سعد محيو - بيروت- swissinfo.ch : هل انتهت المُـهلة التي قيل أن روسيا منَحتها للرئيس بشار الأسد كي يُخمد الانتفاضة بالقوة؟ قبل الإجابة، تجدُر الإشارة إلى أن الأحاديث حول هذه "المُهلة"، تواترت في بيروت وعواصم عربية أخرى، قبل نيّف وسبعة أشهر، وتداولتها على نِطاق واسع، أطراف سياسية موالية للسلطة السورية.
143426919-32862864.jpg
فقد ذُكر آنذاك أن موسكو تعهّـدت لدمشق بتغطِية حمَلاتها الأمنية ولاحقاً العسكرية، في كل من مجلس الأمن وباقي المحافل الدولية والإعلامية، شريطة أن يقوم النظام بعملية "نظيفة" (أي من دون مذابح واسعة النطاق) وسريعة، ثم ينفِّـذ بعد ذلك إصلاحات سياسية، تُرضي بعض أطياف المعارضة على الأقل.
بيْـد أن عجز السلطة السورية طيلة سنة نيف عن الحسْم، مضافاً إليها الوعود المتكرّرة التي كانت تقدّمها إلى موسكو (وأيضاً إلى حلفائها اللبنانيين) حول قرب إنهاء "التمرّد"، كما كانت تصِفه، ولم يتحقق أياً منها، دفع روسيا إلى الشعور بأنها علقت في مأزق قد يُـسيء إليها بَـدل أن يعزِّز مواقعها الدولية، وهذا ما جعلها تبدو منفتِـحة مؤخراً أمام فِكرة عدم التمسُّـك ببقاء الرئيس الأسد في السلطة، كما كانت تفعل في السابق.
مؤشرات انتهاء المهلة
المؤشرات على انتهاء المُـهلة، وبالتالي ،على طرح مسألة مغادرة الأسد للسلطة، كانت لا تني تتراكم خلال الأسابيع والأيام القليلة الماضية. فقد صرّح غينادي غاتيلوف، نائب وزير الخارجية الروسي، غَـداة لقائه المبعوث الدولي - العربي كوفي أنان في جنيف: "لم نقُـل قطّ، كما لم نشترط أن يبقى الأسد بالضرورة في السلطة عند انتهاء العملية السياسية".
هذا الموقف الروسي الجديد سُـرعان ما التقطته واشنطن، فرحّبت به وقطعت بضع خطوات إلى الأمام للقائه في منتصف الطريق، فتراجَعت عن مطلبها بأن يستقيل الأسد فوراً، وقالت إن "تنحي الأسد ليس شرطاً مسبقاً لبدء العملية الانتقالية، لكن ليس له مكان في سوريا في المستقبل، لأن يديه مُـلطّختان بدماء السوريين".
عقِـب هذه التصريحات المُتزامنة والتي ترقُص على إيقاع واحد، جرت محادثات هاتفية بين وزيري الخارجية الأمريكي هيلاري كلينتون وسيرغي لافروف، تمّ فيها الاتفاق على "بدء العمل على مساعدة السوريين في عملية الانتقال السياسي"، وِفق النموذج اليمني، كما أشارت كلينتون.
الرئيس الأسد إذن، قد لا يكون قريباً العقبة الرئيسية أمام الحل في سوريا، لا بل تتحدّث معلومات "مجلس الشؤون الخارجية" الأمريكي عن أن روسيا عرضت على الأسد وعائلته اللجوء السياسي في موسكو، وأن إيران فعلت الأمر نفسه.
بيْـد أن تنحّي الأسد، في حال حدوثه، لن يحل الأزمة بشكلٍ فوري، لأن المُعضلة الحقيقية الآن هي طبيعة المرحلة الانتقالية التي يجب أن تلي هذا التنحّي. وبما أن الأزمة السورية (مع الأسف) خرجت عن نطاق سيطرة كل السوريين، النظام والمعارضة معاً، وتدوّلت بالكامل، فقد بات مطلوباً تحقيق وفاق دولي - إقليمي أولاً، قبل أن يكون بالإمكان تحقيق وِفاق وطني سوري.
تحرُّك أنان
أدرك كوفي أنان مؤخراً، وربما متأخراً، هذه الحقيقة، فسارع إلى محاولة إنقاذ مبادرته ذات النِّقاط السِّـت، التي قضت نحبها بالفعل، من خلال تحويلها من مبادرة داخلية سورية إلى مبادرة خارجية دولية - إقليمية.
في الواقع، كان هذا جوهر فِكرة "خريطة الطريق"، التي اقترحها أنان والتي تقضي بتشكيل "مجموعة اتصال" تضم الدول الخمس الكبرى في مجلس الأمن، إضافة إلى إيران وتركيا والسعودية، للإشراف على الحلّ في بلاد الشام. لكن من غير المعروف بعدُ إذا ما كانت "خريطة الطريق" هذه سترى النور أم لا، أو حتى ما إذا كانت ستستطيع البقاء على قيْد الحياة، إذا ما وُلدت.
ففرنسا والسعودية لا تريدان رؤية إيران على طاولة مجموعة الاتِّصال. وواشنطن وموسكو، لم تحسما رأيهما بشكل نهائي بعدُ. وكوفي أنان ليس متأكِّـداً ما إذا كان بمقدوره إقناع الإيرانيين بالمشاركة في المجموعة، وهم يرتدون "البرقع"، أي من وراء السِّتار. ثم أن عمل هذه المجموعة لا يمكن أن يتكلّل بالنجاح، إلا إذا ما تكلّل أولاً بوفاق روسي - أمريكي حول كوندومينيوم ما (حكم مشترك) لسوريا.
المفاوضات حول هذا الكوندومينيوم بدأت بالفعل. فالمسؤولون الأمريكيون المعنِيون بالملف السوري والشرق أوسطي، باتوا يرُوحون ويجيئون إلى ومن موسكو بشكل مُنتظم. وواشنطن تستخدِم الآن الورقة الأوروبية المؤثِّـرة على موسكو (بفعل العلاقات التجارية المهمّة للغاية بين الاتحادين، الروسي والأوروبي) لحمل موسكو على إدخال تعديلات جِذرية على مواقِفها من النظام السوري.
لكن المشكلة تكمُـن في طبيعة المقاربة التي يُطل منها الرئيس بوتين على المسألة السورية. فهو يعتبر سورية ورقة، مجرّد ورقة، في إطار جهوده لبناء استراتيجية أوراسية (أوروبا - آسيا) في إطار معاهدة شنغهاي، التي تضم إلى جانب روسيا، الصين وأربع دول إسلامية من آسيا الوسطى وإيران والهند. الهدف؟ إقامة توازن دولي جديد قد يمهِّد لنظام عالمي جديد متعدّد الأقطاب.
ولذا، مطالب بوتين المتعلِّقة بالحلّ السوري قد لا تقتصر فقط على الحصول على ضمانات لاستمرار النفوذ الروسي في دمشق، مقابل تطوير النظام الحالي فيها من دون الأسد، بل قد تشمل أيضاً جملة مطالب أخرى تتعلّق بوقف التدخل الأمريكي في الشؤون الداخلية الروسية، تحت شعار دعم الديمقراطية، وتقليص القلق الروسي من مسألة الدّرع الصاروخي في أوروبا وإبداء احترام أكثر لوضعية روسيا في جوارها السوفييتي السابق وفي العالم كدولة كبرى.
ربما يكون بوتين على استعداد لإبداء بعض المرونة مع واشنطن، إذا ما شعر أن مصلحته تكمُن في إعادة انتخاب أوباما رئيساً، وفي منع الجمهوريين من استِخدام الورقة السورية في الانتخابات الرئاسية الأمريكية كمادّة للتشهير بهذا الأخير، على أنه غير قادر على ممارسة دور الزعامة العالمية الأمريكية. لكن، وحتى لو كان هذا الاستعداد موجوداً، إلا أن بوتين، ببراعته التكتيكية، لن يتعجّـل الكشْف عنه، لئلا يُـسفر ذلك عن إضغاف أوراقه التساوُمية مع البيت الأبيض. هذه نقطة.
وثمة نقطة ثانية قد لا تقل أهمية: إذا ما أحسّ بوتين أن الأمور في سوريا بدأت تتجه بالفعل نحو حرب أهلية شاملة، قد تتمدّد إلى باقي دول المنطقة المجاورة، فإنه سيكون حينذاك أكثر استعداداً لملاقاة واشنطن في منتصف الطريق، إذ أن مثل هذه الحرب لن تحرق سوريا وحسب، بل أيضاً كل/ وأي نفوذ روسي فيها، وستطلق الوحش الأصولي الإسلامي المتطرِّف من عِـقاله ليضرب ثانية عُـمق الوطن الروسي نفسه.
السباق
ماذا تعني كل هذه المعطيات؟ أمراً واحدا: ثمّة سِباق حقيقي الآن في سوريا بين الوفاق الروسي - الأمريكي وبين "الانفِجار العظيم"، أي الحرب الأهلية الشاملة التي بدأت معالِمُـها تتّضح مع بدء تنقل المذابح المروِّعة من منطقة إلى منطقة، والتي يُتوقع أن تتفاقم أكثر خلال الأيام والأسابيع القليلة المقبلة.
قصب السبق حتى الآن، يبدو لصالح هذا "الانفجار العظيم. لكن، إذا ما سارعت روسيا إلى ترجمة نهاية المُهلة التي أعطتها للرئيس الأسد (كما ألمحنا في البداية) في صيغة رحيله عن السلطة بعد الاتفاق الدولي، على أسُس المرحلة الانتقالية أو حتى في تدبير إنقلاب عسكري (علوي) ضدّه، في حال رفضه ذلك، فقد يعني ذلك أن الحل الدولي، ومعه "الكوندومينيوم"، بدأ يفتح كوّة نور في النفق السوري المظلم.
مواقع النشر