يثرب والرومان

ظهرت الدولة الرومانية قبل الميلاد بعدة قرون، واشتدت قوتها فاستولت على ممالك الإغريق (اليونانيين القدماء) ومدت نفوذها إلى بقية أوربا وغربي آسيا وشمالي أفريقيا. ولكن الرومان لم يستطيعوا التوغل في جزيرة العرب في فترة امتدادهم العسكري الكبير، لأن الصحراء الواسعة تشكل العقبة الكبيرة لجيوشهم النظامية الجرارة.
ويذكر التاريخ الروماني محاولة واحدة قامت فيها حملة رومانية باختراق الجزيرة العربية إلى جنوبها للوصول إلى مناطق الذهب في أرض اليمن، وقد جرت هذه المحاولة في عهد الإمبراطور (أغسطس) عام 25 ق.م حيث أمر هذا الإمبراطوار واليه على مصر (أوليوس غالوس) بإعداد الحملة وقيادتها، ورافق الحملة جغرافي معروف هو (سترابون) صديق القائد (غالوس) وكتب عنها، فوصلتنا أخبارها شبه كاملة.
خرجت الحملة بعشرة آلاف محارب روماني وألف قبطي وخمسمائة إسرائيلي، يرشدها أحد قواد الأنباط، وأبحرت من الساحل المصري للبحر الأحمر ووصلت إلى ميناء (لويكة كومة) (يقدر دكتور جواد علي أنها ينبع. المفصل 2/45، بينما يرى فؤاد حمزة أنها مويلح. قلب جزيرة العرب 257)، بعد أن خسرت عدداً كبيراً من السفن والرجال، وفتك المرض بعدد آخر لفساد الطعام والماء وسوء الغذاء، فاضطرت إلى قضاء الصيف والشتاء فيه حتى استراح الجيش وتعافى من المرض. بعدها تحركت الحملة إلى نجران، واجتازت عدة مدن وحاربت أهلها حتى بلغت مدينة مرسيبا (مأرب) ومنها عادت إلى مدائن صالح ثم أبحرت عائدة إلى مصر، ولم تحقق الحملة أهدافها ولم تحصل على الذهب الذي خرجت لأجله، كما أنها لم تلحق المدن التي احتلتها بالدولة الرومانية.
وقد تعددت الآراء حول الطريق التي سلكتها الحملة بعد نزولها في (ينبع) أو (مويلح)، ومن بين تلك الآراء رأي يقرر أن الحملة سارت في طريق (إضم) إلى (يثرب) لكي تتجنب الاصطدام بالقبائل التي تسكن على الطريق التجاري بين ينبع والجنوب، وأنها تابعت طريقها من (يثرب) إلى (نجد)، ومنها سارت في طريق اليمن إلى نجران.
وذكر سترابون أن ملك تلك المنطقة ـ ربما كان شيخ قبيلة ـ يدعى الحارث قد رحب بالرومانيين وساعدهم في اجتياز الطريق. وبناء على هذه الرواية ـ وهي أرجح الروايات ـ فإن الحملة قد مرت بيثرب واستراحت فيها قليلاً وتزودت بما يلزمها من الماء والطعام، فسترابون يذكر أن المنطقة كانت كثيرة العيون. ولاشك أن ذكاء الحارث وحسن تعامله مع قائد الحملة قد أفاد (يثرب) وبقية المدن التي مرت بها، فلم يتعرض الجيش لها بسوء، وربما يكون الحارث قد تفاهم مع شيوخ المنطقة ورؤسائها كي يتجنبوا الصدام مع الحملة. وعلى أية حال، فإن الحملة لم تترك أثراً في (يثرب) أو في حياة اليثربيين، حتى إننا لا نجد لها ذكراً في كتابات المؤرخين القدماء، بل إن الرومانيين بعامة لم يؤثّروا في حياة يثرب وأبنائها على الإطلاق. وكان مرور الجيش الروماني في هذه الحملة هو العلاقة الوحيدة والعابرة معهم.

اليهود في يثرب

تذكر المصادر التاريخية روايات كثيرة مختلفة لوجود اليهود في يثرب في العصر الجاهلي وتجمع على أنهم جاؤوا إليها من خارج الجزيرة العربية في عدة هجرات متوالية:
الأولى في سنة 589 ق م عندما اقتحم بختنصر البابلي أورشليم ودمر الهيكل وسبى معظم أهلها فهرب جماعة منهم وساروا إلى بلاد الحجاز ونزلوا (يثرب).
الهجرة الثانية ما بين عامي 66 -70 م عندما هاجم القائد الروماني تيتوس فلسطين ودمر أورشليم ثانية وشتتهم وأغرق عدداً كبيراً منهم في بحيرة لوط ففر الناجون إلى الحجاز ووصلوا (يثرب) وأقاموا فيها مع من سبقهم.
الهجرة الثالثة عام 132م عندما أرسل الإمبراطور الروماني هارديان جيشاً إلى فلسطين فأخرجهم منها ومنعهم من دخولها نهائياً وفر من نجا منهم إلى جزيرة العرب.
وكانت (يثرب) عندما جاءها أشتات اليهود الهاربين عامرة بمجتمع يضم قبائل عربية بعضها بقية من العماليق وبعضها قبائل توافدت من أطراف (يثرب) القريبة والبعيدة. وأول من وصل (يثرب) من اليهود ثلاث قبائل هم بنو قريظة وبنو النضير وبنو قينقاع، ثم تبعتهم قبائل أخرى ونزلت بنو النضير عند وادي (بطحان) وبنو قريظة عند وادي (مهزور) وبنو قينقاع في الوسط، ثم انتشروا في أخصب بقاع المنطقة. وقد سالموا العرب المقيمين في يثرب أول الأمر وأحسنوا التعامل معهم وانهمكوا في زراعتهم وبعض الصناعات التي كانوا يتقنونها، ودفعوا لرؤساء القبائل المجاورة إتاوة مقابل عدم مهاجمتهم، وأقاموا تجمعات مغلقة وبنوا الحصون والآطام، وجمعوا ثروات كبيرة وكان أحبارهم يختصون بالأمور الدينية ويحكمون فيما يقع بينهم من خصومات.
وقد اهتموا بزراعة النخل واتسعت زراعتهم وكثرت آطامهم وانتشرت في الأطراف الشرقية والجنوبية من يثرب، ولم يتحمسوا لنشر عقيدتهم بين القبائل العربية الوثنية واكتفوا ببعض الأفراد والأفخاذ التي مالت إليهم ثم تهودت تدريجياً وما لبثوا أن سيطروا على الحركة الاقتصادية وأشاعوا القروض الربوية الفاحشة.
وعندما وصلت قبيلتا الأوس والخزرج المهاجرتين من اليمن كانوا المتنفذين في يثرب فطلبوا منهم أن يسمحوا لهم بالنزول في المناطق المجاورة لمزارعهم وكان اليهود في حاجة إلى الأيدي العاملة لاستثمار مزارعهم وثرواتهم المتزايدة فسمحوا لهم بالنزول في المناطق غير المأهولة من يثرب واستخدموهم في مزارعهم وبدأت مرحلة جديدة من تاريخ يثرب نتعرف عليها في الفقرة التالية فقرة الأوس والخزرج.

الأوس والخزرج

يتفق المؤرخون على أن الأوس والخزرج قبيلتان قحطانيتان، جاءتا من مملكة سبأ في اليمن على إثر خراب سد مأرب، وعندما وصلتا إلى يثرب أعجبتا بما فيها من أرض خصبة وينابيع ثرة، وقد كان سكانها ـ وخاصة اليهود ـ في حاجة إلى الأيدي العاملة لاستثمار الأراضي، فسمحوا لهم بالنزول قريباً منهم بين الحرة الشرقية وقباء، وكانت ظروف عملهم أول الأمرقاسية وبمرور الزمن تحسنت أحوالهم، فبدأ اليهود يخافون من منافستهم، فتداعى عقلاء الطرفين إلى عقد حلف ومعاهدة يلتزمان فيها بالسلام والتعايش والدفاع عن يثرب إزاء الغزاة، فتحالفوا على ذلك والتزموا به مدة من الزمن، ازداد خلالها عدد الأوس والخزرج ونمت ثرواتهم، ففسخ اليهود الحلف وقتلوا عدداً منهم وعملوا على إذلالهم، وبقي الأوس والخزرج على تلك الحال إلى أن ظهر فيهم مالك بن العجلان الذي استنجد بأبناء عمومته الغساسنة في الشام فاستجابوا له وأرسلوا جيشاً كسر شوكة اليهود فعادوا إلى الوفاق وعاشوا فترة أخرى حياة متوازنة، فعندما هاجم تبع بن حسان (يثرب) وأراد تخريبها وقف الجميع في وجهه حتى رجع عن قصده وصالحهم وفي هذه المرحلة من الوفاق تحرك أبناء الأوس والخزرج خارج الحزام الذي كانوا محتبسين فيه وبنوا المنازل والآطام في سائر أنحاء (يثرب) وتوسعوا في المزارع وصار لكل بطن من بطونهم مواقع كثيرة، حينئذ خطط اليهود لاستعادة سلطتهم عليهم بطريقة جديدة ترتكز على التفريق بينهم وضرب بعضهم ببعض فأعادوا التحالف معهم وجعلوا كل قبيلة منهم تحالف واحدة من القبيلتين الأوس والخزرج تمهيداً لإيقاع الفتنة بينهم، فتحالف بنو النضير وبنو قريظة مع الأوسيين، وتحالف بنو قينقاع مع الخزرجيين، وبدأت كل فئة يهودية تسعر النار في حليفتها على الطرف الآخر وتذكي العداوة والشقاق بينهما، ونجحت الخطة الماكرة واشتعلت الحروب الطاحنة واستمرت قرابة مائة وعشرين عاماً ولم تنته حتى جاء الإسلام فأطفأها.