[align=justify]المقياس الإنساني


1. شبه ابن قتيبة الدار بالقميص، فحيث يخاط القميص حسب مقاس صاحبه، كذلك يبنى البيت حسب مقياس ساكنه، وبهذا يُعَدُّ ابن قتيبة أول من تحدث عن المقياس الإنسانيScale Human في العمارة الإسلامية (1).

2. لقد توضح هذا المقياس بالمقارنة مع المقياس الرياضي الذي قامت عليه العمارة الغربية منذ عهد الإغريق والرومان وحتى الفن المعماري الحديث، والمقياس الرياضي يقوم على الخضوع الكامل للنظام Order الذي تكوَّن بفعل العلاقات الهندسية الرياضية وبواسطة الأدوات كالمسطرة والفرجار، بينما قامت العمارة الإسلامية على الارتباط العضوي بحاجات الإنسان وظروفه المناخية والاجتماعية، وبعقائده ومثُله، وكانت أداة المعمار ذراعه وكفه وإصبعه وخيطه الذي قاس به المسافات وأقطار الدوائر عند إنشاء الأقواس والقباب والقبوات، وبه صنع الشاقول لكي يحدد استقامة البناء. وكان حدسه، وليس عقله فقط، دليله في تصميم البناء وفي تزيينه وزخرفته، وفي بنائه وتدعيمه.

ولقد ارتبط المعمار ارتباطاً وثيقاً بمصلحة الساكن وحاجاته العائلية والاجتماعية وبطبيعته النفسية، وبقدرته على التفاعل مع البيئة، ولقد أوضح القرآن الكريم مركزية الإنسان في الحياة عامة، وفي بيئته: {وسخَّر لكمُ اللَّيلَ والنَّهار والشمسَ والقمرَ والنجومَ مسخراتٌ بأمره إنَّ في ذلك لآياتٍ لقومٍ يعقلون}. (سورة النحل، الآية:12).

3. لقد تكون المقياس الإنساني في العمارة الإسلامية منسجماً مع الثوابت المُناخية والتقاليد وروح الحضارة الإسلامية، وليس سهلاً استيراد هذا المقياس وتطبيقه في غير موطنه، وكذلك ليس ممكناً اعتماد المقياس الهندسي الرياضي لتحليل ودراسة فن العمارة الإسلامية. لقد صنع المسكن لكي يكون موطن صاحبه ضمن إطار تاريخه وعقائده، وفي إطار حضارته وثقافته وعقائده الإسلامية.

4. على أن العمارة الإسلامية إذا قامت على المقياس الإنساني، فإنها لم تكن خالية من المنطق العلمي والبحث الرياضي، لقد أسهم المسلمون في وضع الأسس الرياضية الأساس لإقامة المنشآت والعمارة والعمران، وكان الخُوارزمي أول من أوجد الأعداد ومنازلها، وابتكر الصفر وعلم اللوغاريتم المأخوذ عن اسمه، ووضع الخُوارزمي كتاباً في حساب الجبر والمقابلة، وقدم المعادلات الجبرية الأساس. واستطاع أبو كامل شجاع بن أسلم (مصري، ت: 240 هـ/951م) أن يحل المعادلات ذات المجاهيل الخمسة. وكان من الرياضيين ثابت بن قره الذي اشتغل في الحجوم المكعبة والأشكال المربعة، أما أبناء موسى بن شاكر، فلقد وضعوا مصنفاً عرف باسم (كتاب معرفة مساحة الأشكال) الذي ترجم إلى اللاتينية في كتاب (تعلم الغرب عن بني شاكر)، حل مسألة تقسم الزوايا إلى ثلاثة أقسام.

ولقد تعمق ابن الهيثم بمسائل هندسية صعبة، ومنها إذا قطع مستقيم مستقيمين آخرين، وكان مجموع الزاويتين في نفس الجانب أقل من زاويتين قائمتين، فإن الخطين المستقيمين إذا امتدا إلى ما لا نهاية، سيتلاقيان في الاتجاه المقابل للزاويتين الأقل من القائمتين.

5. يتجلى المقياس الإنساني الذي قامت عليه العمارة الإسلامية في حماية الإنسان من عوارض الطبيعة والتلوث والضجيج والروائح، ولقد استطاع المعمار الإسلامي أن يطّوع العمارة لتحقيق هذه الحماية.

[imgl]http://www.awda-dawa.com/sounds/granada3.jpg[/imgl]إن أهم عنصر في المبنى الإسلامي هو الفِناءُ الداخلي، وفي المساجد يسمى الصحن. وهذا الفِناء يشكل القسم المنفتح على السماء مباشرة، وعليه تطل الأبواب والنوافذ في طابَقَين، ولا يدخله تيار خارجي، إذ يصله بالباب الخارجي المطل على الشارع دِلِّيج (دهليز) متعرج، وهكذا فإن الهواء لا يتسرب إلى داخل الفِناء، وكذلك الرياح والدخان والغبار، ولقد أثبتت التجارب أن حركة الهواء العلوية تبقى محوّمة فوق الفناء لا تتمكن من اختراقه إلا إذا كان الدِّليج والباب الخارجي مفتوحين. وهذا يعنى أن الهواء العلوي سواء كان حاراً أو بارداً، نظيفاً أو ملوثاً، فإنه لا يؤثر على حرارة جو الفناء وعلى نقاوته.

6. لقد روعي في غرف المسكن، كما في حرم المسجد، أن يكون مستوى الأرض فيها أعلى من مستوى أرض الفناء أو الصحن، والسبب أن الهواء البارد أثقل من الهواء الدافئ، ويبقى مستقراً في قعر الفِناء تصده عن دخول الغرف عتبات عالية في أسفل الأبواب، ويبدو هذا النظام أكثر وضوحاً في القاعات التي تعلو أرضها على شكل منصة أو منصتين يعلوان عن مستوى أرض القاعة، فتكون حائلاً ثانياً يمنع تسرب الهواء البارد إلى مستوى أرض المنصة (الطزر).

7. لقد راعى المعمار استعمال الحجر والآجر والخشب في عمارته بسِماكاتٍ مناسبة لحماية سكان المبنى من البرد والحر خارج المبنى.

8. وفي جميع المباني كانت المياه وسيلة نظافة وترطيب ومتعة عندما كانت تتدفق من الفوارات والسلسبيل في فسقيات وبرك مختلفة الأشكال. ولقد درس اتجاه المبنى؛ لكي يتفق مع الحاجة إلى دفء الشمس ونورها، ومع ضرورة الوقاية من دخان المطابخ وروائح المراحيض.

9. تمتاز العمارة الإسلامية بخصيصة أساس تطلق عليها اسم خصيصة (الجَوََّانية)، فأي مبنى سواء أكان مسجداً أم مدرسة أم مسكناً، فإنه يحمل الطابَع الجواني بمعنى أن عمارته الخارجية أقل شأناً من عمارته الداخلية، ونرى ذلك في المساجد الأولى، كالجامع الأموي بدمشق وجامع عقبة في القيروان وجامع قرطبة، كما نراه بشكل شامل في المساكن والقصور. إن خصيصة الجَوّانية هذه تنسجم في المباني الخاصة، مع شاغل المبنى الذي يبحث عن مجال خاص به يستقل فيه عن العالم الخارجي، ولذلك فهو يغني هذا المجال الداخلي بأروع الزخارف والأثاث المعماري، ويهمل الواجهات الخارجية لأسباب كثيرة أبرزها رغبته بعدم التظاهر والتفاخر والمضاهاة.

وتدخل خصيصة الجَوَّانية في نطاق مفهوم المقياس الإنساني

10. كان انتشار السيارات واسطة أساسية للانتقال والنقل، سبباً في تعديل النظام العمراني للمدينة الإسلامية، وسبباً في تغيير ملامح العمارة التي أصبحت كتلاً من المنشآت تنهض على حافة الطرق التي أصبحت شِرْيان المدينة الحامل للعلاقات الاجتماعية والاقتصادية في المدينة.

لقد قام التنظيم العمراني الحديث على توزيع المحاضر المستقلة لبناء عمارات مفتوحة الجوانب على الطرقات مباشرة، أو على الحدائق المحيطة، وهكذا تحولت المنشآت من النظام الجَوََّاني إلى النظام البراني الخارجي، وازداد اهتمام المعمار بالواجهات والحدائق الخارجية، وضعف اهتمامه بالعمارة الداخلية، وبعد أن كانت أقسام المسكن تنفتح على الفِناء ذي الهواء النقي المعتدل، أصبحت مفتوحة مباشرة على الهواء الملوث الخارجي، وعلى المؤثرات المُناخية والحرارية وعلى الضجيج، كما أصبحت مكشوفة أمام فضول الجوار، وانتهى عهد حرمة المسكن نهائياً. وبصورة عامة فإن النظام الجديد الذي فرضته السيارة عكس نظام المدينة الحديثة، فبعد أن كانت العمارة أساس تنظيم عمران المدينة، أصبح عمران المدينة يتحكم في شكل المبنى وطبيعته. كما عكس النظام الاجتماعي، فبعد أن كانت تقاليد الأسرة تتحكم في العمارة والعمران، أصبحت تقاليد السيارة هي التي تتحكم في التصميم العمراني والمعماري وفي التقاليد الاجتماعية.
[/align]