام التي كنت أشعر بها هي مرض وصداع يسمى طبيا الصداع النصفي وتسميه العرب الشقيقة ..
مواقع النشر