د. رضا العطار (الخبر) : د. رضا العطار : سوف نتحدث اليوم عن تاريخ العرب قبل الإسلام وهو جملة مواضيع طويلة ومتشعبة لا يسمح الوقت للتطرق إليها بشكل موسع، ومن يرغب بالإطلاع على التفاصيل يستطيع أن يستعين بالمراجع الأصلية في دائرة المعارف الإسلامية وكتب الرحلات ليجد ما يريد، وسأحاول أن اقسم الموضوع إلى ثلاثة أقسام
القسم الأول: عن موطن العرب والهجرات التي حدثت على امتداد التاريخ.
القسم الثاني: المناطق التي استقر فيها العرب بعد الهجرات.
القسم الثالث: العرب وأصل التسمية ودورها في توحيد الأمَّة العربية وإبراز الجانب القومي فيها.
لقد أجمع أكثر المؤرخين أن صلة العرب بالساميين قد عرفت من الروايات التي جاءت في التوراة عن أصل العرب كونهم منحدرين من سلالة نوح والتي تؤكد أنهم من شبه جزيرة العرب فهي موطنهم الأصلي رغم أن البعض يدّعي أنهم جاءوا من أرمينيا أو من قارة إفريقيا أو من جزيرة سيلان، وأن الباحث فون كريمر اعتقد أن العرب هم بالأصل من بابل بدليل الجمل والزراعة إلا أن العالم الباحث فولدكر يرفض هذا الاعتقاد ويقول أن بابل حضاري ليس له علاقة بالصحراء.
لقد حدثت الهجرات العربية القديمة في التاريخ باتجاه الشمال بعدما تغير مناخ المنطقة في العصر الجليدي قبل أكثر من عشرة آلاف سنة مما سبّب الجفاف وحوّل معظم بلاد العرب إلى مناطق صحراوية قاحلة (1).
المعروف أن أولى الهجرات التي نزح فيها العرب إلى العراق القديم ومصر كانت قبل 3500 إلى 4000 سنه قبل الميلاد. أمّا الهجرات الثانية فكانت إلى الهلال الخصيب والمغرب العربي وقد حصلت حوالي 2500 ق. م.، ويبدو من خلال الدراسات التاريخية والأثرية المتعددة أنه نتيجة لهذه الهجرات حصل استقرار البداوة في تلك المناطق وظهرت مدنيات نتيجة التمازج الحضاري بعد هذا التحرّك السكاني، والظاهر أن العرب ظهروا أول مرة في مناطق نجد والعروض واليمن والحجاز، ويبدو أن ثمة صفات مشتركة تميز بها سكان هذه المناطق كاللغة المشتركة والعادات الاجتماعية وطرق المعيشة. هذا التشابه جعل الباحثين يعتقدون أن العرب منحدرون من أصل واحد سمّوه بالجنس السامي.
لكن المستشرق الفرنسي أرنست رينان يقول – أن العرب منحدرون من أصل واحد ويشتركون في لغة واحدة وبتركيب عقليتهم ونظرتهم الجزئية للأشياء وتأثرهم بالغيبيات وميلهم إلى البساطة في التفكير والوحدانية في الدين. لكنْ المؤرخون العرب لم يأخذوا بهذا الرأي كونه استعماري النزعة.
أمّا المناطق التي استقر فيها العرب بعد هجرتهم فكانت البادية الشمالية حيث نشأت مملكة تدمر والغساسنة. أما في مرتفعاتها فظهرت مملكة الأنباط، وفي الجنوب ظهرت ممالك اليمن والمعينين والسبئيين حوالي عام 1300 ق. م. (2).
لقد اختلط الأكديون أقدم القبائل المهاجرة إلى العراق القديم بالسومريين وكوّنوا شعب بابل الذي قدّم للحضارة الإنسانية الكثير من ميراثها الثقافي، ثم هاجر إليه الأشوريون في الألف الثالث قبل الميلاد (ق. م.) ثم تبعهم العموريون حتى وصلوا مدينة تيماء عندها تفرّقوا فقسم واصل السير ودخل وادي الرافدين وآخرون عرّجوا غربا ودخلوا وادي النيل. وفي الألف الثاني ق.م. هاجر الآراميون واستقرّوا في الفرات الأوسط لكن قسم منهم توقّف وسط الطريق واستقرّ في سهل البقاع. أما الكنعانيون فقد استقر قسم منهم في فلسطين بعد الهجرة والقسم الآخر سكن السواحل الشرقية للبحر المتوسط وسمّوا بالفينيقيين (3).
ينقسم أصل العرب إلى ثلاثة أقسام: العرب البائدة والعرب العاربة والعرب المستعربة، لكن ابن خلدون يضيف في مقدمته العرب المستعجمة.
أمّا العرب البائدة فكانت تضم سبعة قبائل:
1- قبائل عاد الذين سكنوا اليمن زمن نبي الله هود الذي جاء ذكره في القرآن في سورة الفجر " الم ترَ كيف فعل ربُّك بِعاد إرَمَ ذاتِ العِماد".
2- ثمود سكنوا الحجاز زمن نبي الله صالح.
3- طسم سكنوا عمان.
4- ثقيف سكنوا الطائف.
5- جاسم سكنوا مكة.
6- وبار سكنوا اليمن.
7- جديس سكنوا اليمامة ... يعتقد أن هذه القبائل هم من ذرية سام ابن نوح وقد انقرضت وتاريخها مجهول والمتتبعات في شأنها متضاربة.
أمّا العرب العاربة فهم عرب الجنوب ويدعون بالقحطانيين نسبة إلى يعرب بن قحطان ولغتهم لغة سامية قديمة جدا يعتقد أنها تطورت إلى اللغة العربية لاحقا (4).
وقد ساعد الموقع الجغرافي لعرب الجنوب على الاشتغال بالتجارة البحرية والبرية فكانت سفنهم تجوب بين بلاد السند ومصر وبابل (5).
أما الزراعة عندهم فكانت رائجة لكثرة الأنهار والسدود، وكان سدّ مأرب أشهرها (6).
أما ديانتهم فكانت وثنية وتمسّكوا بالثالوث – القمر ورمزه الحية والشمس ورمزها اللات والزهرة ورمزها العزى. وكان البابليون يعبدون الشمس ويدعونها شاماس، كما عبدوا إلهة الخصب ودعوها عشتار وكانوا يقيمون لها احتفالات سنوية أسوة بأسلافهم السومريين وأن آلهة بلدان الشرق الأوسط كانت متشابهة في الشكل مما يدل على أنها كانت مرتبطة بعلاقات تجارية مع بعضها (7).
لقد تسرّبت المبادئ المسيحية إلى عرب الجنوب حتى غدت نجران عاصمتها، وعندما اشتدّت المنافسة الدينية بين ممالكها قام الملك ذو نواس بحملة عسكرية على المدينة بعدما رفض أهلها طلبه في اعتناق اليهودية فأحرقها عن بكرة أبيها. وهنا يشير القرآن إلى هذا الحدث التاريخي " قُتِلَ أصحابُ الأخدود، النَّارِ ذاتِ الوقود، إذْ هُم عليها قُعود". هذا ما جاء في سورة (البروج). وكذلك في سورتي (القصص والأحقاف) نجد أصدق الشواهد وأصح المصادر في التاريخ العربي قبل الإسلام، ففيها أخبار العرب البائدة كعاد وثمود وملوك اليمن وأصحاب الفيل وأبرهم الحبشي والسيل العرم الذي دمر سدّ مأرب وكان أحد الأسباب في الهجرات العربية.
أمّا كتب الأحاديث والسيَر فقد نقلت لنا على امتداد قرنين من الزمن أخباراً تعتبر من المصادر الموثوقة عند العرب، ككتاب السيَر والمغازي ذات الصلة، وأخبار جرهم ودفن بئر زمزم وأخبار قصي ابن كلاب وسيرة ابن اسحق وابن هشام والتي لا يسع المجال لذكر تفاصيلها، وأن هناك كتبا أجنبية لسترابون اليوناني الزاخر بأخبار العرب القديمة وكتب وهب ابن منية اليهودي الذي عاصر الأحداث التاريخية والتي تعرف بالإسرائيليات، كما أن هناك مصادر يغرق الباحث في بحورها كالرحلات الاستكشافية للرحالة نيبور عام 1760 واستيزن عام 1810.
لقد انهارت تلك الممالك في أقل من مائة عام قبل ظهور الإسلام بفعل غزو الفرس لها عام 575 ميلادية (8).
كانت مملكة مجان في عمان - بضم العين- متحضّرة، فقد عاصرت العهد السومري في العراق، وتميّزت بحركاتها التجارية فكانت صادراتها تشمل النحاس والذهب والأحجار الكريمة والبخور والرخام الصلب الذي كان يدخل في صناعة نحت التماثيل للآلهة والملوك (9).
أمّا أخبار العرب المستعربة فكانوا يدعون بالعدنانيين وهم عرب الشمال وقد ورد ذكرهم في التوراة باسم الإسماعيليين.
كان لإبراهيم الخليل اثنا عشر حفيدا من ولده إسماعيل، انحدر منهم أربع قبائل ظهروا خلال القرن التاسع عشر قبل الميلاد. ويقال أنه أول من تكلم اللغة العربية بعد أن نزل إلى مكة (10).
لقد ظهرت هذه القبائل بدايةً في سهول تهامة ومنها انطلقوا إلى الشام والحجاز ونجد، كانت أشهرها قبيلة مضر التي استقرت في نجد بينما استقرت قبيلة تميم في بادية البصرة، وقبيلة ربيعة انحدرت منها قبيلة بني أسد، وقبيلة كنانة استقرت في الحجاز وانحدرت منها قبيلة قريش.
أما عن أصل كلمة العرب فيؤكّد فريق من المستشرقين أن لكلمة عرب صلة بكلمة عرابا العبرية التي تعني الفوضى. أما كلمة عارب فتعني تحرك وأن العرب استعملوا كلمة أعراب اقتباسا من القرآن.
ويقول المؤرخ نصر شمالي أن مصطلح العرب هو مرادف لتسمية عبير والذي يعني الرحيل أو المهاجر أو العابر.
بينما يقول المؤرخ الشهير جواد علي في موسوعته أن كلمة عرب جاءت من الإنابة والإفصاح عن الشيء، كان يقال للعربي أعرب لي أي بيّن لي كلامك ويقال أعرب الأعجمي أي أفصح وأبان، وكان نصارى الحيرة يسمّون العرب الخلّص بالمعربين لوضوح لسانهم، والعربية تعني تحريك أواخر الكلمة وأن أقدم لفظة لكلمة عرب وردت في النصوص الأشورية عام 853 ق. م. منقوشة على الصخر استعملها الملك الأشوري شلمنصر الثالث (11).
إن اسم العرب لم يظهر بشكل واضح إلا في القرن العاشر ق.م. حينما حدّدت هوية العرب بهدف التميز بين بلادهم وبين البلدان المجاورة كالفرس والأشوريين والبابليين، كما وردت لفظة العرب في الأسفار القديمة مثل سفر أشعيا في التوراة، وكان المقصود من اسم العرب معنى البدو لكن هيرودتس أطلق لفظة العرب على ساكني المناطق التي شملت الجزيرة العربية والصحراء الشرقية لمصر ومنطقة البحر الأحمر في القرن الخامس ق.م.
أمّا الآراميون فقد أطلقوا اسم عربايه ومعناها أرض العرب على القبائل التي سكنت في بادية الشام وفي بادية السماوة في العراق، ثم تلقفتها المصادر اليونانية والرومانية لتثبيت التسمية وأصبح مصطلح العرب هو الغالب عندهم لكن مع ذلك لم يحسم الخلاف في لفظة العرب إلا بعد أن جاء ذكرها في القرآن الكريم في سورة (الزخرف) "إنّا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون".
ومن هنا بدأ الشعور بالقومية العربية يظهر إلى جانب العقيدة الإسلامية ويتبلور مع تقادم الزمن.
أمّا عن أصل اللغة العربية فأقول - الثابت تاريخيا أن اللغة العربية مشتقة أصلا من اللغات السامية القديمة وخط هذه اللغة هو الخط المسماري المأخوذ من السومريين (12).
ويمكن القول أنّ اللغة البابلية منحدرة من اللغة المسمارية وأنّ بين لغة الأنباط والتدمريين والثموديين قرابة باللغة العربية وخواصها قريبة من لغة القرآن الكريم (13).
كان سكان شبه الجزيرة العربية يتكلمون قديما اللغات الآرامية والكنعانية والعبرية والحجازية والتدمرية لكن هذه اللغات اندثرت مع العرب البائدة واختفت في مجاهل التاريخ وأن اللغة السريانية منحدرة من الآرامية، هذه اللغة التي كان السيد المسيح عليه السلام يخاطب بها تلامذته (14).
لقد قيل أن اللغة العربية في أصلها عبرانية، لكن الخصائص اللغوية كجذور الأفعال وصيغ الماضي والحاضر المشتركة أظهرت الدليل على أن اللغة العربية أصيلة وأنها جمعت الساميين مع بعضهم وأن الانتشار الواسع والبيئات المتباينة التي نزحوا إليها سبّبت التنوع في اللهجات.
فاللغة العربية شملت الفصحى ولهجات أخرى نطقت بها قبائل الجنوب وهي اللغة التي فازت بالبقاء في حين أن أخواتها باتت في عالم النسيان (15).
لقد نهضت اللغة العربية بعدما كانت منزوية حتى أوائل القرن السادس الميلادي، فقد امتازت على العبرانية والآرامية في بعض الخصائص؛ فهي أشمل منها في المعاني وأوفر بالمعلومات وأوفى بالغرض، هذا الغنى الجليل الذي جعل اللغة العربية الفصحى متميّزة بروحها الوثابة حتى غدت رحيق الحضارة العربية الحديثة.
ففي خلال القرن السابع الميلادي انطلقت شعاعات هذه اللغة باتجاه الأمصار النائية ناشرة لهجاتها المتعددة في البلدان الممتدّة بين المحيط الهادي شرقاً إلى المحيط الأطلسي غربا.
في اعتقادي أن العرب المسلمين وهم في ذروة المجد لم تقم حضارتهم بمجرد فوزهم في الفتوحات الحربية إنما بفضل الفيض الوافر لقدرات اللغة العربية وغناها المعرفي في دفع شمس الثقافات إلى السطوع على بغداد زمن العباسيين وعلى القاهرة زمن الفاطميين وعلى قرطبة زمن الأندلسيين التي شهدت عصورا ذهبية في مضمار الرقي والازدهار شملت كل مجالات الحياة من عمرانية وعلمية وأدبية وفنية والتي ساهمت بدورها في دفع عجلة تطور ثقافة الإنسان إلى الأمام.
في منتصف القرن التاسع عشر عندما تمكّن العلماء من معرفة الكتابة المسمارية وفكّ رموزها استطاعوا أن يدرسوا اللغات الأكدية والبابلية والأشورية التي كتبت بهذا الخط وقارنوها بالعربية والعبرية والأثيوبية، وتبيّن أن كل هذه اللغات تتلاقى في جذور الأفعال فالفعل فيها مؤلف من ثلاثة أحرف مثل فعل وضرب وكذلك لا اختلاف في صيغ الصرف في جوهرها (16).
كما أن مخارج بعض الحروف كحرفي العين والحاء هي نفسها بالإضافة إلى تشابه الأسماء والضمائر والأعداد. وعلى هذا الأساس استنتج الباحثون أن لغات هذه الأمم ترجع إلى عنصر واحد أسموه بالعنصر السامي، كما أطلقوا على اللغات المتشابهة مصطلح اللغات السامية المتفرعة أصلا من منبع واحد أسموه لغة الأم.
من الواضح أن لفظة الجاهلية تعني الطيش ولا تعني الجهل. وقد وردت هذه اللفظة على لسان الشاعر الجاهلي عمرو بن كلثوم الذي عاش قبل الإسلام بمائة عام في قوله:
ألا لا يجهلن أحدٌ علينا --- فنجهلُ فوق جهل الجاهلينا. (17)
لكننا إذا فهمنا هذه اللفظة بالمعنى الديني عرفنا أن معناها الحقيقي هو غير ما نتصور، فالعصر السابق لظهور الإسلام سمّي بالجاهلية لأنه جهل هذا الدين مصداقا لما جاء في سورة (البقرة): "قالوا أتتّخذنا هُزُوا، قال أعوذُ باللهِ أن أكونَ مِنَ الجاهلين". (18)
أمّا بخصوص تحديد زمن الجاهلية فيمكن القول أنه بدأ بعد التاريخ الميلادي بحقبة زمنية معلومة.
والباحثون قسموا العهد الجاهلي إلى قسمين؛ جاهلية بعيدة وفيها عاشت القبائل العربية البائدة، كان عصرهم قبل الإسلام بحوالي 200 سنة، وأخرى قريبة ومنها وصلتنا أخبارهم عن طريق شعرهم وآثارهم.
أمّا سيكولوجية الإنسان الجاهلي فهي انعكاس لظروف بيئته التي نشأ فيها فالجغرافيا لها تأثير كبير على حياة الفرد من اعتدال المناخ وقسوته وهي التي تحدد سلوكه وتطوره (19).
كان العربي القديم متعلّقاً بالأرض، كافح من أجل البقاء وكان إحساسه بقسوة المناخ من سخونة الصحراء وانعدام المطر وشحّ الغذاء يتجلى في معاناته وتضحياته، فالجاهلي فارس جبار ومعاركه ضدَّ ظلم الطبيعة يصعب تصورها. وفي هذا السياق يقول الشاعر الجاهلي تميم ابن مقبل:
ما أطيب العيش لو أنَّ الفتى حجر --- تنبوا الحوادث عنه وهو ملموم. (20)
وقد فاضت نرجسية الجاهلي على ما حوله وحاول أن يستعلي على الظروف القاهرة بالفروسية كما عبّر عنها الشاعر الجاهلي عنترة بن شداد:
هلا سألتِ الخيلَ يا ابنة مالك --- إن كنت جاهلة بما لم تعلمي
يخبرك من شهد الوقيعة أنني --- أغشى الوغى وأعفو عن المغنم.
وإذا راجعنا سيرة عمرو بن كلثوم يتبيّن أن سلوك الجاهلي في حياته اليومية يشبه سلوك الأطفال، فهو يهتمّ بالحجم والكم دون المحتوى، وهو يوجز ولا يطيل، ولعلّ صفة البطولة لديه تفسير لواقعه المرير.
إن الجاهلي تبهره القوة ويؤخذ بها، كما يتوضّح في شعر عمرو بن كلثوم قوله:
أبا هندٍ فلا تعجلْ علينا --- وأنظرنا نخبرْكَ اليقينا
بأنّنا نورِدُ الراياتِ بيضا --- ونصدُرها حُمرا قد رَوينا.
هذه الأبيات الشعرية تذكّرنا بصراخ الأطفال عندما يتوعّدون ويتشنّجون ويغضبون، فالطفل يأخذ بالمبالغات ويعظّم الحوادث وذلك بفضل خياله الخصب ورغبته في تصعيد الذات بغية إشباع متطلباته المكبوتة، أن نفسية الجاهلي نفسية مضطربة تجمع فيها تناقضات البيئة، أنها نفسية الطفل في أولى تجلياتها، ومن خلال هذا يمكن القول أن شخصية الجاهلي هي أقرب للخير منها إلى الشر، أنّها الأنا التي تؤكّد نرجسيتها بوجه الزمن انتقاماً من المحيط الضاغط (21).
كانت قبائل البدو تنقسم جغرافياً إلى شمالية وهم العدنانيون وجنوبية وهم القحطانيون.
أمّا بخصوص الحياة الاجتماعية عندهم فكانوا ينقسمون إلى حضر وبدو، والحضري يختلف عن البدوي، فالأول استقرّ في بقعة توفّرت فيها أسباب المكوث فاستغلّ الأرض واشتغل في الزراعة ومارس الحرف وأنشأ المدن، والآخر ظلّ مرتحلا أبداً، ساعياً وراء الماء والكلأ، محتقراً طراز حياة الحضر، واعتمد في معيشته على ما تنتجه ماشيته فاغتزل ثيابه من صوفها وأكل لحمها وشرب لبنها وتدفّأ بروثها وجعل من جلدها بعض مسكنه.
وقد تمسّك الجاهلي بالقبيلة التي كانت تعني بالنسبة إليه القلب النابض للحياة الاجتماعية حيث كان يستمدّ كيانه من وجودها، فهي كانت لديه بمنزلة الوطن.
لم تكن العلاقات بين قبائل البدو دوما على ما يرام، فكانوا يتناحرون ويتحاربون تارة ويتحالفون ويتصاهرون تارة أخرى. ولعلّ العصبيات القبلية والتفاخر بالأنساب والاعتزاز بالألقاب جعلت علاقاتهم مع بعضهم البعض في أغلب الأحيان متوترة.
كان للأحلاف أهمية كبيرة بين القبائل، فكانت العشيرة الصغيرة تنضمّ إلى الكبيرة بغية كسب القوة منخرطة في كل ما لها وما عليها من حقوق وواجبات، تشاركها في الحروب وتحاكيها في التقاليد وحتى تعبد آلهتها. والتحالف يعني يمين العهد، فكانوا يغمسون أيديهم في الدم عندما يقسمون الولاء. وكان حلف المطيبين الذي انعقد في مكة بين قبائل بني مناف وبني تميم وبني أسد ضد قبيلة عبد الدار أشهر الأحلاف.
أمّا التشكيلة الإدارية للقبيلة فكانت تتكوّن من مجلس قيادة يضم شيوخ العشائر ويرأسه من يختارونه من المسنين، وظيفته إدارة شؤونهم وقيادة القبيلة في الحروب وتقسيم الغنائم وعقد الصلح ويحقّ للقبيلة أن تخلعه أو تقتله. وكانوا يطلقون عليه لقب السيد لكن بعد ظهور الإسلام اقتصر هذه اللقب على النبي الكريم وعلى ذريته من بعده (22).
كانت القبيلة ترعى أفرادها وتصونهم من الأذى، تذود عنهم وتنصرهم ظالمين أو مظلومين.
كانت الدماء تسيل لأتفه الأسباب كما جرى في حرب البسوس بين قبيلتين نصرانيتين تربطهما صلة قرابة دامت ثلاثين سنة حدثت بسبب سهم أصاب ضرع ناقة عن طريق الخطأ.
كان المجتمع الجاهلي يتكوّن من ثلاث طبقات، الأحرار وهم أبناء القبيلة الواحدة التي تربطهم صلة الدم والنسب والرحم، والثانية وهم الموالون الذين اعتنقتهم القبيلة بعدما كانوا أرقّاء، والثالثة وهم العبيد الذين أسِروا في الحروب(23).
أمّا بشأن الأخلاق العربية فأقول إنّ من أبرز صفات العربي في الصحراء صفة الكرم، فهي في نظره ضمن فضائل البادية. وكان حاتم الطائي قد اشتهر بالكرم وأصبح مضرب الأمثال حتى أنه كان يُخرج طعامه فإن وجد من يأكل معه أكل وإن لم يجد طرحه جانباً.
كما كان حبّ الضيافة عند العرب من الخصال الحميدة يعتزون بها، فكانوا يوقدون النار ليلا لمساعدة الضالّين في الصحراء بهدف الوصول إليهم فيطعمونهم حتى وإن كانوا أعداءهم. وفي هذا السياق يقول الشاعر عوف ابن الأحوص:
ومستنبحٌ يخشى العواءَ ودونَهُ --- من الليلِ بابُ ظُلمةٍ وستورها
رفعْتُ له ناري فلما اهتدى بها --- زجرْتُ كلابي أن يهرَّ عقورها. (24)
كان عرب الجاهلية يعتدّون بالوفاء اعتداداً عظيما، فالوعد عندهم خصلة صادقة مقدسة، ومن شيمهم العفو عند المقدرة. كما كانت صفة الشجاعة من الصفات العالية التي يتغنّون بها حيث كانت تثير في نفوسهم روح المبالغة المفرطة، كما جاء في الشعر الجاهلي لعمرو بن كلثوم قوله:
ملأنا البحرَ حتى ضاق عنا --- وماء البحر نملأه سفينا
وإذا بلغ الفطامَ لنا صبيٌّ --- تخرّ له الجبابرة ساجدينا .(25)
أمّا بخصوص المرأة قبل الإسلام، فقد كانت تحظى بمكانة اجتماعية مرموقة فكان لها حرّية اختيار الزوج. وهذا الامتياز كان مقصوراً على طبقة الأحرار ومشروطاً بحضور الوالد، وإذا أساء الزوج معاملتها تركته لكن إذا أسِر في الحروب واستشفع بها أعادت إليه حريته (26).
وقد رافقت النساء أزواجهن في غزواتهم فكنّ يشدُّن من عزائمهم بأناشيدهن ويندبن الفارس القتيل، كما كانت تحثّ الرجال على طلب الثأر، وأكثر ما كان يبغضها قبول عشيرتها بالدية. وكان الغزو المتتالي يؤدّي أحيانا إلى تقليل عدد الذكور مما كان يمهّد الطريق إلى تعدّد الزوجات (27).
والتأكيد على مكانة المرأة في الجاهلية هو افتتاح الشعراء قصائدهم بوصف محاسنهن في لبسها وحليها وطيوبها مثلما داعبوا عواطفها المتجلية بجمال النفس وحلو المحامد.
كانت المرأة قد ملكت الأموال ومارست التجارة لكنها كانت تأتي بالمرتبة الثانية بعد الرجل كونها كانت غير قادرة على خوض المعارك.
أمّا في مجال الخمرة فقد تغنى بها الجاهليون واعتبروها من مظاهر الترف. وقد جاء في شعر عمرو بن كلثوم قوله:
ألا هبّي بصحبك فأصبحينا --- ولا تبقي خمور الأندرينا
مشعشعة كأنَّ الحصى فيها --- إذا ما الماء خالطها سخينا
وكان الإدمان عليه يسبب لصاحبه الخلع من عشيرته.
بقيت مسألة الوأد: في الواقع كانت هذه الظاهرة نادرة الحدوث في زمن السلم لكن البعض كان يمارسها زمن الحرب اجتنابا للوقوع في أيدي الأعداء حيث أن الجاهلي كان يعتبر السبي طعنة في شرفه. وعندما جاء الإسلام حرّمها طبقا لسورة (التكوير) في القرآن الكريم "وإذا الموؤدةُ سُئِلَت. بأيِّ ذنبٍ قُتِلت".
أمّا عن حالة الغزو فقد دفعت ظروف الصحراء القاسية بالبدوي إلى الغزو وهو نوع من اللصوصية إذ كان يهاجم أفراد قبيلة قبيلة أخرى يسطون على أنعامها ويسبون نسائها ويستعبدون أولادها، لكن الثأر عند الجاهلي كان هو القانون الأكبر وفي مقام التقديس. وكان الرجل يحرّم على نفسه زوجته حتى يثأر، فإن قُتل لبّت القبيلة كلها نداء الدم وتبادلت بينهما الحروب حتى إذا استفحلت دفعت الدية وتوقفت، والفارس الذي يُقتل في المعارك يترك طريحاً في ساحة الوغى حتى تفترسه الوحوش. وهنا يقول الشاعر الشنفري:
لا تقبروني إن قبري محرّمٌ --- عليكم ولكن ابشروا أم عامر. (28)
أمّا أخبار الشعر والشعراء فنقول إن موهبة الشعر عند العرب كانت فطرية، وكان للشاعر الجاهلي مكانة محترمة فقد اعتبروه حامي الأعراض وحافظ الآثار وناقل الأخبار وزعموا أن مع كل شاعر شيطان. ويعتقد أن الشعر نشأ بداية في العصور البائدة من تعاويذ وابتهالات كانت ترفع للآلهة بغية تطمين الميت في قبره، كما تساعدهم للقضاء على خصومهم ونصرة أبطالهم. وكان عرب الجاهلية يستعملون الشعر لأغراض اجتماعية متعددة.
أمّا موضوع المعلّقات فهي أجود ما قاله عرب الجاهلية في الشعر، فقد اختاروا أفضلها وكتبوها بماء الذهب وعلّقوها على أستار الكعبة، وهذه بعضٌ منها.
يقول امرؤ القيس:
قفا نبكِ من ذكرى حبيب ومنزل --- بسقط الهوى بين الدخول فحومل.
ويقول عنترة ابن شداد:
هل غادر الشعراء من متردّم --- أم هل عرفت الدار بعد توهّم.
ويقول طرفه ابن العبد:
لخولة أطلال ببرقة تهمد --- تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد.
وفي الختام دعونا نمرّ على الأطلال ونقف على ديار الحبيب لنتأمل واقع حياة الإنسان المتميزة بالترحال الدائم. هذا الترحال كان في الغالب يترك وراءه آثارا تذكّر الجاهلي حضوره في هذا المكان في وقت مضى.
كانت الأطلال تتكوّن عادةً من حفرة الخيمة وبعض الأوتاد والحجارة الموقدة وقطع الحبال وروابط الإبل، ويحدث أن يمرّ جاهلي بهذه الأرض صدفة وقد كانت له فيها ذكريات حميمة مع إحدى نساء القبيلة فيهتزّ إحساسه ويستفيق خياله وتطغى عليه عاصفة الحنين، عندها تفيض عاطفته ويبدأ يقول الشعر على البديهة.
فهذا الشاعر خذام أحد هؤلاء العشاق يقول:
عوجا على الطلل المحيل فإننا --- نبكي الديار كما بكى ابن خذام.
لقد قادت ساعات الوقوف على الأطلال إلى التأمّل والتحليل، فمدلولها الاجتماعي يعكس ثقل التقاليد وصرامتها في البادية، أمّا مدلولها الفني فغالبا ما يثير مشاعر رجل الصحراء الشعرية بينما مدلولها النفسي يذكر العابر بجور الطبيعة فيجعله يفكر بواقعه وليس أمامه خيار آخر سوى استنهاض الذات في مواجهة الصعاب (29).
مركز الحوار العربي
مواقع النشر