الحلقة الثانية والعشرون
صلح الحديبية
في عام ستة هجريا عزم محمد( صلى الله عليه وسلم ) ومعه المسلمون على أن يؤدوا العمرة بالذهاب إلى الكعبة ، وأداء المشاعر هناك ، وجمع إلى جماعته بعض العرب الوثنيين ، لقد طرح محمد( ) وقفه هذا طرح إنساني ، فكرة أنه لا يحق للقبيلة أن تمنع زوار البيت من زيارته ، وقد كان العرب الذين ذهبوا معه يقدرون حقه في الذهاب للعمرة ، وانه لا يجوز منع من يعظم البيت والشعائر من الذهاب له ، لقد حولها في جزء منها لقضية عامة وليست قضية أهل دين جديد ، إنها قضية حرية ممارسة الشعائر الدينية ،
الذهاب للعمرة لا يشكل تهديدا حربيا للقبيلة بأي حال ، فالمُحرِم يمتنع عن القتال ، بل ويمتنع أيضا عن الصيد ، المهم أن القبيلة خرجت لتلقاه في الطريق لتمنعه من هذه الزيارة على أساس أنها تشكل امتهانا لسمعة القبيلة ولكرامتها من وجهة نظرهم ، وبلغه أنهم سائرون إليه ، فقال (والذي نفسي بيده، لا يسألونني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها )
لقد كان لديه مشاعر تجاه أهله هؤلاء برغم ما عناه منهم ، وكان بعرف مكانة قبيلته في الجزيرة ولم يكن يشأ أن يكون سببا في الحط من قيمتهم ، ومحاربتهم في بلدهم ، فيتحطم وضعهم ، حتى أنه قال ( يا ويح قريش ، أكلتهم الحرب ، ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر الناس ، فإن أصابوني كان الذي أرادوا ، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وهو وافرون ، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة ، فماذا تظن قريش ، والله إني لا أزال أجاهدهم على الذي بعثني الله له حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة )
أنه رحيم بهم لدرجة أنه يريد ان يوفر عليهم دماءهم ويتركوه للعرب فينتصر أو ينهزم ويوفروا أنفسهم ، كان يريدهم ألا يقفوا في طريقه ، لأنه سيكمل حتى النهاية .
وبعد اتصالات مكوكية لصده عن الزيارة ، وكان يؤكد للمبعوثين - الذين ترسلهم القبيلة لمفاوضته على الرجوع دون أداء العمرة - أنه جاء لزيارة البيت ليس إلا ولا ينوي على حرب ، في آخر الأمر أرسلت القبيلة ( سهيل بن عمرو )
فلما رآه محمد( ) قال للمسلمين ( لقد سهل لكم أمركم .. لقد أراد القوم صلحا حين بعثوا هذا الرجل ) ، ومن الجيد ومن المعمول به على المستوي السياسي هو محاولة توقع النيات من خلال شخصية الرجل المُرسل للتفاوض ، وبالفعل جاء الرجل وخطب وبدا أنه يريد إجراء صلح ، ولكنه كان على ما يبدو محنكا يجيد التفاوض ، ويجيد تحقيق ما يبدو كأكبر مكاسب ممكنة
وابتدر فنونه التفاوضية برفض امور في الصياغة ليست من متن الصلح نفسه ، فرفض أن يُكتَب الإستهلال الإسلامي ( بسم الله الرحمن الرحيم ) وأراد كتابة عبارة الإستهلال لدي الجاهليين ( بسمك اللهم ) ووافق محمد ، واعترض سهيل على عبارة محمد رسول الله وقال انه لو يقر بها أصلا ما كان حاربه ووافق محمد على أن يُكتب محمد بن عبد الله .
ثم جاء إلى المتن ، فطلب محمد( ) أن يخلوا بينهم وبين البيت ليطوفوا به ، فرفض لأن هذا سيظهر المسلمين أمام العرب كداخلين للبلد عنوة ، وأجًل ذلك للعام المقبل ، ووافق محمد
وكانت الصيغة النهائية كالتالي : باسمك اللهم
( هذا ما صلح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو
واصطلحا على وضع الحرب بين الناس عشر سنين يأمن فيهم الناس ويكف بعضهم عن بعض.
( على أنه من قدم مكة من أصحاب محمد حاجاً أو معتمراً، أو يبتغى من فضل الله فهو آمن على دمه وماله، ومن قدم المدينة من قريش مجتازاً إلى مصر أو إلى الشام يبتغي من فضل الله فهو آمن على دمه وماله.
على أنه من آتى محمداً من قريش بغير إذن وليه رده عليهم ومن جاء قريش ممن مع محمد لم يردوه عليه.
وأن بيننا عيبة مكفوفة، وأنه لا إسلال ولا إغلال.
وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخله، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه.
وأنك ترجع عنا عامك هذا، فلا تدخل علينا مكة، وأنه إذا كان عام قابل خرجنا عنك فدخلتها بأصحابك فأقمت بها ثلاثاً، معك سلاح الراكب السيوف في القرب ولا تدخلها بغيرها.
وعلى أن الهدى حيث ما جئناه ومحله فلا تقدمه علينا. )
ودخل في عقد محمد قبيلة خزاعة ، ودخلت في عقد قريش قبيلة بكر ، وهما قبيلتان من مكة بينهما خصومة .. لقد كان الصلح محبطا للمسلمين من حيث أنه أعطى للمشركين أكثر مما ينبغي ، ومالت البنود لصالحهم بشكل واضح رغم أن كفة الميزان كانت مائلة لصالح المسلمين ، ولكن محمدا يبحث عن أي شيء معقول يمكن الإتفاق عليه مع قومه يحقن الدماء ، نعم كان يريد لدينه أن يظهر ، ولكن بأقل تكلفة ممكنة
ويبدو أنه من النوع الذي لديه طاقة عالية على تحمل اختبارات شديدة لقدرته على صون المواثيق ، فقبل أن يجف مداد القلم الذي كتبت به الوثيقة ، إذا بإبن سهيل الذي فاوض ووقع عن الجانب الوثني يأتي إلى الناس وهو يرسف في أغلاله يطلب اللجوء للجماعة المسلمة ، ولطمه أبوه ورفض أن يجيزه إلى محمد ينما كان الرجل المعذُب يستعطف محمدا ، وقال له محمد وهو حزين (اصبر واحتسب فإن الله عز وجل جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجاً ) وأفهمه أن هناك صلح وعقد قد تم وانه لا يغدر وينقض اتفاقا
وحدث اختبار ثان ، اذ هرب احد المسلمين المعذبين بمكة بعد ذلك ، ولجأ إلى المدينة ، فأرسلت القبيلة رجلين لمحمد ليرد الرجل حسب الإتفاقية فأعطاهما إياه ، وفي الطريق قتل هذا المسلًم أحد الرجلين بسيف الرجل وطارد الآخر الذي فر راجعا لمحمد يطلب الحماية ووراءه الآخر ينتوي قتله ، ووصل إلى محمد وقال له ( قد والله أوفى الله ذمتك ، قد رددتني إليهم ثم نجاني الله منهم ) لكنه شعر أن محمدا سيعيده تنفيذا للإتفاق الموقع ، فاختار الرجل أن ينفلت بدينه وبحريته بعيدا ، وأصبح شوكة في حلق الكفار ،
إذ بدأ في تصيد قوافلهم والإغارة عليها وانضم له مجموعة من المضطهدين الفارين ،
حتى أن قريشا سألت محمدا الله والرحم أن يأخذهم عنده ، فأخذهم .. لست هنا في مقام بحث المكاسب التي حققها المسلمون من هذا الصلح ، إذ كان فاتحة خير عليهم ، ولكنه استطاع أن يحقق ببعد نظره مصلحة هامة للدين الجديد ولحماية الدعوة والحرية الدينية كما أنه لم يجد أي داع لأن يهد كيان قبيلته وحرص إلا يحدث ذلك ، لقد سمح للصراع بأن يتحول لصراع أفكار ومعتقدات ، فعقيدة الوثنية لم يكن هناك من يتحرك للدعوة لها ، هي شيء موجود كالعادة الأصيلة ومحمي بالسادة ، بينما الدين الجديد يحتاج لأن يصل العقول ، وهذا لن يتأتي في ظروف أفضل من توقف الحرب ، وبالفعل آمن الكثيرون بالإسلام في جو الهدنة . لقد زال التوتر الذي كان يمنع تقليب الأمور ، ولم تعد القبائل والأفراد في حالة متابعة للمشهد الميداني ينتظرون أي الفريقين سينتصر حتى يحسموا أمرهم ، وبدا أن قريشا لم تعد تدافع عن عقيدة راسخة بل أبرمت صلحا يهتم بشأنها هي ، فلما غاب الرائد انفض الجمهور وأخذ الناس يستفسرون عن ماهية الدين الجديد . . أعجبني تشبيه لهذه الإتفاقية بالصلح الذي عقده بسمارك مع النمسا حينما رفض اقتحام فيينا رغم أن الطريق كان مفتوحا تماما عام 1866 م ، واختار أن يعقد معهم صلحا كريما لأنه يعرف أن النمساويين هم شعبه ( 1)
________________________________________
(1) د عبد الوهاب كلزيه الشرع الدولي في الإسلام
مواقع النشر