الرباط - عبد الحليم لعريبي (دويتشه ﭭيله) : يرتفع عدد الأوربيين الوافدين على المغرب من أجل الاستقرار فيه بشكل دائم. وغالبا ما يختار هؤلاء العيش بمنازل عتيقة وسط أسوار المدن التاريخية، رغم أسعارها الغالية. فما هي الأسباب التي تدفع بهم للعيش في هذا المحيط المغربي؟
كلارا أستاذة فرنسية متقاعدة، 67 سنة، قضت سنة بمنزل وسط أسوار المدينة العتيقة بالعاصمة الرباط. تحكي كلارا عن دوافع هجرتها رفقة زوجها إلى المغرب للاستقرار فيه. وهي تتذكر رحلة سابقة لها قبل عقد من الزمن إلى بعض المدن القديمة بالمغرب، "حققت حلمي في العيش مرة ثانية بعد حصولي على التقاعد" تقول المتحدثة، وهي تعتبر أن اقتناء منزل بين المآثر التاريخية، كان بمثابة حلم ظل يراودها منذ عام 2005.
قبل استقرارها بالمغرب، ظلت كلارا على اتصال دائم مع وسيط عقاري بالرباط، فقد كانت تبحث عن منزل بخصوصيات تقليدية معينة لا تخرج عن فن المعمار الأندلسي القديم. اقتنعت الأستاذة المتقاعدة السنة الماضية بأوصاف بيت معروض للبيع بمبلغ مليون درهم مغربي" (حوالي 100ألف يورو)، ولم تتردد في السفر إلى الرباط لتوثيق عقد البيع.
مدخل منزل في أحد أزقة المدينة العتيقة بالرباط
إعجاب بفن المعمار الأندلسي المغربي
خرجت كلارا من منزلها في الصباح، وهي تسارع لحجز مكان لها داخل مقهى يطل على البحر لتناول وجبة فطور. وقبل وصولها إلى المقهى عانقت أطفالا صغارا كانوا يلعبون ببهو منزلها.
تحكي المتحدثة عن ذكرياتها الجميلة قبل سنوات مع أسوار المدينة العتيقة بالمغرب، ولازالت تتذكر رحلتها رفقة وفد سياحي إلى "رياض" بالمدينة العتيقة بالرباط. وانبهرت الأستاذة التي درست التاريخ الوسيط بفرنسا بجمال المعمار التقليدي الأندلسي، الذي بني قبل عشرة قرون، وتضيف "قمت ببيع شقة بفرنسا بهدف اقتناء منزل جديد بمنطقة الوداية الآثرية بالرباط، وأحسست أنني أعيش حياة ثانية".
ويرى عبدالجبار لحريشي مدير متحف دار الإبريز وسط المدينة العتيقة، أن هناك لدى الأوروبيين إقبالا في السنوات الأخيرة على السكن داخل أسوار المدن التاريخية. ويرجع لحريشي سبب ذلك إلى إدراك الأجانب الأوروبيين للقيمة الفنية والتاريخية للمنازل القديمة، وإلى ولعهم بالعيش فيها. واعتبر مدير المتحف أن الأوروبي، حينما يرغب في اقتناء منزل داخل أسوار المدن العتيقة، يكون ملما بتاريخ بنائها وبالملوك المغاربة وما تركوه من مآثر. لكن لحريشي يضيف أن الأوربي يدخل تعديلات على تلك المنازل بشكل يتلاءم مع ظروفه الصحية والنفسية، مع الاحتفاظ بفن المعمار التقليدي أو خصوصياته التي ميزت العصور المختلفة للملوك المتعاقبين على حكم المغرب.
وتؤكد كلارا ذلك ملاحظة " قبل اقتنائي للمنزل، كنت على اطلاع مسبق عن تاريخ الملوك الذين تعاقبوا على حكم المغرب والمدن التي بنوها"، وهي تعتبر أن المؤرخين تركوا ذاكرة جميلة بالرباط. واستنتجت المتحدثة أن فن المعمار الذي تمتاز به منازل المدن العتيقة لا يخرج عن سياق الأفكار الواردة في عدد من الكتب التي درستها في فرنسا.
عبدالجبار لحريشي مدير متحف دار الإبريز
إلى ذلك، أرجع مدير متحف دار الإبريز سبب ارتفاع عدد الراغبين في اقتناء المنازل القديمة الموجودة داخل المدن العتيقة، إلى رغبة بعض الأوربيين في تقليد حياة المؤرخين والروائيين الذين كانوا يعشقون العيش بالمدن القديمة. وكشف لحريشي أن الكتب التي تناولت التاريخ المغربي وعلاقاته بالدول الأوربية تمت ترجمتها إلى عدد من اللغات، مما سهل برأيه على المثقفين والباحثين اكتشاف ما يزخر به المغرب من مؤهلات آثرية.
هجرة عكسية من أروبا إلى المغرب
عند دخول المدن العتيقة يبدو للمشاهد مخالطة الأروبيين للمغاربة، حيث يجلس الناس من أجناس مختلفة جنبا إلى جنب في المطاعم والحدائق. ويعتقد الدكتور عبد الفتاح البلعمشي مدير المركز المغربي للدبلوماسية الموازية وحوار الحضارات أن السنوات الأخيرة شهدت هجرة عكسية من دول أروبية نحو مدن تاريخية مثل طنجة وتطوان وشفشاون شمال المغرب. ويلاحظ البلعمشي أن هذه التطورات الجديدة أحدثت هجرة من دول الشمال نحو الجنوب، في الوقت الذي يحلم فيه الشباب المغربي بالهجرة إلى أروبا. واستنادا إلى تقارير لوزارة السياحة المغربية يؤكد البلعمشي أن مدينة مراكش تعتبر من أكثر المدن السياحية المغربية التي تشهد ظاهرة توافد الأروبيين عليها للإستقرار فيها، ملاحظا أن المغاربة ينشطون أيضا في بيع منازل فاخرة وذات تاريخ عريق للأروبيين.
أحد أبواب المدينة العتيقة في الرباط
من جانبه يعتبر لحريشي أن توافدا الأروبيين الراغبين في اقتناء سكن داخل أسوار المدينة العتيقة كان ضعيفا في السنوات الماضية، غير أن الأمر يختلف الآن بسبب مخالطة الأجانب للمجتمع المغربي. ويشرح مدير المتحف أن مواقف الترحيب ساهمت في ارتفاع عدد الأوروبيين بالمغرب وفي تشجيع الوافدين على الاستقرار بالمدن العتيقة.
ويلاحظ مدير المتحف وجود تهافت كبير لدى المغاربة لبيع منازلهم إلى الأروبيين، حيث يعلمون أن "الأوروبي الذي يعرف القيمة الفنية والجمالية للمنزل التاريخي سيشتريه، حتى ولو كان ثمنه باهضا".
مواقع النشر