مشاركة أخرى في حوار الشيخ الفوزان وآل الشيخ:

الكتابة في الصحف ليست من الأدب!





فقد اطلعت على مقال للكاتب محمد بن عبداللطيف آل الشيخ في جريدة «الجزيرة» يوم الثلاثاء 19 رجب 1429هـ ولي عليه عدة ملحوظات:

الملحوظة الأولى: إن الواجب في النصيحة لأهل العلم أن تكون فيما بينه وبينهم سراً بالاتصال أو بالمكاتبة أو بالزيارة؛ وأما الكتابة في الصحف فليس هذا من الأدب فأهل العلم لهم مكانتهم وتقديرهم وحرمتهم.

الملحوظة الثانية: أن الكاتب لم يفرق بين بيان الحق والعلم ومسائل الدين وبين النصيحة لولي الأمر، فبيان العلم واجب، وهو داخل في قوله تعالى: {وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ..}

والشيخ صالح الفوزان حفظه الله بيّن ووضح رأيه في حكم زيادة المسعى، ولا لوم عليه في ذلك.

وأما النصيحة المتضمنة الوعظ والتذكير وبيان ما يحتاجه ولي الأمر من أمور الدين فهذا أمر سري أحسب أن الشيخ سلك فيه ما ورد في النصوص الشرعية، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم (من أراد أن ينصح لذي سلطان فلا يبده علانية، وليأخذ بيده فإن قبل منه فذاك وإلا فقد أدى الذي عليه) رواه ابن أبي عاصم في السنة بسند صحيح.

الملحوظة الثالثة: لقد قام علماء الأمة الراسخون في العلم من عهد الصحابة والتابعين وأتباعهم بإحسان إلى وقتنا هذا بواجب النصح لولاة الأمر ولعموم المسلمين، فبينوا للناس مسائل العلم والدين ولم يكتموها، حتى وإن خالفت ما رآه ولي الأمر وسلطان الوقت في زمنهم؛ من غير أن يعتبر ذلك منهم منازعة وخروجاً أو افتياتا، وأما النصيحة لولاة الأمور فسلكوا فيها المسالك الشرعية.

ولما ضرب الكاتب مثالاً بالشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله، فإني أذكره بأن الشيخ ابن باز رحمه الله قد أصدر بياناً في حرمة التأمين التجاري المسمى بالتعاوني، وحذر منه، كما أصدر بيانات مماثلة في تحريم بعض المعاملات المبنية على الربا أو القمار، مع أن ولي الأمر قد ارتأى العمل ببعضها بناء على آراء بعض الفقهاء، ولم يمنع ذلك الشيخ ابن باز رحمه الله من بيان الحق والحكم الشرعي، وأحيل القارئ الكريم إلى نصيحة للشيخ ابن باز رحمه الله بعنوان: (نصيحة عامة لحكام المسلمين وشعوبهم) في مجموع فتاوى ومقالات للشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله ليقف بنفسه على النصح الذي انتهجه الشيخ ابن باز: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم.

والذي ينتقد على بعض المتصدرين للبيانات ليس سببه بيان مسائل الدين والأحكام الشرعية؛ وإنما منازعة ولاة الأمر أو التحريض على الخروج والتمرد والعصيان وإثارة العامة، أو التدخل في أمور ليست من اختصاصهم ولا يدركون خطرها على البلاد والعباد، أو لكون بعضهم ليس من أهل العلم والفتوى، أو لكونهم يظهرون ما يجب الإسرار به في النصح وينشرون ذلك بين الناس.

والشيخ صالح الفوزان ليس في كلامه إثارة أو تشويش أو تحريض على ولاة الأمر، بل إنه يصرح بالثناء على ولاة الأمر ويصفهم بما يستحقونه من الأوصاف الحسنة، ويدعو لهم في خطب الجمعة والمحاضرات العامة ويأمر بذلك ويحث عليه، ويأمر بلزوم الجماعة واجتماع الكلمة، وهو من كبار أهل الفتوى المعتبرين في هذا العصر، وهو لم ينشر النصائح السرية التي يقدمها لولي الأمر كما ذكر الكاتب، وإنما كتب ووضح رأيه في أمر فقهي.

علماً بأن الشيخ صالح الفوزان لم يُعرف أنه وقع بياناً مع أحد، سوى بيانات هيئة كبار العلماء التي هي من صميم عملهم وواجبهم الذي كلفهم به ولي الأمر.

الملحوظة الرابعة: منهج علماء الدعوة وسلفهم الصالح من أئمة الدين والسنة واحد في النصيحة للولاة، مع بيان مسائل الدين؛ فقد تبنى الخليفة المأمون في زمن الإمام أحمد رحمه الله قولاً باطلاً في القرآن الكريم، فلم يكتم الإمام أحمد الحق لأجل رأي الخليفة؛ بل بين ووضح حتى أوذي في الله لأجل ذلك؛ وفي المقام نفسه نهى بشدة عن الخروج على الإمام وقال: (هذا خلاف الآثار).

والإمام ابن تيمية حبسه بعض أمراء زمنه في أمور كان الحق معه فيها، ولم يكتم العلم ومسائل الدين لأجل رأي الحاكم مثل مسألة الطلاق بالثلاث، ومسألة تحريم شد الرحل لزيارة القبور وغيرها، ومع أنه أوذي وسجن؛ فإن مؤلفاته وكتبه مليئة بالحث على السمع والطاعة والتحذير من الخروج على ولاة الأمر وإن جاروا وظلموا، ومع كثرة مؤلفاته لم يصنف في التحريض على الخروج على الظلمة أو سبهم أو تجريحهم بل أمر بالسمع والطاعة لهم في المعروف.

وهكذا علماء السنة والراسخون في العلم، فالمنهج الذي ساروا عليه واحد.

الملحوظة الخامسة: قال الكاتب مخاطباً فضيلة الشيخ صالح الفوزان: (لماذا لجأت إلى النصيحة العلنية وتخليت - هداك الله - عن السرية في مناصحتك لولي أمرك).

فأولاً: قوله (ولي أمرك!!) فيه ما فيه من التنقيص وعدم الاحترام؛ فخادم الحرمين الشريفين هو ولي أمر أهل هذه البلاد وليس الشيخ فقط.

ثم هل من الضرورة أن يُطلعَ الشيخُ الكاتب على المكاتبات الخاصة التي يرفعها لولي الأمر، وهل أنت من المسؤولين عن الشؤون السرية التي يبحثها العلماء مع الولاة؟!

الملحوظة السادسة: عبر الكاتب ببعض العبارات التي لا تليق مثل قوله في حق الشيخ صالح الفوزان: (يا شيخ الفوزان) وكرر هذا الوصف، وكأنه شيخ لهذه الأسرة فقط، ولم يصفه بما يليق به، وهذا انتقاص لمقام الشيخ وأطالبه بالأدب مع أهل العلم، وكذلك قوله: (إنك رجل تناقض اليوم ما تفتي به في الأمس)، ونحو ذلك من العبارات التي يُقصد منها التنقص للشيخ، فأذكر الكاتب بتقدير العلماء واحترامهم، وهذه هي طريقة أهل السنة والجماعة خلافاً لطريقة أهل الغلو والخوارج والفئة الضالة، وقد اطلع القراء في هذه الجريدة على اعترافات بعض الموقوفين في قضايا إرهابية، وكان من أبرز أصولهم الإساءة لأهل العلم وانتقاصهم، فأنا أربأ بالكاتب أن يتفق معهم في هذه المسالك الوخيمة التي تعود بالشر والضرر على بلادنا وشبابنا.

وختاماً فإني آمل أن يلاحظ الكاتب أن آراءه التي ينادي بتطبيقها في المجتمع لم يسلك فيها مسلك النصيحة السرية للمسؤولين، فليحرص على أداء النصح سراً فإن هذا أنفع له وللمنصوح وللمسلمين.

وفق الله الجميع لكل خير وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وأتباعه بإحسان.



د. فهد بن سليمان الفهيد
عميد كلية أصول الدين - جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض





Dr.fahad2@hotmail.com