الحلقة الأربعون
أحاول في سرد قصصي ورواياتي هنا أن أحشر مواقف ومناقب عن شيخنا بين العبارات والكلمات كلما وجدت ذلك سائغا..
ذكرت منذ بداية قصتي أنني سأروي موقفا واحدا لشيخنا!!
ومن خلال السياق بعثرت عددا من القصص والشواهد
مما يزيد حبكة الموضوع ويعطي له نكهة خاصة..
ويوصل رسائل وانطباعات اقصدها وتفيد القراء الكرام..
أما بالنسبة عن شخصي فليس لدي شيء يستحق الذكر سوى ما يمر
بي من مواقف مع الشيخ والتي هي صلب الموضوع ..
لاحظت عددا من المتابعين للقصة يطلبون مني الاسترسال في الحديث
وأنا أتفهم أن القصد من ذلك معرفة حياة الشيخ محمد بن عثيمين
كما رأيتها وعاصرتها.. وهذا موضوع أوسع وأشمل مما يتصور أولئك
و لكن ما لا يدرك كله لا يترك جله...!!
لذلك سوف يختلف البرنامج قليلا ..
سأحرص على استكمال قصتي حتى النهاية وكلما سنحت لي فرصة
لذكر منقبة أو موقف سوف اذكرها وأسترسل أحيانا ..!!
فأرجو أن لا يصيب ذلك إخوتي القراء بالملل ..
فهي لا تخلو من فوائد وعبر هداني الله وإياكم صراطه المستقيم..
مع أن الذاكرة أحيانا تخونني .. لبعد الزمن وكثرة المشاغل ..
والله خير معين سبحانه..
أرجع لقصتنا..
بعد مرور حوالي عشرة أيام من عودتنا من جده ..
كلف الشيخ الأخ محمد زين العابدين والأخ محبوب والأخ بندر الحربي بالسفر معي للطائف لكي أحضر مكتبتي وحاجياتي..
نزلنا بسيارة الأخ بندر حيث هي من نوع النيسان الداتسن ذات الأربعة
أبواب.. .. وتوجهنا للطائف من طريق عفيف..
وهو طريق طويل وممل ولكن صحبة هذه الرفقة الصالحة ..
تنسيك تعب السفر ومشقته..
حدثنا الأخ محمد عن ذهابه للجهاد في أفغانستان ..
وروى لنا قصصه ومشاهداته هناك
ومما أذكره أنه في أحد الليالي المظلمة ..
وكان مع مجموعة من المجاهدين العرب والأفغان...
طاردتهم طائرة روسية..
وقصفتهم بالمدافع والصواريخ حيث أن معهم عددا من الأسرى
الروس وشيوعيون أفغان..
وروى كيف أنهم تمكنوا من إسقاط تلك الطائرة بصاروخ موجه..
بعد عناء وإثخان فيهم.. من العدو..
أذكر أيضا ما رواه لنا الأخ محبوب عن طلبة العلم في باكستان..
وكيف أنهم يجدون المشقة الهائلة في تحصيل العلم
والوصول إلى الشيوخ الثقات ..
وما يواجهه الطالب من عقبات من أهله وجماعته الذين قد يخالفونه
المعتقد أو النهج..
وكيف أنتقل من العقيدة الضالة والمبتدعة لعقيدة السلف ..
وازدادت رسوخا بعد قدومه للمملكة..
وقال : إن أكبر نعمة حصلها هو تمكنه من طلب العلم في حلقة شيخنا
عليه الرحمة والرضوان.. ويغبطه أنداده على ذلك ..
كان انطلاقنا من القصيم بعد صلاة العصر تقريبا ..
وسرنا أغلب الليل. ..
ووصلنا لضواحي الطائف بعد منتصف الليل..
كان الحديث مع الإخوة ممتعا غير أنهم كلما صمتوا ..
أتضايق من التفكير مما قد يحدث... وأتذكر أنني متوجه لرؤية عائلتي..
فافتح بابا للحديث
فينشغل فكري عما أنا مقدم عليه..
لم أكن أحب أن أتخيل ما سيحدث..
لا شك أن عائلتي قد وجدت في نفسها علي ..
مما فعلته..
خاصة وأنني لم أتصل بهم شهورا عديدة..
فأنا أبنهم وحق علي أن لا أقاطعهم .. وأصلهم واتصل بهم..
وهذا مافعلته بحمد الله بعد ذلك طوال بقائي في القصيم..
حينما اقتربنا من حينا أصابتني كآبة وخوف وارتباك..
وهو أمر طبيعي جدا...
فالمرء حينما يطول بعده عن أهله وذويه بسفر أو غياب لأي سبب
كان ،تصيبه نوبة من الارتباك والتردد..
قبيل ولوجه دارهم أو ينزل حلتهم..
هذا فيمن حاله طبيعية وفي أمر معتاد؟؟
أما حالي فهو معقد للغاية ، فالوطأة أشد والخوف والتردد أعمق..!!
حينما وصلنا قريبا من حينا ..
دارت في ذاكرتي تلك الأيام الخوالي..
تذكرت لحظة الهروب من البيت..
وكيف أنني خرجت من البيت خائفا أترقب...
وهاأنذا أعود الآن وكلي أمل لعهد جديد وصفحات مجيده إن شاء الله
سبحان من يبدل الأحوال ..
طلبت من الأخ محمد أن يتوقف قليلا لنستريح من عناء السفر..
ويأكل الإخوة شيئا ..
وكان مقصدي في نفسي أن أهيئ فؤادي وعقلي لمقابلة العائلة..
تضايق الأخ محمد من ذلك وكان يرغب أن استضيف الإخوة في بيتنا..
وكلامه مقبول ورأيه أسد..
فهو من سلالة كرام وأهل نخوة وشهامة..
فلا يرضى الواحد منهم أن يطعم الضيف سوى في بيته ومن طعامه
ولكن وضعيتي وحالي مختلفة للغاية ..
فعاداتنا وتقاليدنا ونخوتنا لا تقل عنهم والحمد لله ..
يقول الفقهاء..
الحكم على الشيء فرع عن تصوره!!
ويقولون أيضا..
مراعاة الحال ، والحكم على شواهد الأعيان كل بحسبه ..
فما كنت أحب أن أشغل عائلتي أو أشعرهم بتكليف..
خاصة لطول الغيبة ولخصوصية وضعي..
على كل..استرحنا لفترة من الزمن..
ثم طلبت الهاتف من صاحب المطعم ..
فاتصلت على البيت..
فردت علي الوالدة..
فرحبت بي وسرت بسماع صوتي وكأن شيئا لم يحدث!!
رضي الله عن والدتي وعفا عنها وجعلني معها في فردوسه الأعلى..
قلت لها سنقدم عليكم بعد قليل ..
وسوف ننقل المكتبة فورا في السيارة..!!
قالت : ألن تباتوا عندنا؟؟
فقلت لها: لا أريد أن أكلف عليكم والإخوان يرغبون الرجوع من غد!!
فقالت : باتوا عندنا الليلة والصباح رباح!!
توجهنا للبيت ..
واستقبلنا الوالد..
فرحب بي وبالضيوف ..
والحمد لله كانت نفسيته ممتازة ولم أرى منه أي تضايق أو انزعاج..
خاصة أن شيخنا بعث معي برسالة للوالد هذا مضمونها..
الأخ المكن ............. حفظه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد..
فأريد أن أبشركم أن ابنكم فلان مجتهد في دراسته وطلب العلم
ومحافظ على صلاة الجماعة خلف الإمام.. الخ..
وقد بعثته إليكم لكي يحمل مكتبته ويسلم على والدته..
ويحضر ملف الدراسة لكي يكمل دراسته الثانوية..
ثم دعا الشيخ لي وللوالد جزاه الله عني خير الجزاء..
وأحتفظ بعدد من رسائله للوالد عندي .. رحمهما الله..
سلمت على أمي وإخوتي جميعا ...
اشق شيء في السفر الطويل والانقطاع عن اهلك وأحبابك
هو أن تنزل عليك الأخبار جملة واحدة وقد يكون بعضها مرا وموجعا
ولذلك أحرص دوما أن اتصل على أهلي باستمرار خوفا من مرارة
الفواجع دفعة واحدة!!
فاجئني مرض أحد إخوتي الكبار بمرض قريب من الصرع !!
حيث أصيب بمس أو عين ..
فما استطعت الحديث معه أو افهم حاله.. فهو لا يكاد يعقل !!
سألت الوالدة عن أمره؟؟
فقالت: والله هو كما ترى ، وما تركنا مستشفى ولا عيادة إلا
وعرضناه عليهم ، استمرت حالة أخي كذلك لعدة شهور ..
ولكنه تعافى وعادت له صحته وهو الآن سيد نفسه وله ذرية وشأن!!
اجتمعت بالعائلة أخيرا ..
لقيت العمة .. التي وقفت معي في محنتي..
وقلت لها: الحمد لله فقد أوفى الله بظني ونجوت!!
فضحكت وفرحت ..
جلست مع إخوتي الصغار الذين اشتقت لهم كثيرا..
وخاصة أختي الصغرى التي أحبها حبا لا يعلمه إلا الله تعالى وما زلت..
وكم تألمت لفراقها وللبعد عنها فالحمد لله الذي جمعني بهم جميعا..
وجدت كثيرا من كتبي وأغراضي معدة لي عند باب البيت بناء على
طلبي..
لم يشق علينا تكديسها في مؤخرة السيارة وبالكاد وسعتها..
بات الإخوة في المجلس..
وسهرت طوال الليل مع الوالدة والعائلة ..
حيث كان يوم خميس ...
بعد صلاة الفجر ودعت العائلة ..
وتوجهت مع الزملاء لمكة لأداء العمرة ..
أدى الأخوة العمرة وبقيت أنا في السيارة أحرس متاعنا وكتبي..
ثم رجعنا للقصيم ووصلنا قريبا من العشاء..
أوقفنا السيارة .. وناديت على عدد من الزملاء.. ليعاونونا
في نقل الكتب للغرفة .. التي أمتلاءت أدراجها أخيرا بالكتب!!
لم أنم تلك الليلة من الحماس..
ورتبت غرفتي ورصصت كتبي في مواضعها حتى أذن الفجر..
نزلت للصلاة ..
وانتظرت شيخنا أمام باب المسجد ..
فجاء للمسجد وهو حاف !!
ويضع أعلى عباءته على رأسه..
قبل أن يدليها على كتفه قبيل دخول المسجد..
قبلت يديه ورأسه..
وليتنا قبلت قدميه ..
فله الفضل علي بعد الله في انطلاقتي الجدية ..
جزاه الله عني وعن المسلمين خير الجزاء...
مواقع النشر