الحلقة العشرون


كتاب محمد (صلى الله عليه وسلم )

لنصارى نجران

إن وفد مسيحيي نجران المكون من حوالي 60 رجلا من الرؤساء والعلماء قد أتوا لمحمد وناظروه في المسجد وصلوا في مسجده و هذا في وقت قد استقرت فيه دولته وسادت في الجزيرة العربية ، وكان من ضمن ما حدث أن تجادل اليهود من سكان المدينة مع ضيوف المدينة من المسيحيين ، وهذا كان امتدادا طبيعيا لمشاحنات طويلة بين أهل الديانتين ، ولكن الجديد هو أن تنفجر في حضرة نبي جديد برسالة جديدة وفي مسجده ، و لم تكن الجزيرة العربية المسرح المناسب لهذا النوع من الخلاف ، وكان الإختلاف بين الفريقين عن ديانة إبراهيم ، هل هو يهودي أو نصراني فنزل القرآن على محمد( ) ، يستنكر المحاجة في دين إبراهيم وقد نزلت التوراة والإنجيل من بعده ، فقال رجل من أحبار اليهود ظنا منه أن محمدا بنفي قرآنه ليهودية إبراهيم ونصرانيته وإثباته أن إبراهيم كان على نفس العقيدة التي ينشرها هو بذلك يطلب أن يُعبد ، أو لعله أراد أن يلمز الفريق الآخر المسيحي فقال لمحمد( ) : أتريد منا يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى ابن مريم ؟ فقال رجل من نصارى نجران : أو ذلك تريد يا محمد وإليه تدعونا ؟ فقال : معاذ الله أن أعبد غير الله أو آمر بعبادة غيره ما بذلك بعثني ولا أمرني .

وأفهمهم أن دين الله وهو الدين الذين كان عليه إبراهيم والأنبياء هو التوحيد ونفي الربوبية عن الملائكة والأنبياء لذا يصح أن يقال عن إبراهيم أنه كان حنيفا مسلما ، حيث تعني الحنيفية الإستقامة وميل النفس تجاه الله وأوامره وللعمل الصالح ، والمعني الإجمالي حسب ما استطيع هو عبادة الله وحده بدون شريك ، وبدون واسطة من رجل دين ، وعمل الأعمال الصالحة .

وسألوه عن قوله في المسيح فنزل القرآن بعد جدال طويل
( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ (60) فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61) ) (1)
وعرض عليهم المباهلة ، وتخوفوا منها ، على اعتبار أنه قد يكون نبيا حقا فتصيبهم وأهلهم كارثة ، ثم كتب لهم كتابا منه هذا

(( ولنجران وحاشيتها جِوَارُ الله وذمة محمد النَّبيّ على أنفسهم وملتهم وأرضهم وأموالهم وغائبهم وشاهدهم وعشيرتهم وبعيهم, وأنْ لا يُغيِّروا مما كانوا عليه, ولا يغَّير حق من حقوقهم ولا ملتهم, ولا يَغَّيروا أسقُفٌ عن أسقفيته ولا راهب من رهبانيته, ولا واقهاً عن وقيهاه(4) وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير, وليس عليهم دنيَّة ولا دم جاهلية, ولا يُحْشُرُوْنَ, ولا يُعْشرون, ولا يَطأُ أرضهم جيش, ومَنْ سَأَلَ منهم حَقَّاً فبينهم النصف غير ظالمين ولا مظلومين, ومن أكل رباً من ذي قبل فذمتي منه بريئة, ولا يؤخذ رجل منهم بظلم آخر, وعلى ما في هذه الصحيفة جوار الله وذمةُ محمد النَّبيّ رَسُول اللهِ حَتَّى يأتي الله بأمره, ما نصحوا وأصلحوا فيما عليهم غير مثقلين بظلمٍ )) (2)
ثم لما جاءه أسقف نجران ليشاهده ويتعرف عليه كتب له هذا الكتاب ليأخذه معه وقت رحيله ليكون عهدا بين الدولة الإسلامية ونصارى نجران بعده

( بسم الله الرحمن الرحيم, من محمدٍٍ النَّبيِّ إلى الأسقفِ أبي الحارث وأساقفة نجران, وكهنتهم, ورهبانهم, وأهل بِيعِهم, ورقيقِهم, وملتهم وسوقتِهم, وعلى كل ما تحت أيديهم من قليلٍ وكثيرٍ جوار الله ورسوله لا يُغير أسقف من أسقفته, ولا راهب من رهبانيته, ولا كاهن من كهانته, ولا يغير حقٌّ من حقوقِهم, ولا سلطانهم, ولا مما كانوا عليه. على ذلك جوارُ اللهِ ورسولِهِ أبداً ما نَصَحُوا وأصلحُوا عليهم غير مثقلين بظالم ولا ظالمين) (3)
وهذا هو عقد الذمة الأول في تاريخ الإسلام ، وهو يعني عقد لحماية أصحاب الديانات السماوية الأخرى من أن يتم التعرض لهم في مجتمع ذي غالبية مسلمة تعرضا ينقص من حقوقهم المدنية أو الدينية ، وهو شيء متوقع وقاعدة في ذلك العصر في أي مجتمع ، لذا كانت الذمة تعتبر عهد ديني من النبي بمباركة الله لحماية الأقليات الدينية ، في وسط مجتمعات – وأعني بها كل المجتمعات البشرية – لم تصل لدرجة من الوعي بحيث تنصف الآخر المخالف في الدين بدون أي يكون هناك عهد ما غليظ يحفظ ذلك ، وهو في نفس الوقت عقد يجعل المختلفين في العقيدة جزءا من سياج الأمة الذي لا تؤتي منه .

هذه خطبة المسيحي العربي يوسف نعيي عرافة في ذكرى المولد النبوي عام 1346هـ 1927 م متطرقا إلى معاهدة الرسول مع أصحاب الديانات الأخرى ، لاسيما المسيحيين منهم
(( إن محمداً هو باني أساس المحبة والإخاء بيننا ، فقد كان يحب المسيحيين ويحميهم ، من ذلك ما قام به في السنة السادسة بعد الهجرة ، حيث عاهد الرهبان خاصة والمسيحيين عامة ، على أن يدفع عنهم الأذى ، ويحمي كنائسهم وعلى أن لا يتعدى على أحد من أساقفتهم ولا يجبر أحداً على ترك دينه ، وان يمدوا بالمساعدة لإصلاح دينهم وأديرتهم ، كما أن القرآن نطق بمحبة المسيحيين للمسلمين وبمودتهم لهم ، وإن الآية الشريفة :  و لتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون  ، لتبعث على شد أواصر الصداقة بين الطرفين ، بل حتى مع الشعب الإسرائيلي في أكثر الأوقات ، إننا لنعلم أن ما أتى به الرسل موسى وعيسى ومحمد ما هو إلا لإصلاح العالم لا لإفساده وخرابه ، وما الكتب الثلاثة المنزلة إلا نور صادر من بؤرة واحدة ينعكس نورها في ثلاثة أشعة ، كل منها للبشر)) (4) .

يقول وليام بيكر منبها إلى حسن تعامل الرسول مع المسيحيين ( وتشهد وقائع التاريخ أن المسيحيين لم يكونوا مضطهدين في تعاملهم مع المسلمين زمن حياة النبي محمد ، فلقد سمح لوفد مسيحي من نجران ان يبقى ويصلي في مسجد المدينة ، ونصح النبي محمد المسلمين الأوائل أن يهاجروا إلى بلاد الحبشة التي كانت يومئذ نصرانية لكي ينعموا بعدل الملك المسيحي ، ومحمد هو الذي حرر من الأسر إبنة حاتم زعيم قبيلة طي المسيحية ) (5)

________________________________________
(1) آل عمران 59-61 (2) ابن سعد طبقات
(3) ابن هشام سيرة (4) خطبة منسوخة
(5) وليام بيكر المشترك أكثر مما تعتقد