المدينة المنورة (واس) يتردد اسم الخَنْساء عبر الزمن بصفتها رمزًا للصبر والقوة في مواجهة الأحزان، ولبراعتها في صياغة أعمق المشاعر الإنسانية بأروع الألفاظ، فكانت قصائدها في رثاء أخيها صخر تجسيدًا حيًا للألم النبيل والولاء الذي لا يزول.
10 رمضان 1446هـ 10 مارس 2025م
عاشت الخنساء في عصر الجاهلية وصدر الإسلام، فأضفى ذلك على شخصيتها عمقًا استثنائيًا، ومُنيت شخصيتها بتحولات كبرى، حيث آمنت بالدين الإسلامي والتزمت بمبادئه، وبلغ إيمانها ذروته عندما قدمت أبناءها الأربعة شهداء في معركة القادسية، واستقبلت النبأ بصبر وجلد يعكسان عظمة روحها وإيمانها الراسخ.
لم تكن الخنساء مجرد شاعرة، بل كانت صوتًا خالدًا للحزن العميق والقوة الأنثوية، وبحروفها العميقة ومشاعرها الصادقة، نقشت اسمها في وجدان العرب؛ لتظل سيدة الرثاء التي أذابت القلوب وألهمت الأجيال.
يقول الباحث في تاريخ المدينة المنورة عزالدين محمد المسكي: "يكفي أن يُذكر اسم الخنساء فقط؛ لنعرف أنها أشعر شاعرات العرب، فاسمها يحمل من الشهرة في الشعر أقصى ما اشتهرت به شاعرة في التاريخ العربي، ورغم أنها عاشت قبيل الإسلام وبعده فما زالت أبيات من شعرها تردد إلى اليوم".
عُرفت الخنساء بلقبها واسمها تماضر بنت عمرو بن الشريد السُّلمي، وكان لها أخوان هما: معاوية وصخر، وقد فُجعت بمقتلهما قبل الإسلام، فرثتهما بأعمق وأبلغ ما قيل في الرثاء.
وكان أخوها صخر أقرب إلى قلبها؛ لأنه كان يبرّها ويحنو عليها ويُعينها، وقاسمها ماله عدة مرات، فلا غرو أن رثاءها فيه كان من أبلغ ما رثي به إنسان، حتى قيل في المثل: (قال فينا ما لم تقله الخنساء في أخيها).
ويمتزج شعر الخنساء بالفخر والشجن، والحزن، فلقد رثت أخاها لمكارم أخلاقه، وكانت من الفصاحة والبلاغة بمكان جعلها تعرض شعرها على النابغة الذبياني في سوق عكاظ، حيث قال عنها عندما أنشدته قصيدتها التي منها (وإن صخرًا لتأتمّ الهداة به .. كأنه علم في رأسه نار): "والله لولا أن أبا بصير أنشدني آنفًا لقلت إنّكِ أشعر الجن والإنس".
في هذا التقرير تسلّط وكالة الأنباء السعودية "واس" الضوء على موطن الشّاعرة الخَنْساء، مواكبة لتوجه "وزارة الثقافة" بتوثيق المواقع المكانية في المملكة التي عاش فيها الشُّعراء العرب، من خلال لافتات إرشادية وتعريفية تربط بين هذه المواقع التراثية وبين الشعراء الذين خلدوها في شعرهم.
عاشت الشّاعرة الخَنْساء بقرية تسمى "صفِينة"، وفيها أتاها نعي أخيها صخر؛ فخلدت ذلك الحدث والمكان بقولها:
طَرَقَ النّعيُّ على صُفَيْنَةَ غُدْوَةً
ونَعَى المُعَمَّمَ من بني عَمرو
حامي الحَقيقةِ والمُجيرَ إذا
ما خيفَ حدُّ نوائبِ الدَّهرِ
الحَيّ يَعْلَمُ أنّ جَفْنَتَهُ تَغْدُو
غَداةَ الرّيحِ أوْ تَسري
فإذا أضاءَ وجاشَ مِرْجَلُهُ
فَلَنِعْمَ رَبّ النّارِ والقِدْرِ
و"صفِينة" لا تزال تحتفظ باسمها إلى يومنا هذا، وفيها آثار قديمة تدل على موروث حضاري وعمراني عميق، وتحيط بها العديد من المواقع والمعالم الطبيعية التاريخية ومنها: "السويرقية"، و"وادي بيضان"، و"جبال أبلى"، و"جبل تعار"، الذي قالت فيه الخنساء:
بلينا وما تبلى تعار وما ترى
على حدثِ الأيَّامِ إلاَّ كما هيه
فأقسَمْتُ لا يَنفَكّ دمعي وعَوْلَتي
عليكَ بحزنٍ ما دعا اللهَ داعيه
وبحسب "مركز بحوث ودراسات المدينة المنورة"، فإن الشاعرة "الخنساء" -رضي الله عنها- عُرفت بحرية الرأي وقوة الشخصية، من خلال نشأتها في بيت عز وجاه بجانب والدها وأخويها معاوية وصخر، وتُعد من المخضرمات، إذ عاصرت الجاهلية والإسلام، وقدِمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قومها من بني سليم؛ فأسلمت، ولها من الفضائل استشهاد أبنائها الأربعة في سبيل الله، ويزخر شعرها بذكر العديد من المواضع الجغرافية في بلاد قومها، ومن أهم تلك المواقع: "
وادي العقيق"، وقد ذكرته وهي تبكي أخاها صخرًا، حيث دُفن فيه وتحديدًا في صدر وادي العقيق في مكان يسمى "النقيع"، تقول الخنساء:
هريقي من دموعك أو أفيقي
وصبرًا إن أطقت ولن تطيقي
وقولي إن خير بني سليم
وفارسهم بصحراء العقيق
توفيت "الشّاعرة الخَنْساء" بالبادية في أول خلافة عثمان -رضي الله عنه- سنة 24هـ، حيث ودّعت الدُّنيا بعد تاريخ إنسانيّ وشعريّ حافل بأسمى الأثر وجزيل المعنى.
مواقع النشر