علاقة هارون بموسى نسباً وديناً
وهارون - عليه السلام - من الأنبياء الذين لا يكاد يعرف كثير من الناس عنه شيئاً ولا يعرفون قدره، وهو نبي عظيم شقيق لموسى - عليه السلام -، وُلد في عام ترك قتل الأبناء، وأرسله الله تعالى مع موسى - عليه السلام - كما قال الله - عز وجل -:ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ* إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَسورة المؤمنون:45-46.
لقد كان الفراق طويلاً جداً بين موسى وأخيه هارون في مبدأ الأمر، فإنه افترق عنه نحواً من عشر سنين ربما لا يدري عن خبره شيئاً، فإن موسى - عليه السلام - منذ ولادته فارق بيته، وأُخذ إلى قصر فرعون وتربى هنالك، ولم يرَ أمّه إلا عندما كانت تأتي لترضعه، ثم بعد ذلك لم يكن يرى أخاه هارون كما يريد؛ لأنه في قصر فرعون، وذاك في مساكن بني إسرائيل، ثم إن موسى قد هرب من هؤلاء إلى مدين، ولبث فيهم عشر سنين، لم يرَ أهله فيها، فلما سار موسى بزوجته من مدين وناداه ربه عند الشجرة في البقعة المباركة دخل موسى بعد ذلك مصر ولقيَ أخاه هارون، وكان لقاءً عظيماً.
ولا يُعرف أحد أعظم في منته على أخيه من موسى - عليه السلام - فإنه لم يزل يسأل ربه حين أوحى إليه أن يجعل معه أخاه حتى أجاب الله دعاءه وجعل معه أخاه هارون نبياً.
وهذه العلاقة العظيمة المتمثلة في أخوة النسب التي تقطعت بها الأسباب اليوم بين كثير من الناس وأشقائهم في فرقة من أجل دنيا من ميراث وزوجات ونحو ذلك من الأسباب نجد أن موسى - عليه السلام - قد حفظ تلك الوشيجة والعلاقة وهو يقبل على الله سائلاً أن يجعل معه أخاه هارون نبياً.
والله - عز وجل - وهب له أخاه هارون نبياً رحمة منه - عز وجل - قال الله تعالى:وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّاسورة مريم:53فكان هذا الأخ الصالح والشقيق الطيِّب، والنبي المؤازِر، والوزير المعاوِن، واليد اليمنى، والساعد الكبير والنصير باللسان، والمعين بالرأي والبدن له تلك المشاركة العظيمة بين أخوين في مهمة جليلة جداً هي النبوة والرسالة ومواجهة المعاندين.
ميزات هارون - عليه السلام – ومنزلته
تميز هارون - عليه السلام - بالفصاحة، قال الله عن موسى:وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًاسورة القصص:34ومعنى ذلك أنه أحسن بياناً وأدرى من موسى بلهجة القوم الذين تركهم موسى هذه السنين العشر.
ومن ميزات هارون - عليه السلام - أنه كان رفيقاً ليِّن الجانب، ولذلك لما خاطب موسى في قصة العجل ماذا قال؟قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِيسورة طـه:94.
وكان قلب هارون - عليه السلام - رؤوفاً رحيماً رؤوماً مشفقاً، تميز بالرفق، وكان يتحلى بالحكمة والصبر، ولذلك حاول أن يجمع ما تبقى من بني إسرائيل في قصة العجل رغم اضطهادهم له، قال الله تعال:قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِيسورة الأعراف:150كما أنه تحلَّى بالشجاعة في القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع أولئك الفراعنة.
وقد قيل: إن هارون - عليه السلام - كان أكبر من موسى - عليه السلام - بسنة، وقيل بثلاث، وهو في الخبرة ببني القبط وقوم فرعون يفوق موسى - عليه السلام - من جهة أنه كان قبله في مخالطتهم وأكثر منه في مدة المكث معهم ومعايشتهم، وهذه الخبرة مهمة في الدعوة لهؤلاء القوم.
جمع الله لهارون - عليه السلام - بين الصفات الدينية والأخلاقية، فكان صادقاً، أميناً، تقياً، صالحاً، هيّناً، ليّناً، سهلاً، مطيعاً لموسى - عليه السلام -، ويندر أن تجد أخاً أكبر يلين مع أخيه الأصغر ويطيعه، فموسى هو الأمير وهارون هو الوزير، فهو وإن كان أكبر من موسى لكنه يسلم له في القياد.
وقد بلغ من منزلة هارون - عليه السلام - أن نبينا - صلى الله عليه وسلم - لما لقيه ليلة المعراج في السماء الخامسة قال له: (مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح).
أثبت الله أثر هارون في الدعوة إليه فقال تعالى عن السحرة:فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَىسورة طـه:70،وهذا يدل على جهده.
وقد تفاوت صفات الأنبياء ومقاماتهم، فلا شك أن موسى - عليه السلام - أفضل وأعلى، قال الله تعالى:تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍسورة البقرة:253وموسى كليم الله.
وقد كان موسى صاحب شجاعة وبأس وشدة، وكان هارون ذا حلم ورفق هائباً لموسى مسلساً القيادة له، وهذا المزيج من قوة موسى وحلم هارون ورفقه كان ضرورياً جداً في قيادة بني إسرائيل،
ولذلك فإن مما يحتاج إليه القائد إذا كان شديداً أن يختار ولاة ومعاونين له فيهم لين ورأفة ورقة، وإذا كان هيناً ليناً اختار معه من يكون فيه قوة وبأس؛ حتى تعتدل الأمور ولا ينفلت الزمام، وهذا يفسر استعمال أبي بكر الصديق لخالد بن الوليد القوي، ثم مات أبو بكر فتولى عمر فعيَّن أبا عبيدة بدلاً من خالد في بعض المواقع.
قال شيخ الإسلام بن تيمية - رحمه الله -: "كان عمرو بن العاص أحد الأمراء، وأبو عبيدة الجراح أيضاً، وقدم أبو بكر عليهم خالد بن الوليد لشجاعته ومنفعته في الجهاد، فلما توفي أبو بكر ولى عمر بن الخطاب أبا عبيدة أميراً على الجميع؛ لأن عمر كان شديداً في الله، فولى أبا عبيدة لأنه كان ليناً، وكان أبو بكر ليناً وخالد شديداً على الكفار، فولى اللين الشديد، وولى الشديد اللين؛ ليعتدل الأمر، وكلاهما فعل ما هو أحب إلى الله في حقه".[انتهى كلامه - رحمه الله -].
مواقع النشر