منظمة العفو الدولية : يرقد الصبي أحمد حمدو (13 عاماً) جثة هامدة بلا حراك على إحدى النقالات التي تُركت على أرضية المستشفى. فلقد قضى الصبي نحبه للتو متأثراً بجراحه الناجمة عن إصابته بشظايا في منطقتي البطن والحوض.
وكان الأطباء في نفس الغرفة يحاولون جاهدين إنقاذ حياة طفلة صغيرة لحقت بها إصابات بالغة بالرأس.
وكان والد الطفلة يحملها بين يديه، متمتماً "إبقيّ معي يا صغيرتي الحبيبة". بيد أن الطفلة قد تُوفيت بعد 10 دقائق. وأما اسم الطفلة فهو مرام قاضي، وكانت تبلغ من العمر خمسة أعوام لحظة وفاتها.
مرام، وأحمد حمدو وطفلة ثالثة تبلغ 15 عاماً من العمر، وتُدعى دعاء، هم ثلاثة أطفال قُتلوا لدى قيام سلاح الجو السوري بقصف منازل أسرهم في قرية عين كاوي، مما أوقع خمسة قتلى بين المدنيين وتسبب بجرح العشرات.
وأما الصغير مثنى عبدو، فقد وصل إلى المستشفى وهو يعاني من جراح غائرة مروعة في فخذه الأيمن جراء شظايا القنبلة التي اخترقت ذلك الجزء من جسده الغض. ولست أعلم كيف يمكن لطفل صغير بالكاد بدأ يخطو خطواته الأولى أن يتحمل هذا القدر الكبير من الألم. وأما والدته، فقد لحقت بها هي الأخرى إصابة سيئة جداً في منطقة الظهر.
ففي سورية، يُقتل الأطفال وغيرهم من المدنيين أو يُصابون بجروح جراء عمليات القصف الجوي والمدفعي العشوائية التي تشنها القوات المسلحة التابعة للحكومة في جميع أنحاء البلاد.
ومع انصراف اهتمام وسائل الإعلام العالمية إلى التركيز على القتال الدائر في حلب والعاصمة دمشق، فبالكاد ترشح إلى العالم الخارجي أي أخبار عن فظائع الحياة اليومية والرعب الذي يعيشه سكان جبل الزاوية وغيرها من الأماكن من قبيل منطقتيّ إدلب وشمال حماة.
وفي سورية، يُقتل المدنيون أو يُصابون كل يوم وهم متواجدون في منازلهم، أو يمشون في الشوارع، أو هم يركضون للاحتماء من القصف.
خسر المئات أرواحهم أو جُرحوا في الأيام والأسابيع القليلة الماضية، والعديد من أولئك الضحايا كانوا أطفالاً.
فقد أُفرغت البلدات والقرى من سكانها تقريباً، حيث لجأ العديد منهم إلى إقامة مخيمات في المناطق الريفية القريبة، أو أنهم آثروا الاختباء في الكهوف.
والبعض الآخر من السكان الذين فروا من القصف قصدوا مناطق يأملون أن تكون أكثر أماناً، وأقاموا في مناول أقاربهم التي غصت بهم وبساكنيها؛ فيما آثرت فئة أخرى منهم الفرار عبر الحدود إلى تركيا – أو بالأحرى لا يزالون عالقين على الحدود بانتظار عبورها.
ولقد شهدت على وقوع عمليات قصف عشوائي يومي في معرة مسرين – تلك البلدة الصغيرة التي يبلغ تعداد سكانها 40 ألف نسمة، والتي كانت حتى وقت قريب تستضيف سيلاً لا يتوقف من العائلات الفارة من القتال. وأما اليوم، فقد أصبحت البلدة شبه مهجورة، ولم يعد يتوفر مكان آمن للقلة القليلة من السكان الذين بقوا فيها.
وفي 9 سبتمبر/ أيلول الجاري، سقطت أربعة قذائف مدفعية خلال نصف ساعة، لتقتل نبيلة حداد تاركةً وراءها أطفالها الأربعة؛ وقُتل أيضاً ابن عمها أحمد حداد، فيما جُرح ابنها البالغ 15 عاماً من العمر إضافة إلى اثنين من أقاربها.
وقبل ذلك بيوم واحد فقط، وبينما كنت في المدينة أحقق في إحدى الضربات الجوية التي أوقعت عدة قتلى بين المدنيين، سقطت قذيفتان على منزل إحدى الأُسر الكائن في الشارع المجاور. ولدى وصولنا هناك، وجدنا سكان المنزل وقد بدت عليهم أعراض الصدمة والذهول، وقد غطاهم الغبار الأبيض، بيد أنهم لم يُصابوا بجروح ولله الحمد. وكانوا جميعاً يتناولون الشاي عندما سقطت القذيفة.
وسرعان ما نُقلت النسوة الفزعات وأطفالهن إلى الجزء الذي بقي سليماً من المنزل الذي تعرض للقصف للتو. ولم أصدق كم كانوا محظوظين بأن كُتِبت لهم النجاة دون أن يلحق بهم أي أذى.
لكن ثمة آخرون لم يكونوا محظوظين بذلك القدر. فلقد أخبرني أفراد إحدى العائلات كيف قُتل أقاربهم وجيرانهم أو جُرحوا جراء إحدى عمليات القصف بتاريخ 18 أغسطس/ آب – فقد قُتل شخص يُدعى ناظر نجار وابنه البالغ 13 عاماً من العمر، فيما أُصيبت زوجته وثلاثة أطفال آخرين من العائلة. وذهبت إحدى الجارات وتُدعى يُسرى يونس ضحية للقصف أيضاً، إضافة إلى مقتل محمد علولو، وهو مالك أحد محال البقالة الكائنة في الطابق السفلي من المبنى.
وتكاد وتيرة القصف وسقوط القذائف لا تفتُر. فخلال أحد عشر يوماً أمضيتها في المنطقة، لم يكن يمضي يوم واحد دون سقوط قذائف، ولم أعثر ولو على بلدة أو قرية واحدة لم تنل نصيبها من القصف.
وتكاد تكون الأغلبية الساحقة من الضحايا هم من المدنيين. وليس ذلك بالأمر المفاجيء نتيجة ما تصبه الطائرات من حمم قنابلها غير الموجهة، وانهمار قذائف المدفعية والهاون المشهورة بانعدام دقة التوجيه فيها. حيث يُستعمل هذا النوع من القذائف في استهداف مناطق بأكملها وليس أجساماً أو أهدافاً بعينها، فهي مصممة للاستخدام في أرض المعركة. وعليه فيجب عدم اللجوء إليها البتة في المناطق السكنية.
وكنت قد وصلت يوم 8 سبتمبر/ أيول الجاري إلى تفتناز، وهي البلدة التي شهدت وقوع هجوماً وحشياً شنه الجيش النظامي في أبريل/ نيسان الماضي وخلّف عشرات القتلى بين المدنيين.
وقد دوّت أصوات الانفجارات المرتفعة في أرجاء البلدة التي أصبحت شبه خاوية على عروشها الآن. وقد اهتزت السيارة بعنف مع سقوط قذيفتين في إحدى المناطق الفارغة القريبة منا، وقد بدا أن القذائف تنهمر دوماً بدفعات مزدوجة – اثنتين اثنتين.
وباستثناء قافلتنا التي كنا نتنقل بها، والمكونة من سيارتين، فلم نرَ أحداً في الجوار. وفي الطريق، فقد شاهدنا نساء وأطفال متجهين إلى أحد مخيمات اللاجئين في تركيا – وهو ما لا يمكن تسميته بالهدف العسكري طبعاً. وبعد مضي بضعة دقائق سقطت قذيفة أخرى في أحد الحقول الفارغة بجانب الطريق، وعلى مسافة بضعة مئات من الأمتار عن سيارتنا. ومرة أخرى لم يكن هناك أي أهداف عسكرية على مرمى البصر.
ولم يتمكن الجميع من مغادرة المنطقة – فالوقود ندرة – فيما لا يرغب البعض الآخر من الناس بأن يصبحوا في عداد اللاجئين. ولكن تبقى الحقيقة أنه حيثما وُجد المدنيون فسوف يسقط الضحايا – وأغلبهم من الأطفال مع الأسف.
وفي مستشفى إحدى قرى جبل الزاوية، جُلبت جثتان، إحداهما لرجل والأخرى لأحد الصبية، الذي كان النصف الخلفي من رأسه مفقوداً. وأما أحد الرجال الذي ساعد في نقل بعض الجرحى إلى المستشفى، فقد أُغمي عليه من هول المنظر لدى محاولته إلقاء نظرة على الصبي القتيل.
وقد جرى التعرف على هوية الطفل الذي يُدعى عبدو أحمد الحمامي، وعمره تسعة أعوام.
وقد ملأ صراخ صبي يبلغ من العمر 13 عاماً إحدى غرف الطواريء في المستشفى، والذي كان يتألم جراء إصابته بشظايا غطت جميع أجزاء جسده، وهو بانتظار أن يحين دوره كي يعاينه الطبيب إصابته، كون الأولوية قد أُعطيت لآخرين تعرضوا لإصابات أسوأ بكثير. وقد تُوفي اثنان من الجرحى بعد ساعتين على الرغم من جهود الأطباء الحثيثة لإنقاذ حياتهما.
لقد كانوا ضحايا آخرين من ضحايا عمليات القصف العشوائي. وأخبرني بعض الجرحى وأقاربهم بأن عدة صواريخ قد انفجرت في قرية عشيم القريبة، مما أدى إلى مقتل وإصابة أناس كانوا متواجدين في منازلهم وآخرين في الشارع. وقد أوقع الهجوم مقتل خمسة أشخاص وجرْح ما لا يقل عن عشرة آخرين.
هذا، ويكاد النمط ذاته يتكرر في جميع المناطق التي أصبحت تحت سيطرة قوات المعارضة فعلياً. وعليه ونتيجة لدحر القوات الحكومية من تلك المناطق، فلقد لجأت هذه الأخيرة إلى قصف المناطق من الجو وبالمدفعية عن بُعْد، على الرغم من يقينهم بأن هذا النوع من الهجمات سوف يوقع لا محالة ضحايا من المدنيين بشكل شبه دائم تقريباً.
مواقع النشر