بسم الله الرحمن الرحيم

ما زلت أذكر قصة طريفة سمعتها في صغري، عن لئيمين دخلا أحد المطاعم وطلبا طعاماً، فلما انتهيا من تناول الطعام، تشاورا في كيفية التهرب من دفع الحساب، ثم اهتدى أحدهما إلى فكرة عجيبة ما لبث الآخر أن وافقه عليها، عندها بادر أحدهما برفع صوته بالسب والشتم لصاحبه، فقابله الآخر بسبٍ أقذع وأشنع، وهنا تعالت الأصوات وتتابعت اللعنات، فجاء عمال المطعم يستوضحون الأمر، فوجدوا المعركة الكلامية مشتعلة، والرجلين على وشك الاقتتال، فحاولوا عندئذ أن يحجزوا بينهما، إلا أن ذلك لم يزدهما إلا صراخا وتلاعناً، ثم أن أحدهما ضرب صاحبه وهرب خارج المطعم، فلحقه الآخر حاملاً "قارورة الشطة" وهو يدعوا عليه بالويل والثبور، وما لبثا أن اختفيا عن الأنظار، وعندها وجد عمال المطعم أنفسهم يتبادلون نظرات الاستغراب المتسائلة عن حقيقة وأسباب ما جرى، بيد أنهم اتفقوا أخيراً على أن الشيء الواضح والمفهوم لديهم أنهم قد خسروا قيمة ذلك الغداء بالإضافة إلى "الشطة"!

أتذكر هذه القصة دائما عندما أجدني وأجد الكثيرين غيري حائرون في تفسير طبيعة علاقة إيران بـ أمريكا، أو بابنتها المدللة إسرائيل!

فبينما كانت الحرب الكلامية بين البلدين في ذروتها في ثمانينيات القرن الماضي، وبينما كان الخميني وأتباعه يصبون لعناتهم على ما يسمونه بـ "الشيطان الأكبر"، كان الرئيس الإيراني أبو الحسن بني صدر يعقد اتفاقاً، في باريس مع نائب الرئيس الأمريكي "بوش الأب" وبحضور مندوب الموساد "آري بن ميناشيا"، لتزويد إيران بأنواع متطورة من السلاح الأمريكي، عن طريق إسرائيل، ليستخدمها الجيش الإيراني في حربه ضد العراق وذلك مقابل مبلغ مقداره 1,217,410 دولار أمريكي.

وبينما كان الرئيس الأمريكي "بوش الابن" يهاجم النظام الإيراني ويتوعده، كانت قواته في العراق تتولي حراسة الرئيس الإيراني منذ وصوله إلى مطار بغداد وحتى مغادرته.

وبينما تهدد السلطات الإيرانية بإغلاق مكتب "قناة العربية" في طهران، ويهاجم عبد الرحمن الرشد "مدير القناة" إيران بمقالات نارية، نجد هذه القناة لا تمل من عرض دعايات الحكومة العراقية "البغدادية الإقامة الطهرانية المولد والنشأة"!


فكيف لنا أن نفهم هذا التناقض بين ما يشاع من حجم العداء الهائل بين تلك البلدان، وبين ما يُفعل ويُمارس على أرض الواقع؟


زد على ذلك ما يحدث بين فترة وأخرى من تسريبات وكشف عن بعض الوثائق القديمة، والتي توضح حقيقة بعض الأحداث، كما في تلك الوثائق التي أفرج عنها أرشيف الأمن القومي الأمريكي والمتعلقة بفضيحة "إيران-كونترا".

أو ما يحدث من فلتات لسانية لبعض المسئولين، كما قال نائب الرئيس الإيراني للشئون القانونية والبرلمانية في ختام مؤتمر "الخليج وتحديات المستقبل" والذي عقد بإمارة أبو ظبي بتاريخ 13-1-2004: (إن إيران قدمت الكثير من العون للأمريكيين في حربهم ضد أفغانستان والعراق، وإنه لولا التعاون الإيراني لما سقطت كابول وبغداد بهذه السهولة)

و كما يقول "شارون" في مذكراته: (لم أر في الشيعة أعداء لإسرائيل على المدى البعيد، عدونا الحقيقي هو المنظمات الإرهابية الفلسطينية) "مذكرات شارون، ترجمة أنطوان عبيد ص 576"

أو ما صرح به وزير الخارجية في حكومة نتنياهو "ديفيد ليفي" حيث قال: (إن إسرائيل لم تقل في يوم من الأيام أن إيران هي العدو) "جريدة هارتس اليهودية 1/6/1997"

والواقع أني لست هنا في معرض التتبع لمثل هذه الوثائق أو التصريحات، وأظن أن من أراد ذلك فلن يصعب عليه، فهناك عشرات الوثائق والمقالات التي تناولت هذا الجانب (1)، وما أريد الإشارة إليه هو انه ما زال هناك الكثيرين منا يعتقد بأن إيران هي حاملة راية الجهاد والمقاومة ضد أمريكا وإسرائيل، والمصيبة أن ذلك ليس قاصراً على العوام، بل يتعداه إلى طبقات من المثقفين.

ومع تسليمي بعدم وجود عداء حقيقي بين إيران وأمريكا أو إسرائيل، إلا أني لا أستطيع نفي وجود نقاط خلاف طبيعية بينهما من قبيل خلافات المصالح وحسابات النفوذ والسيطرة، إلا أن الواضح أن تلك الدول قادرة واحترافية سياسية عالية على تجاوز نقاط الخلاف، أو على الأقل تحييدها وتأجيلها إلى وقت لاحق، والتركيز على القضايا الإستراتيجية المشتركة.

وفي ظني، والله اعلم، أن من مصلحة أمريكا وإسرائيل أن تبدو إيران في موقع المقاومة والعداء المطلق لهما، وأن تتزعم ما يسمى بمعسكر الممانعة، لأن ذلك يحقق هدفين مزدوجين:

الأول: وهو ما يعبر عنه البعض بالحاجة الوجودية لإسرائيل، فمن المعلوم أن إسرائيل تحب أن تبدو دائما بمظهر الضعيف المحدق به الخطر والمحاط بسياج من الدول المعادية، مما يمكنها من الحصول على مساعدات وأسلحة الدول الغربية الكبرى وبخاصة أمريكا، وقد رأينا كيف تحالف العالم بأسره معها لمنع تهريب السلاح لحماس، ولذلك فهي تستغل تصريحات المسئولين الإيرانيين الذين يتوعدون بإزالتها من على الخارطة لإقناع الرأي العام الغربي بحاجتها للدعم المستمر، وكذلك لجعله يتفهم ما تقوم به من أعمال إرهابية ضد المدنيين في فلسطين أو لبنان.

الثاني: (و هو ما قد يغفل عن الكثيرين) تلميع المذهب الشيعي الذي تتبناه إيران وتراهن عليه مع تلك القوى في مزاحمة الإسلام السني الغير متسامح مع المشروع الغربي، ويتم ذلك عبر تقديم المذهب الشيعي كمذهب يقوم في الأساس على مبدأ المقاومة والجهاد للمحتل دون مواربة، وقد لمسنا تأثر البعض منا (ولا أقصد العوام فقط) بخطابات نصر الله النارية ضد إسرائيل! بل وصل الأمر إلى حدوث انقلاب من بعض الإسلاميين ضد مشايخهم، كل ذلك دفاعاً عن إيران (المقاومة)! كما في أزمة الشيخ القرضاوي مع الصحافة الإيرانية، ومن شأن هذا الهدف في حال تحققه إحداث نوع من التوازن المذهبي في المنطقة، وهذا يعد بلا شك هدفاً مشتركاً لكل الأطراف.

ولا تزال الوقائع تؤكد لنا أن العداء الإيراني لأمريكا وإسرائيل يبقى في أكثره مجرد تصريحات وتهديدات فارغة لا يسندها تحرك حقيقي، عدا ما يكون من تحركات تكتيكية، واعني بالتحديد مواجهات حزب الله مع إسرائيل، والتي ثبت أنها مواجهات تكتيكية مقننة ومرتبطة بالحسابات الإيرانية فحسب، وليس الهدف من ورائها نصر للأمة، وإلا فما تفسير تفرج حزب الله على ما حدث في غزة، بل والمسارعة في نفي تورطه في عمليات إطلاق الصواريخ من جنوب لبنان؟، ولذلك فهناك من المتابعين من يرى بأن حزب الله أريد له أن يوجد في جنوب لبنان كبديل للميلشيات النصرانية التي فشلت في الحد من نشاط الفصائل الفلسطينية في لبنان، ذاك أنه يرفض التحالف مع تلك الفصائل، بل ولا يسمح لها بالوصول إلى نقاط التماس مع العدو.

وأما ما نشاهده من احتفاء إيران بقيادات حماس وفتح أذرعتها لقادة الجهاد في فلسطين، فلا يعدو كونه مناورات وتقية سياسية، أحسب أن الإخوة في حماس أذكى من أن تنطلي عليهم، فإيران لا تعطي شيئاً لوجه الله، ومن قتل الفلسطينيين وشردهم في العراق وألجأهم إلى ترك بيوتهم والعيش في العراء، لا يمكن أن يرحمهم في فلسطين، ولو كانت إيران صادقة في دعمها لحماس لأنفذت وعدها الذي قطعته إبان فوز حماس بالانتخابات، والمتمثل في إعطاءها مبلغ خمسين مليون دولار!

ويبقى أن الذي أعطى الفرصة كاملة لإيران للمتاجرة بالقضية الفلسطينية وتزعم الساحة الإسلامية، هو الموقف العربي السلبي تجاه المقاومة وتراجع الدور الريادي لبعض الدول العربية.

وبمناسبة ذكرى الثورة الخمينية أسألك أيها القارئ الكريم:

كم عدد الحروب التي اندلعت بين إيران وأمريكا أو إسرائيل منذ انطلاقة الثورة حتى الآن؟

دع هذا السؤال وأجبني: هل حدث أن ضُربت مواقع إستراتيجية إيرانية على غرار ما حدث للمفاعل العراقي؟

الواقع يشهد أن أمريكا إنما خاضت الحروب ضد أعداء إيران التاريخيين، أفغانستان التي مازالت مشاعر الغضب الطائفي والعنصري الإيراني تتأجج ضدها، بسبب عقدة سقوط الدولة الصفوية على يد الأفغان الغلزائين (1722-1729م) بقيادة "المير محمود"، والعراق الذي تصدى للزحف الصفوي الجديد بقيادة الخميني، بينما بقيت إيران في مأمن بفضل قدرتها على الاستفادة من نقاط الالتقاء بين مشروعها التوسعي والمشروع الغربي، في ظل غياب شبه كامل لمشروع عربي إسلامي.

أما ما يربط إيران بإسرائيل تحديداً، فهناك من يرى أنه أبعد من تاريخ تأسيس الدولتين، إذ لا يزال اليهود يشعرون بالمنة التاريخية للفرس، وذلك بسبب تخليص القائد الفارسي "قورش الكبير" لليهود من السبي البابلي، وقد وُجدت منظمات شبابية يهودية تعيش في طهران تحت اسم "قورش الكبير"!

ويمكن اعتبار مرحلة حكم الشاة بأنها الفترة التي شهدت أكبر وضوح لطبيعة العلاقة بين إيران وإسرائيل، قبل انطلاق "التقية" أو الثورة الخمينية التي لم تغير في حقيقة العلاقة الشيء الكثير، والغريب أن يكون اليهود الفرس هم الأكثـر سفكاً لدماء الفلسطينيين من غيرهم، فنائب رئيس الحكومة الإسرائيلية "شاؤول موفاز" صاحب الخطة العسكرية لمواجهة الانتفاضة والتي كانت نتيجتها مجزرة نابلس وجنين هو فارسي من مواليد طهران عام 1948، وقد هاجرت أسرته إلى فلسطين عام 1957، و"دان حالوتس" رئيس القوات الجوية الإسرائيلية السابق والملقب ب"جنرال الاغتيالات"، والذي كانت أبشع مجازره في يوليو 2002 حينما أعطى أوامر بقصف مبنى سكني لاغتيال أحد قادة حركة حماس واستشهد في تلك المجزرة 14 مدنيا بينهم 9 أطفال، ينتمي هو الآخر لعائلة يهودية مهاجرة من "هاجور" الإيرانية.

وختاماً، فإن من الواجب علينا كعرب ومسلمين أن نفهم أننا مستهدفون، وأننا واقعون بين مطرقة وسندان مشروعين خطيرين لا يقل أحدهما خطورة عن الآخر، وأن علينا كذلك أن نفهم أنه لا يوجد عداء حقيقي بين أطراف تلك المشاريع، بل لا يوجد ما يبرر ذلك العداء أصلاً، وأقصى ما يمكن أن يكون هو وجود خلاف مصلحي أو تنافس على مناطق النفوذ، وهذا النوع من الخلاف يمكن أن تحله الصفقات السياسية، بعكس اخلاف "أيدلوجي (العقيدة)" الذي لا يمكن للصفقات السياسية إنهاءه، وهذا ينسحب على خلافات التيارات المنبثقة عن هذين المشروعين والموجودة في عالمنا العربي وبخاصة في دول الخليج، ولذلك فمن السهولة عليك ملاحظة التعاون والتنسيق بين التيارات التغريبية والطائفية في تلك البلدان ضد التيارات السنية وبخاصة السلفي، ويبقى الأمل في عودة مشروعنا العربي الإسلامي الحضاري مصدر قوتنا وسر مدافعتنا لتلك المشاريع المعادية.

-------------------
1) انظر على سبيل المثال: "قصة التعاون الإيراني الإسرائيلي" لعز الدين بن حسين القوطالي
حامد خلف العُمري

صيد الفوائد