محمد بن سعد (درة) : هو (عليهم السلام) موسى بن عمران، شقيقه الأكبر هارون (عليه السلام)، ويُقال بأن أمه (يوحنذ) أو (أياذخت)، ولد وعاش في مصر أيام (الفراعنة)، هو نبي عند اليهود والمسيحيين والمسلمين، و نسبه: (في العهد القديم) موسى بن عمران بن يصهر قاهث بن عازر بن لاوى بن يعقوب (عليهم السلام) بن إسحاق (عليهم السلام) بن إبراهيم (عليهم السلام) بن تارح (وهو
آزر) بن ناحور بن ساروغ بن راغو بن فالغ بن عابر بن شالح بن أرفخشذ بن سام بن نوح (عليه السلام).
بني إسرائيل: أثناء وزارة يوسف عليه السلام على مصر، تحولت مصر إلى توحيد الله سبحانه، وبعد وفاة يوسف عادت مصر إلى الشرك، واختلط أبناء يعقوب وأبناء إسرائيل بمجتمعات مصر، وتكاثر أبناء إسرائيل وشغلوا العديد من الحرف، وبقي القليل على (التوحيد) من بني إسرائيل.
بعدها حكم مصر ملك جبار عبده المصريون، يعرف بلقب (فرعون) استعبد قومه وطغى عليهم، قسّم رعيته وخذل طائفة منها (هم) بنو إسرائيل، لاحظ الملك أن (بني إسرائيل) تكاثروا ثم بدءوا يمـلكون، فبدأ يظلم كل من يرجع نسبه إلى هذه الطائفة، كانوا بمصر منذ فترة وزارة يوسف عليها.
نبأ مولد موسى عليه السلام: حسب (
العهد القديم) كان فرعون (ملك جبار) ورأى في منامه نارا تخرج من بني إسرائيل تحرقه، وفسرها الكهنة أن رجلا سيولد لليهود (يقضي) على ملك فرعون. الرواية الأخرى: رأى فرعون كأن نارا أقبلت من المقدس، فأحرقت كل مصر إلا بيوت بني إسرائيل، فاستيقظ فزعا، وفسّر الكهنة قرب مولد (نبي) من بني إسرائيل ينهي حكم فرعون، ففزع فرعون وأصدر أمره بقتل جميع المواليد الذكور، وبعد بدايات تنفيذ الإعدام بوقت، خاف أهل مصر من موت الكبار بآجالهم وقتل الصغار، كونه سيؤدي إلى ضعف وفناء مصر. فقالوا: ستضعف مصر لقلة أيديها العاملة، ورأوا: ذبح الذكور عام وتركهم عام. فناسب هذا الحل (فرعون) وجرى تنفيذه.
مولد موسى عليه السلام: ولدت أم موسى أولا بـ(هارون) في عام وقف القتل، وفي عام قتل الغلمان ولدت بـ(موسى) عليه السلام، وتحملت أم موسى خوفاً عظيما على مستقبل موسى، وراحت ترضعه في السر وهي خائفة عليه من القتل، وجاءت ليلة لأم موسى أوحى الله إليها أن تصنع صندوق، وان ترضع موسى ثم تضعه فيه، وأن تلقيه في النهر، خافت أم موسى على ابنها من جنود فرعون، فوضعته بالصندوق في النهر، حمل النهر الصندوق إلى قصر فرعون، فالتقطته زوجة فرعون واتخذته ابن لها،
أم موسى: كان قلبها يعصره الألم وهي ترمي ابنها في النيل، كونها تعلم أن الله عزّ وجل ارحم الراحمين، وهو ربه ورب النيل، وعندما لامس الصندوق مياه النيل أمر الله الموج أن يكون هادئ لهذا الرضيع الذي سيكون نبيا، يُقال: مثل ما أصدر الله تعالى أمره للنار أن تكون بردا وسلاما على إبراهيم، كذلك أصدر أمره للنيل أن يحمل موسى، فحملته الأمواج إلى قصر فرعون، وهناك أسلمه الموج للشاطئ القصر.
في الصباح، خرجت زوجة فرعون (آسيا) تتمشى في حديقة القصر، وكانت زوجة فرعون تختلف كثيرا عن زوجها. فقد كان فرعون كافرا وكانت هي مؤمنة. كان هو قاسيا وكانت هي رحيمة. كان جبارا وكانت رقيقة وطيبة. ولكنها كانت تفتقد الذرية، لم تكن تلد. وكانت تتمنى أن يكون عندها ولد.
وعندما ذهبن الجواري ليملأن الجرار من النهر، وجدن الصندوق، فحملنه كما هو إلى زوجة فرعون. فأمرتهن أن يفتحنه، ففتحنه. فرأت موسى بداخله، فأحست بحبه في قلبها. نعم، لقد ألقى الله في قلبها محبته، فحملته من الصندوق. فاستيقظ موسى وبدأ يـبــكي. كان يتضور جوعاً، كان يحتاج إلى رضعه الصباح فبكى.
فجاءت (آسيا) إلى فرعون، وهي تحمله بين يدها. فسأل من أين جاء هذا الرضيع؟ فأخبروه بأمر الصندوق. فقال بقلب لا يعرف الرحمة: لابد أنه أحد أطفال بني إسرائيل. أليس المفروض أن يقتل أطفال هذه السنة؟ فذكّرت (آسيا) امرأة فرعون زوجها بعدم قدرتهم على الإنجاب، وطلبت منه أن يسمح لها بتربيته. فسمح لها بذلك.
تحريم المراضع: عاد موسى للبكاء من الجوع. فأمرت بإحضار المراضع. فحضرت إحداهن من القصر، وأخذت موسى لترضعه، فرفض أن يرضع منها. فجيء بمرضعة ثانية وثالثة، وموسى يبكي ولا يريد أن يرضع. فاحتارت (آسيا) زوجة فرعون ولم تكن تعرف ماذا تفعل.
لم تكن زوجة فرعون هي وحدها الحزينة الباكية بسبب رفض موسى لجميع المراضع. في الجانب الآخر، لقد كانت أم موسى هي الأخرى حزينة باكية. لم تكد ترمي موسى في النيل حتى أحست أنها ترمي قلبها معه. غاب الصندوق في مياه النيل واختفت أخباره. وجاء الصباح على أم موسى فإذا قلبها فارغ يذوب حزنا على ابنها، وكادت تذهب إلى قصر فرعون لتبلغهم نبأ ابنها وليكن ما يكون. لولا أن الله تعالى ربط على قلبها وملأه بالسلام، فهدأت واستكانت وتركت أمر ابنها لله جل وتعالى. كل ما في الأمر أنها قالت لأخته: اذهبي بهدوء إلى المدينة وحاولي أن تعرفي ماذا حدث لموسى.
وذهبت أخت موسى بهدوء ورفق إلى جوار قصر فرعون، وسمعت بالقصة الكاملة. رأت موسى من بعيد وسمعت بكاءه، ورأتهم حائرين لا يعرفون كيف يرضعونه، سمعت أنه يرفض كل المراضع. وقالت أخت موسى لحرس فرعون: هل أدلكم على أهل بيت يرضعونه ويكفلونه ويهتمون بأمره ويخدمونه؟
ففرحت زوجة فرعون كثيرا لهذا الأمر، وطلبت منها أن تحضر المرضعة. وعادت أخت موسى وأحضرت أمها (أم موسى). وأرضعته أمه فرضع. تهللت زوجة فرعون وقالت: خذيه حتى تنتهي فترة رضاعته وأعيديه إلينا، وسنعطيك أجرا عظيما على تربيتك له. وهكذا رد الله تعالى موسى لأمه كي تقر عينها ويهدأ قلبها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق وأن كلماته سبحانه تنفذ رغم أي شيء.
نشأة موسى في بيت فرعون: أتمت أم موسى رضاعته وسلمته لبيت فرعون. كان موضع حب الجميع. كان لا يراه أحد إلا أحبه. وها هو ذا في أعظم قصور الدنيا يتربى بحفظ الله وعنايته. بدأت تربية موسى في بيت فرعون. وكان هذا البيت يضم أعظم المربين والمدرسين في ذلك الوقت. كانت مصر أيامها أعظم دولة في الأرض. وكان فرعون أقوى ملك في الأرض، ومن الطبيعي أن يضم قصره أعظم المدربين والمثقفين والمربين في الأرض. وهكذا شاءت حكمة الله تعالى أن يتربى موسى أعظم تربية وأن يتعهده أعظم المدرسين، وأن يتم هذا كله في بيت عدوه الذي سيصطدم به فيما بعد تنفيذا لمشيئة الخالق.
خروج موسى من مصر: كبر موسى في بيت فرعون. كان موسى يعلم أنه ليس ابنا لفرعون، إنما هو واحد من بني إسرائيل. وكان يرى كيف يضطهد رجال فرعون وأتباعه بني إسرائيل. وكبر موسى وبلغ أشده. (
وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا)
وراح يتمشى فيها، فوجد رجلا من أتباع فرعون وهو يقتتل مع رجل من بني إسرائيل، واستغاث به الرجل الضعيف فتدخل موسى وأزاح بيده الرجل الظالم فقتله. كان موسى قويا جدا، ولم يكن يقصد قتل الظالم، إنما أراد إزاحته فقط، لكن ضربته هذه قتلته. ففوجئ موسى به وقد مات وقال لنفسه: (
هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ).
ودعا موسى ربه: (
قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي)، وغفر الله تعالى له: (
إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)، أصبح موسى: (
فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ)، كان هذا حال موسى، حال إنسان مطارد، فهو خائف، يتوقع الشر في كل خطوة، وهو مترقب، يلتفت لأوهى الحركات وأخفاها.
ووعد موسى بأن لا يكون ظهيرا للمجرمين. لن يتدخل في المشاجرات بين المجرمين والمشاغبين ليدافع عن أحد من قومه. وفوجئ موسى أثناء سيره بنفس الرجل الذي أنقذه بالأمس وهو يناديه ويستصرخه اليوم. كان الرجل مشتبكا في عراك مع أحد المصريين. وأدرك موسى بأن هذا الإسرائيلي مشاغب. أدرك أنه من هواة المشاجرات. وصرخ موسى في الإسرائيلي يعنفه قائلا:
(
إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ)
قال موسى كلمته واندفع نحوهما يريد البطش بالمصري. واعتقد الإسرائيلي أن موسى سيبطش به هو. دفعه الخوف من موسى إلى استرحامه صارخا، وذكّره بالمصري الذي قتله بالأمس. فتوقف موسى، سكت عنه الغضب وتذكر ما فعله بالأمس، وكيف استغفر وتاب ووعد ألا يكون نصيرا للمجرمين. استدار موسى عائدا ومضى وهو يستغفر ربه.
وأدرك المصري الذي كان يتشاجر مع الإسرائيلي أن موسى هو قاتل المصري الذي عثروا على جثته أمس. ولم يكن أحد من المصريين يعلم من القاتل. فنشر هذا المصري الخبر في أرجاء المدينة. وانكشف سر موسى وظهر أمره. وجاء رجل مصري مؤمن من أقصى المدينة مسرعا. ونصح موسى بالخروج من مصر، لأن المصريين ينوون قلته.
لم يذكر القرآن الكريم اسم الرجل الذي جاء يحذر موسى. ونرجح أنه كان رجلا مصريا من ذوي الأهمية، فقد اطلع على مؤامرة تحاك لموسى من مستويات عليا، ولو كان شخصية عادية لما عرف. يعرف الرجل أن موسى لم يكن يستحق القتل على ذنبه بالأمس. لقد قتل الرجل خطأ. فيجب أن تكون عقوبته السجن على أقصى تقدير.
لكن رؤساء القوم وعليتهم، الذين يـبدوا أنهم كانوا يكرهون موسى لأنه من بني إسرائيل، ولأنه نجى من العام الذي يقتل فيه كل مولود ذكر، وجدوا هذه الفرصة مناسبة للتخلص من موسى، فهو قاتل المصري، لذا فهو يستحق القتل.
خرج موسى من مصر على الفور. خائفا يتلفت ويتسمع ويترقب. دعاء لله في قلبه: (
رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)، وكان القوم ظالمين حقا. ألا يريدون تطبيق عقوبة القتل العمد عليه، وهو لم يفعل شيئا أكثر من أنه مد يده وأزاح رجلا فقتله خطأ؟
خرج موسى من مصر على عجل. لم يذهب إلى قصر فرعون ولم يغير ملابسه ولم يأخذ طعاما للطريق ولم يعد للسفر عدته. لم يكن معه دابة تحمله على ظهرها وتوصله. ولم يكن في قافلة. إنما خرج بمجرد أن جاءه الرجل المؤمن وحذره من فرعون ونصحه أن يخرج. اختار طريقا غير مطروق وسلكه. دخل في الصحراء مباشرة واتجه إلى حيث قدرت له العناية الإلهية أن يتجه. لم يكن موسى يسير قاصدا مكانا معينا. هذه أول مرة يخرج فيها ويعبر الصحراء وحده.
موسى في مدين: ظل يسير بنفسية المطارد حتى وصل إلى مكان. كان هذا المكان هو مدين. جلس يرتاح عند بئر يسقي الناس منها دوابهم. وكان خائفا طوال الوقت أن يرسل فرعون من وراءه من يقبض عليه.
لم يكد موسى يصل إلى مدين حتى ألقى بنفسه تحت شجرة واستراح. نال منه الجوع والتعب، وسقطت نعله بعد أن ذابت من مشقة السير على الرمال والصخور والتراب. لم تكن معه نقود لشراء نعل جديدة. ولم تكن معه نقود لشراء طعام أو شراب. لاحظ موسى جماعة من الرعاة يسقون غنمهم، ووجد امرأتين تكفان غنمهما أن يختلطا بغنم القوم، أحس موسى بما يشبه الإلهام أن الفتاتين في حاجة إلى المساعدة. تقدم منهما وسأل هل يستطيع أن يساعدهما في شيء.
قالت إحداهما بأنهما تنتظر أن ينتهي الرعاة من سقي غنمهم لنسقي. فسأل موسى: ولماذا لا تسقيان؟ فقالت الأخرى: لا نستطيع أن نزاحم الرجال. اندهش موسى لأنهما ترعيان الغنم. المفروض أن يرعى الرجال الأغنام. هذه مهمة شاقة ومتعبة وتحتاج إلى اليقظة. فسأل موسى: لماذا ترعيان الغنم؟ فقالت واحدة منهما: أبونا شيخ كبير لا تساعده صحته على الخروج كل يوم للرعي. فقال موسى: سأسقي لكما.
سار موسى نحو الماء، وسقى لهم الغنم مع بقية الرعاة. وفي رواية أن الرعاة قد وضعوا على فم البئر بعد أن انتهوا منها صخرة ضخمة لا يستطيع أن يحركها غير عدد من الرجال. فرفع موسى الصخرة وحده. وسقى لهما الغنم وأعاد الصخرة إلى مكانها، وتركهما وعاد يجلس تحت ظل الشجرة. وتذكر لحظتها الله وناداه في قلبه:
(رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ).
عادت الفتاتان إلى أبيهما الشيخ. سأل الأب: عدتما اليوم سريعا على غير العادة؟ قالت إحداهما: تقابلنا مع رجل كريم سقى لنا الغنم. فقال الأب لابنته: اذهبي إليه وقولي له: (
إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ) ليعطيك (
أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا). فذهبت واحدة من الفتاتين إلى موسى، ووقفت أمامه وأبلغته رسالة أبيها. فنهض موسى وبصره في الأرض. إنه لم يسق لهما الغنم ليأخذ منهن أجرا، وإنما ساعدهما لوجه الله، غير أنه أحس في داخله أن الله هو الذي يوجه قدميه فنهض. سارت البنت أمامه. هبت الرياح فضربت ثوبها فخفض موسى بصره حياء وقال لها: سأسير أنا أمامك ونبهيني أنت إلى الطريق.
وصلا إلى الشيخ. قال (بعض المفسرين) إن هذا الشيخ هو النبي شعيب. عمّر طويلا بعد موت قومه. وقيل إنه ابن أخي شعيب. وقيل ابن عمه، وقيل رجل مؤمن من قوم شعيب الذين آمنوا به. إلا أنه شيخا صالحا.
قدم له الشيخ الطعام وسأله من أين قدم وإلى أين سيذهب؟ حدثه موسى عن قصته. قال الشيخ: (
لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ). هذه البلاد لا تتبع مصر، ولن يصلوا إليك هنا. اطمأن موسى ونهض لينصرف.
قالت ابنة الشيخ لأبيها همسا: (
يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ)، سألها الأب: كيف عرفت أنه قوي؟ قالت: رفع وحده صخرة لا يرفعها غير عدد رجال. سألها: وكيف عرفت أنه أمين؟ قالت: رفض أن يسير خلفي وسار أمامي حتى لا ينظر إلي وأنا أمشي. وطوال الوقت الذي كنت أكلمه فيه كان يضع عينيه في الأرض حياء وأدبا.
وعاد الشيخ لموسى وقال له: أريد يا موسى أن أزوجك إحدى ابنتي على أن تعمل في رعي الغنم عندي ثماني سنوات، فإن أتممت عشر سنوات، فمن كرمك، لا أريد أن أتعبك،
(
سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ)، قال موسى: هذا اتفاق بيني وبينك. والله شاهد على اتفاقنا. سواء قضيت السنوات الثمانية، أو العشر سنوات فأنا حر بعدها في الذهاب.
يخوض الكثيرون في تيه من الأقاصيص والروايات، حول أي ابنتي الشيخ تزوج، وأي المدتين قضى. والثابت أن موسى تزوج إحدى ابنتي الشيخ. لا نعرف أيهما، ولا اسمها. وهذه الأمور سكت عنها السياق القرآني. إلا أنه استنادا إلى طبيعة موسى وكرمه ونبوته وكونه من أولي العزم. نرى أنه قضى الأجل الأكبر. وهذا ما يؤكده حديث ابن عباس رضي الله عنهما. وهكذا عاش موسى يخدم الشيخ عشر سنوات كاملة. هذا ويُقال بأن موسى تزوج من ابنة (شعيب) عليه السلام، وقِيل اسمها (صفورا).
موسى ورعي الغنم: وكان عمل موسى ينحصر في الخروج مع الفجر كل يوم لرعي الأغنام والسقاية لها. والقدرة الإلهية نقلت خطى موسى، منذ أن كان ساعة مولده، ومنذ التقاط آل فرعون له. وتعلق زوجة فرعون به، ونشأته في كنف عدوّه. وقتله نفسا، وتحذير الرجل المؤمن له من آل فرعون، وخروجه من مصر. ووحدته في الطريق الصحراوي من مصر إلى مدين وحيد مطارد من غير زاد ولا استعداد. إلى اجتماعه بالشيخ الكبير ليأجره سنوات عشر. وإلى وقت التكليف بالأمانة.
خط طويل من الرعاية والتوجيه، قبل النداء والتكليف: تجربة رعاية وحب ودلال، تجربة اندفاع مع غيظ حبيس، تجربة ندم واستغفار، تجربة خوف ومطاردة، تجربة غربة ووحدة وجوع، تجربة خدمة الغنم ورعيها بعد حياة القصور. وما يتخلل هذه التجارب الضخمة من تجارب صغيرة، ومشاعر وخواطر، وإدراك ومعرفة. إلى جانب ما آتاه الله حين بلغ أشده من العلم والحكمة.
الرسالة تكليف عظيم وشاق، يحتاج صاحبه إلى زاد ضخم من التجارب والإدراك والمعرفة، إلى جانب وحي الله وتوجيهه. ورسالة موسى تكليف عظيم، فهو مرسل إلى فرعون الطاغية المتجبر، أقوى ملوك الأرض في زمانه، وأشدهم استعلاء في الأرض. وهو مرسل لإنقاذ قوم تجرعوا مرارة كؤوس الذل. وإنقاذ مثل هؤلاء قوم عمل شاق.
جاءت تجربة العشر سنوات لتفصل بين (حياة القصور) التي نشأ فيها موسى و(حياة الجهد الشاق) في الدعوة وتكاليفها العسيرة. وبعكس رفاهية القصور، فالرسالة معاناة لجماهير من الناس: غني وفقير، مهذب وخشن، قوي وضعيف. وللرسالة تكاليفها من مشقة التجرد والتدرب، قلب يروضه واقع الخشونة والحرمان والمشقة.
فلما استكملت نفس موسى تجاربها، وأكملت مرانها، بهذه التجربة الأخيرة في دار الغرة. قادت القدرة الإلهية خطاه مرة أخرى عائدة به إلى مهبط رأسه، ومقر أهله وقومه، ومجال عمله. وهكذا نرى كيف صُنِعَ موسى على عين الله، وكيف تم إعداده لتلقي التكليف.
عودة موسى لمصر: ترى، أي خاطر راود موسى؟ عودته إلى مصر، بعد انقضاء الأجل، بعد أن خرج منها خائفا يترقب، وأنساه الخطر الذي ينتظره، وقد قتل فيها نفسا، وهناك تآمر فرعون مع الملأ من قومه ليقتلوه.
إنها قدرة الله التي تنقل خطاه كلها. لعلها قادته هذه المرة بالميل الفطري إلى الأهل والعشيرة والوطن. وأنسته الخطر الذي خرج هاربا منه وحيدا طريدا. ليؤدي المهمة التي خلق لها.
خرج موسى مع أهله وسار، اختفى القمر وراء أسراب من السحاب الكثيف، وساد الظلام، واشتد البرق والرعد، وأمطرت السماء وزادت قوة البرد والظلام، وتاه موسى أثناء سيره، ووقف موسى حائرا يرتعش من البرد وسط أهله، ثم رفع رأسه فشاهد نارا عظيمة تشتعل عن بعد، فامتلأ قلبه بالفرح فجأة. قال لأهله: أني رأيت نارا هناك. أمرهم أن يجلسوا مكانهم حتى يذهب إلى النار لعله يأتيهم منها بخبر، أو يجد أحدا يدلّه ويهديه إلى الطريق، أو يأتي بشعلة من النار لتدفئتهم.
وتحرك موسى نحو النار. سار موسى مسرعا ليدفئ نفسه. يده اليمنى تمسك عصاه. جسده مبلل من المطر. ظل يسير حتى وصل إلى واد يسمونه (طوى). لاحظ شيئا غريبا في هذا الوادي. لم يكن هناك برد ولا رياح. ثمة صمت عظيم ساكن. واقترب موسى من النار. لم يكد يقترب منها حتى نودي:
أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ).
نظر موسى في النار فوجد شجرة خضراء. كلما زاد تأجج النار زادت خضرة الشجرة. والمفروض أن تتفحم الشجرة وهي تحترق. لكن النار تزيد واللون الأخضر يزيد. كانت الشجرة في جبل غربي عن يمينه، وكان الوادي الذي يقف فيه هو وادي (طوى). بعدها، ارتجت الأرض خشوعاً ورهبة، والله عز وجل ينادي: (يَا مُوسَى)، فأجاب موسى: نعم، قال الله عز وجل: (
إِنِّي أَنَا رَبُّكَ)،، ازداد ارتعاش موسى وقال: نعم يا رب، قال الله عز وجل: (
فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى)،، انحنى موسى راكعا وجسده كله ينتفض وخلع نعليه، فقال الله تعالى:
وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13)
إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)
إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15)
فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16) طه
زاد انتفاض موسى وهو يتلقى الوحي الإلهي ويستمع إلى ربه وهو يخاطبه، قال الله تعالى: (
وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى)، تزايدت دهشة موسى إن الله تعالى هو الذي يخاطبه، يسأله الله عما بيده وهو يعرف بأنها (عصاه)، قال موسى: (
قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى). قال الله تعالى: (
أَلْقِهَا يَا مُوسَى)، رمى موسى العصا ودهشته متزايدة، وفوجئ بأن العصا تتحول إلى (حية) كبيرة، حية سريعة الحركة أقيضت ذعر موسى، فاستدار موسى فزعاً هارباً، فناداه الله بقوله: (
يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ)، عاد موسى لمكانه والعصا (حية) تتحرك، فقال الله تعالى: (
خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى)، مد يده إلى (الحية) وهي ترتعش، ولم يكد يلمسها حتى تحولت في يده إلى (عصا)، وعاد الأمر الإلهي يصدر له: (
اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ)، وضع موسى يده في جيبه، وأخرجها، فإذا هي تتلألأ كضوء القمر، زاد خوف موسى فوضع يده على قلبه كما أمره الله فتلاشى الخوف، فاطمأن موسى بعد هاتين المعجزتين: (العصا) و(اليد).
أمره اللهُ أن يذهب إلى فرعون لدعوته إلى توحيد الله، وأن يخرج بني إسرائيل من مصر فتخوّف موسى، كونه قد قتل منهم نفسا، هذا إلى جانب خوفه من فرعون، فتوسل إلى الله وأبتهل بأن يرسل معه أخاه هارون، فطمأن الله موسى أنه سيكون (جلّ وتعالى) معهما يسمع ويرى وبأنه هو الغالب، وأن فرعون رغم قسوته وتجبره لن يمسهما بسوء، دعا موسى وابتهل إلى الله بأن: يشرح له صدره وييسر أمره ويعينه في القول، ثم رجع موسى لأهله بعد أن اصطفاء الله واختاره رسولا إلى فرعون.
عوة موسى عليه السلام لمصر: بدأت رحلة موسى بأهله إلى مصر، أفكار عبرت ذهن موسى أثناء مشيه لا يعلمها إلا الله، وبداية الانتقال من فترة التأمل إلى أداء الرسالة، وانطوت أيام الرحلة وجاء وقت أداء الأمانة، تقارب وقت مواجهة بطش أعظم الجبابرة (فرعون)، اقترب وقت لقاء طاغية مصر، واليقين بأنه لن يسلمه بني إسرائيل بغير صراع، كان يعلم أنه سيقف من دعوته موقف الإنكار والكبرياء.
لقد أمره الله تعالى أن يذهب إلى فرعون، أن يدعوه برفق إلى وحدانية الله، ودعوته إلى عبادة الله وحده لا شريك له، أوحى الله لموسى أن فرعون لن يؤمن، ولن يدع موسى وشأنه، وليركز على إطلاق سراح بني إسرائيل، وكف تعذيب فرعون لهم، قال تعالى لموسى وهارون:
(
فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ)
مهمة محددة سوف تصطدم بعقبات مختلفة، تعذيب فرعون لبني إسرائيل واستعبادهم، يستعبدهم ويستبيح نسائهم ويذبح أبنائهم، ويكلفهم بأعمال ما لا حاجة لهم فيها، ويصرّفهم كما لو كانوا ملكه موروث له. فهذا نظام مصر الإقطاعي، بنيان أساسه استعباد بني إسرائيل، واستغلال عملهم وجهدهم وطاقاتهم لفرعون، فهل سيفرط فرعون في هذا البناء ببساطة ويسر، هكذا كانت أفكار موسى تختصر مشقة الطريق، ورفع الستار عن مشهد المواجهة.
وفاته وقبره: توفي موسى عليه السلام على جبل (نيبو) قرب (مأدبا) بالأردن - حسب (العهد القديم) نظر إلى الأرض المقدسة للمرة الأخيرة - من جبل (نيبو) أفضل الأماكن المرتفعة للمراقبة ومات، يوجد بقمة الجبل كنيسة قديمة يُعتقد أن النبي موسى دفن فيها
لقاء فرعون: كانت أفكار موسى تختصر مشقة الطريق، رفع الستار عن مشهد المواجهة، كل ما يريده موسى أن يرسل معه بني إسرائيل، دعوة أن يسلم لرب العالمين، طلب من فرعون طلب كبير، كان آخر عهد
فرعون بموسى منذ أكثر من عشر سنين، منذ ترعرع في قصر آل فرعون، ومنذ قتله للقبطي نجدة للإسرائيلي، وهروب موسى من مصر، يأتي موسى إلى فرعون ويواجهه بأن يسلم لرب العالمين، عجب فرعون من موسى بهذه المواجهة، واجه موسى فرعون (باللين) كما علمه الله، وحدثه عن عبادة الله ورحمته وجنته وقدرته، حديث إنساني عن تقوى الله، حديث إصلاح أحوال أهل مصر، حديث دعوة عظيمة
بالطبع،، لم يطيق فرعون هذا الحديث، فبدأ فرعون بتساؤلات -- يذكّر فيها موسى بماضيه. يذكّره بكرم تربيته له، يذكره بالحب والحنان الذي ناله وهو وليد -- تساؤلات تخص مخالفة موسى وخروجه عن دين فرعون والدعوة إلى إله غيره. بدأ (فرعون) يهول (موسى) بقتل القبطي، وليس بصريح العبارة وإنما: (
وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ) الشعراء 19.
بشاعة وشناعة لم تفكر وقتها يا موسى برب العالمين !! لم تتحدث وقتها عن هذه الدعوى العظيم التي تدّعيها اليوم !! ظن فرعون أن هذه هي (حجة) على موسى، حجة لن يقاومها !! إلا أن الله الهم موسى، وأطلق لسانه: (
قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) الشعراء 20، فعلتها بدافع العصبية لقومي وكنت جاهل، (
فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ)، ويكمل موسى خطابه لفرعون بنفس القوة: (
وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ)
يقول: نشأتي في قصرك جزء من استعبادك لبني إسرائيل، ويقول: قتلك لأبنائهم، دفع أمي لوضعي في اليم، فتلتقطه فأتربى في بيتك، لا في بيت أبويّ. فهل هذا هو ما تمنه علي، وهل هذا هو فضلك العظيم؟!
عند هذا الحد تدخل الفرعون في الحديث..
قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ، قال موسى:
رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إن كُنتُم مُّوقِنِينَ، التفت فرعون لمن حوله وقال هازئا:
أَلَا تَسْتَمِعُونَ، قال موسى متجاوزا سخرية الفرعون:
رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ، قال فرعون مخاطبا من جاءوا مع موسى من بني إسرائيل:
إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ، عاد موسى يتجاوز اتهام الفرعون وسخريته ويكمل:
رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ.
نلاحظ أن فرعون لم يكن يسأل موسى عن رب العالمين أو رب موسى وهارون بقصد السؤال البريء والمعرفة. إنما كان يهزأ. ولقد أجابه موسى إجابة جامعة مانعة محكمة (
قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى). هو الخالق. خالق الأجناس جميعا والذوات جميعا. وهو هاديها بما ركب في فطرتها وجبلتها من خواص تهديها لأسباب عيشها. وهو الموجه لها على أي حال. وهو القابض على ناصيتها في كل حال. وهو العليم بها والشاهد عليها في جميع الأحوال. لم تؤثر هذه العبارة الرائعة والموجزة في فرعون. حيث يسأل: (
فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى) لم تعبد ربك هذا؟
لم يزل فرعون ماضيا في استكباره واستهزائه. ويرد موسى ردا يستلفته إلى أن القرون الأولى التي لم تعبد الله، والتي عبدته معا، لن تترك بغير مساءلة وجزاء. كل شيء معلوم عند الله تعالى. هذه القرون الأولى (
عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ). أحصى الله ما عملوه في كتاب. (
لَّا يَضِلُّ رَبِّي). أي لا يغيب عنه شيء. (
وَلَا يَنسَى). أي لا يغيب عن شيء. ليطمئن الفرعون بالا من ناحية القرون الأولى والأخيرة وما بينهما. إن الله يعرف كل شيء ويسجل عليها ما عملته ولا يضيع شيئا من أجورهم.
لفت موسى نظر فرعون إلى آيات الله في الكون. ودار به مع حركة الرياح والمطر والنبات وأوصله مرة ثانية إلى الأرض، وهناك افهمه أن الله خلق الإنسان من الأرض، وسيعيده إليها بالموت، ويخرجه منها بالبعث، وسيقف كل إنسان يوم القيامة أمام الله تعالى. لا استثناء لأحد. سيقف كل عباد الله وخلقه أمامه يوم القيامة. بما في ذلك
الفرعون. بهذا جاء موسى مبشرا ومنذرا.
لم يعجب فرعون هذا النذير، وتصاعد الحوار بينهما. فالطغيان لا يخشى إلا يقظة الشعوب، وصحوة القلوب؛ ولا يكره إلا الداعين إلى الوعي واليقظة؛ ولا ينقم على أحد إلا على من يهزون الضمائر الغافية. ولذلك،، هاج فرعون على موسى، وأنهى الحوار بالتهديد. وهذا هو سلاح الطغاة عندما يفتقرون لمنطق الحجج والبراهين: (
قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ).
لم يفقد موسى رباطة جأشه. لن يفقدها وهو رسول الله، والله معه ومع أخيه، وبدأ الإقناع بأسلوب جديد، وهو إظهار المعجزة (
قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُّبِينٍ) فهو يتحدى فرعون، ويحرجه أمام ملأه، فلو رفض فرعون الإصغاء، سيظهر واضحا أنه خائف من حجة موسى (
قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ).
ألقى موسى عصاه في ردهة القصر العظيمة. لم تكد العصا تلمس الأرض حتى تحولت إلى ثعبان هائل يتحرك بسرعة. ثم أدخل يده في جيبه وأخرجها فإذا هي بيضاء كالقمر.
التحدي:
تحدي السحرة: بداية الجولة الثانية،، شاور فرعون الملأ فيما يجب فعله. فهم مقربون من فرعون، ولهم نفوذ وسلطان. فأشاروا أن يرد على سحر موسى بسحر مثله، فيجمع السحرة لتحدي موسى وأخاه. تحديد الميقات، يوم الزينة. بدأت حركة إعداد الجماهير فدعوهم إلى عدم التخلف عن الموعد، ليراقبوا فوز السحرة على موسى ،، الإسرائيلي
السحرة، ذهبوا لفرعون ليطمئنوا على المكافأة إن غلبوا موسى. جماعة مأجورة، تبذل مهارتها مقابل أجر تنتظره؛ لا علاقة لها بعقيدة ولا بقضية، وهم هم ألاء يستوثقون من الجزاء على براعتهم. وفرعون يعدهم أن يكونوا من المقربين إليه. بزعمه الملك والإله!
ساحة المواجهة. اجتمع الناس، وبحضرة فرعون. حضر موسى وأخاه هارون عليهما السلام، وحضر السحرة وفي أيديهم كل ما أتقنوه من ألعاب وحيل، كلهم ثقة بفوزهم في هذا التحدي. لذا بدءوا بتخيير موسى: (
إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى) تتجلى ثقة موسى في الجانب الآخر واستهانته بالتحدي (
بَلْ أَلْقُوا) فرمى السحرة عصيهم وحبالهم بعزة فرعون (
فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ).
رمى السحرة بعصيهم وحبالهم فإذا المكان يمتلئ بالثعابين (
سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ). وحسبنا أن يقرر القرآن الكريم أنه سحر عظيم (
وَجَاءوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ)، لندرك أي سحر كان. يكفينا أن نعلم أنهم (
سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ) وأثاروا الرهبة في قلوبهم (
وَاسْتَرْهَبُوهُمْ) لنتصور أي سحر كان. فنظر موسى عليه السلام إلى حبال السحرة وعصيهم وشعر بالخوف.
هي لحظة، يذكّره ربّه بأن معه القوة الكبرى. ومعه الحق، أما هم فمعهم الباطل. معه العقيدة ومعهم الحرفة. معه الإيمان بصدق دفعه لما هو فيه، ومعهم أجر مباراة ومغانم حياة. موسى مع رب العباد، والسحرة مع طاغية جبار. لا تخف (
وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ) ستهزمهم، سحر من تدبير ساحر لا يفلح، ساحر لا يعتمد على حقيقة ثابتة باقية.
اطمأن موسى ورفع عصاه وألقاها، لم تكد عصا موسى تلامس الأرض حتى وقعت المعجزة الكبرى، وضخامة المعجزة حولت مشاعر ووجدان السحرة وهم أحرص الناس على الفوز لنيل الأجر. الذي بلغت براعتهم لحد أن يشعر موسى بالخوف من عملهم. تحولت مشاعرهم بحيث لم يسعفهم الكلام للتعبير: (
فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى).
فعل الحق في الضمائر. ونور الحق في المشاعر، ولمسة الحق في القلوب المهيأة لتلقي الحق والنور واليقين. السحرة أعلم الناس بحقيقة فنهم، ومدى ما يمكن أن يبلغ إليه. وهم أعرف الناس بالذي جاء به موسى. هم أعلم أنه من القدرة التي تفوق قدرة السحر. استعداد للتسليم بالحقيقة. ومن هنا تحول السحرة
من التحدي السافر إلى التسليم المطلق، الذي يجددون برهانه في أنفسهم عن يقين.
هذه مفاجأة هزت عرش فرعون. مفاجأة استسلام السحرة -
وهم من كهنة المعابد - لرب العالمين. رب موسى وهارون. بعد أن تم جمعهم لإبطال دعوة موسى وهارون ! العرش والسلطان أهم شيء في حيات الطواغيت، مستعدون لارتكاب أي جريمة في سبيل الحافظ عليه.
تسائل فرعون مستغربا (
آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ) كأنما كان عليهم أن يستأذنوه. يزيد في طغيانه فيقول (
إِنَّ هَـذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُواْ مِنْهَا أَهْلَهَا) إن غلبته لكم في يومكم هذا إنما كان عن تشاور منكم ورضا منكم. ويظل الطاغية يتهدد (
فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) ويتوعد (
لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلاَفٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ) لكن النفس البشرية حين تستيقن حقيقة الإيمان، تستعلي على قوة الأرض، وتستهين ببأس الطغاة، تنتصر فيها العقيدة, وتختار الخلود الدائم على الحياة الفانية. (
قَالُواْ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ) إنه الإيمان الذي لا يتزعزع ولا يخضع.
ويعلن السحرة حقيقة المعركة (
وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءتْنَا) لا يطلبون الصفح والعفو، إنما الثبات والصبر من ربهم (
رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِين). فيقف الطغيان عاجزا أما هذا الوعي وهذا الاطمئنان. عاجزا عن رد هؤلاء المؤمنين لطريق الباطل من جديد. فينفذ تهديده، ويصلبهم على جذوع النخل.
التآمر على موسى ومن آمن معه: جولة جديدة بين الحق والباطل. هاهم علية القوم من المصريين، يحرضون فرعون على موسى ومن آمن معه، ويخوّفونه من عاقبة التهاون معهم. وهم يرون الدعوة إلى ربوبية الله وحدة فسادا في الأرض. يترتب عليها بطلان حكم فرعون. التي كان يستمدها من ديانتهم الباطلة، كان فرعون ابن الآلهة. وعبادة الله رب العالمين تلغي سطوة فرعون. أشعرته بخطر حقيقي على نظامه كله ففكر بوحشيته المعتادة وقرر (
قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِـي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ).
تنكيل وحشي لم يكن جديدا على بني إسرائيل. فقد نُفِّذ عليهم هذا الحكم في إبان مولد موسى. فبدأ موسى يوصي قومه باحتمال الفتنة، والصبر على البلية، والاستعانة بالله عليها. (
قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ).
قوم موسى،، بدءوا يشتكون من العذاب الذي حل بهم (
قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا) كلمات ذات وقع!! أوذينا وطال الأذى حتى ما تبدو له نهاية! بقي موسى يذكرهم بالله، ويعلق رجاءهم به، ويلوح لهم بالأمل في هلاك عدوهم. واستخلافهم في الأرض. مع التحذير من فتنة الاستخلاف، فاستخلاف الله لهم إنما هو ابتلاء: (
قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ).
القرآن الكريم ينقلنا إلى فصل آخر من قصة موسى عليه السلام. ومشهد آخر من مشاهد المواجهة بين الحق والباطل. حيث يحكي لما قصة تشاور فرعون مع الملأ في قتل موسى. (
وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ) أما موسى فالتجأ إلى ركن ركين، وحصن حصين، ولاذ بحامي اللائذين ومجير المستجيرين (
وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُم مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَّا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ).
موقف الرجل المؤمن من آل فرعون: كادت فكرة فرعون أن تحصل على التصديق لولا رجل من آل فرعون. رجل من رجال الدولة الكبار، لا يذكر القرآن اسمه، إنما ذكر القرآن أنه رجل مؤمن. ذكره بالصفة التي لا قيمة لأي صفة بعدها. تحدث هذا الرجل المؤمن، وكان (
يَكْتُمُ إِيمَانَهُ)، تحدث في الاجتماع الذي طرحت فيه فكرة قتل موسى وأثبت عقم الفكرة وسطحيتها. قال إن موسى لم يقل أكثر من أن الله ربه، وجاء بعد ذلك بالأدلة الواضحة على كونه رسولا، وهناك احتمالان لا ثالث لهما: أن يكون موسى كاذبا، أو يكون صادقا، فإذا كان كاذبا (
فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ)، وهو لم يقل ولم يفعل ما يستوجب قتله. وإذا كان صادقا وقتلناه، فما هو الضمان من نجاتنا من العذاب الذي يعدنا به؟
قال المؤمن لقومه: إننا اليوم في مراكز الحكم والقوة. من ينصرنا من بأس الله إذا جاء؟ ومن ينقذنا من عقوبته إذا حلت؟ إن إسرافنا وكذبنا قد يضيعاننا. بدت كلماته مقنعة. إنه رجل ليس متهما في ولائه لفرعون. وهو ليس من أتباع موسى. والمفروض أنه يتكلم بدافع الحرص على عرش الفرعون. ولا شيء يسقط العروش كالكذب والإسراف وقتل الأبرياء.
من هذا المنطلق ،، استمدت كلمات المؤمن قوتها. بالنسبة إلى فرعون ووزرائه ورجاله. ورغم أن فرعون وجد فكرته في قتل موسى، صريعة على المائدة. رغم تخويف الرجل المؤمن لفرعون. رغم ذلك قال الفرعون كلمته التاريخية التي ذهبت مثلا بعده لكل الطغاة: (
قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ). هذه كلمة الطغاة دائما حين يواجهون شعوبهم (
مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى). هذا رأينا الخاص، وهو رأي يهديكم سبيل الرشاد. وكل رأي غيره خاطئ. وينبغي الوقوف ضده واستئصاله.
لم يقف الناقش عند هذا الحد. ولكنه لم يقنع بها الرجل المؤمن. وعاد الرجل المؤمن يتحدث وأحضر لهم أدلة تاريخية، أدلة كافية على صدق موسى. وحذّرهم من المساس به.
ذكّرهم بتاريخ مصر. وبيوسف عليه السلام حين جاء بالبينات، فشك فيه الناس ثم آمنوا به بعد أن كادت النجاة تفلت منهم، ينبغي أن يكون التاريخ القديم موضع نظر. وانتصرت القلة على الكثرة. وقصص الطوفان والصرخة والخسف.
حديث ينطوي على عدد تحذيرات مخيفة أقنع الحاضرين بأن فكرة قتل موسى فكرة غير مأمونة العواقب. فكرة لا داعي لها. حاول الطاغية فرعون مرة أخرى المحاورة والتمويه، كي لا يجاهر بعدم الإعتراف بوحدانية قد تهز عرشه. فطلب أن يبنى له بناء عظيم، يصعد عليه ليرى إله موسى الذي يدعيه. وبعيدا أن يكون جادا في البحث عن إله موسى على هذا النحو المادي الساذج. وقد بلغ فراعنة مصر من الثقافة حدا يبعد معه هذا التصور. وإنما هو الاستهتار والسخرية من جهة. والتظاهر بالإنصاف والتثبت من جهة أخرى.
بعد هذا الاستهتار، وهذا الإصرار، ألقى الرجل المؤمن كلمته الأخيرة مدوية صريحة:
وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38)
يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39)
مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40)
وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41)
تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42)
لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ
مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) (غافر)
أنهى الرجل المؤمن حديثه بهذه الكلمات الشجاعة. بعدها انصرف. انصرف،، فتحول الجالسون من موسى إليه. بدءوا يمكرون للرجل المؤمن. بدءوا يتحدثون عما صدر منه. فتدخلت عناية الله تعالى
(
فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ) وأنجته من فرعون وجنوده.
ابتلاء الله أهل مصر:حال مصر تلك الفترة. لقد مضى فرعون في تهديده - قتل الرجال واستحيا النساء - ظل موسى وقومه يحتملون العذاب يرجون فرج الله، ويصبرون على الابتلاء.
وظل فرعون في ظلاله وتحدّيه. فتدخلت قوة الله سبحانه وتعالى أن يشدد على آل فرعون. ابتلاء لهم وتخويفا، لكي يصرفهم عن الكيد لموسى ومن آمن معه، وإثباتا لنبوة موسى وصدقه.
سلط على المصريين أعوام الجدب. أجدبت الأرض وشح النيل ونقصت الثمار وجاع الناس، واشتد القحط. لكن آل
فرعون لم يدركوا العلاقة بين كفرهم وفسقهم وبين بغيهم وظلمهم لعباد الله. فأخذوا يعللون الأسباب. فعندما تصيبهم حسنة، يقولون إنها من حسن حظهم وأنهم يستحقونها. وإن أصابتهم سيئة قالوا هي من شؤم موسى ومن معه عليهم، وأنها من تحت رأسهم!
وأخذتهم العزة بالإثم فاعتقدوا أن سحر موسى هو المسئول عما أصابهم من قحط. وصور لهم حمقهم أن هذا الجدب الذي أصاب أرضهم، آية جاء بها موسى ليسحرهم بها، وهي آية لن يؤمنوا بها مهما حدث. فشدد الله عليهم لعلهم يرجعون إلى الله، ويطلقون بني إسرائيل ويرسلونهم معه.
فأرسل عليهم الطوفان، والجراد، والقمل -
سوس -
والضفادع، والدم. لا يذكر القرآن إن كانت جملة أم واحدة تلو الأخرى. رغم ذكر روايات أنها جاءت متتالية وحدة تلو الأخرى.
المهم هو طلب آل
فرعون من موسى
أن يدعو لهم ربه لينقذهم من هذا البلاء.
وبعدونه في كل مرة أن يرسلوا بني إسرائيل إذا أنجاهم ورفع عنهم هذا البلاء (
قَالُواْ يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ).
فكان موسى يدعو الله بأن يكشف عنهم العذاب. وما أن ينكشف البلاء حتى ينقضون عهدهم، ويعودون إلى ما كانوا فيه (
فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ). لم يهتد المصريون، ولم يوفوا بعهودهم، على العكس. خرج فرعون لقومه، وأعلن أنه إله. له ملك مصر، وهذه الأنهار تجري من تحته، أعلن أن موسى ساحر كذاب. ورجل فقير لا يرتدي أسورة من ذهب.
ويعبّر القرآن الكريم عن أمر فرعون وقومه: (
فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ). استخف بعقولهم. وبحريتهم. وبمستقبلهم. وبآدميتهم. فأطاعوه. طاعة عمياء. تنمحي الغرابة حين نعلم أنهم كانوا قوما فاسقين. إن الفسق يصرف الإنسان عن الالتفات لمستقبله ومصالحه وأموره، وذلك ما وقع لقوم فرعون.
خروج بني إسرائيل من مصر: بدا واضحا أن فرعون لن يؤمن لموسى. بل ولن يكف عن تعذيبه لبني إسرائيل، هنالك دعا موسى وهارون على فرعون.
وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ (88)
قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ (89) (يونس)
لم يكن قد آمن مع موسى فريق من قومه. فانتهى الأمر، وأوحي إلى موسى أن يخرج من مصر مع بني إسرائيل. وأن يكون رحيلهم ليلا، ونبأه أن فرعون سيتبعهم بجنده؛ وأمره أن يقوم قومه إلى ساحل البحر
وهو في الغالب عند التقاء خليج السويس بمطقة البحيرات.
وبلغت الأخبار فرعون أن موسى قد صحب قومه وخرج. فأرسل أوامره في المدن لحشد جيش عظيم. ليدرك موسى وقومه، ويفسد عليهم تدبيرهم. هذا من شأنه تشكيل صورة خطورة موسى وقومه على فرعون وملكه، لذلك كان لا بد من تهوين الأمر بتقليل شأن قوم موسى وحجمهم (
إِنَّ هَؤُلَاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ) نطاردهم ونهيم على زمام الأمور.
وقف موسى أمام البحر، بدا جيش الفرعون يقترب، ظهرت أعلامه، امتلأ قوم موسى بالرعب، كان الموقف ليس حرجا فقط ،، بل وخطير، إما البحر أو العدو، البحر أمامهم والعدو ورائهم، ليس معهم سفن أو أدواتعبور، بل ،، وليست أمامهم فرصة واحدة للقتال !! مجموعة من نساء وأطفال ورجال غير مسلحين سيذبحهم فرعون عن آخرهم.
وتعالت أصوات من قوم موسى، بل تعالت صرخاتت من قوم موسى:
سيدركنا فرعون، سيدركنا فرعون،، سيدركنا فرعون،،، قال موسى: (
كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ). لم يكن يدري موسى كيف ستكون النجاة، كان قلبه ممتلئا بالثقة بربه، واليقين بعونه، والتأكد من النجاة، الله هو الذي يوجهه ويرعاه في اللحظة الأخيرة، يجيء الوحي من الله : (
فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ) فضربه، فوقعت المعجزة (
فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) وتحققه المستحيل في منطق الناس.
ووصل فرعون إلى البحر، شاهد هذه المعجزة، شاهد في البحر طريقا يابسا يشقه نصفين، أمر جيشه بالتقدم. وحين انتهى موسى من عبور البحر، أوحى الله إلى موسى أن يترك البحر على حاله (
وَاتْرُكْ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ)، وكان الله تعالى قد شاء إغراق الفرعون. فما أن صار فرعون وجنوده في منتصف البحر، حتى أصدر الله أمره، فانطبقت الأمواج على فرعون وجيشه. وغرق فرعون وجيشه. غرق العناد ونجا الإيمان بالله.
ولما عاين فرعون الغرق، ولم يعد يملك النجاة (
قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) سقطت عنه كل الأقنعة الزائفة، وتضائل، فلم يكتفي بأن يعلن إيمانه، بل والاستسلام أيضا (
وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) لكن بلا فائدة، فليس الآن وقت اختيار، بعد أن سبق العصيان والاستكبار (
آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ).
انتهى وقت التوبة المحدد لك وهلكت، انتهى الأمر ولا نجاة لك، سينجو جسدك وحده، لن تأكله الأسماك، ولين يحمله التيار بعيدا عن الناس، بل سينجو جسدك لتكون آية لمن خلفك،،
فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92) (يونس)
نهاية سلسلة طغيان فرعون، لفظت الأمواج جثته إلى الشاطئ وأسدل الستار تماما عن المصريين، فخرجوا يتبعون خطا موسى وقومه ويقفون أثرهم، كان خروجهم هذا هو الأخير، كان إخراجا لهم من كل ما هم فيه من جنات وعيون وكنوز، فلم يعودوا بعدها لهذا النعيم
القرآن الكريم لا يحدثنا عما فعله من بقى من المصررين في مصر بعد سقوط نظام الفرعون وغرقه مع جيشه، ولا يحدثنا عن ردود فعلهم بعد أن دمر الله ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يشيدون. يسكت السياق القرآني عنهم ويستبعدهم تماما من التاريخ والأحداث
مواقع النشر