يثرب والمعينيون

يرجّح الباحثون أن يثرب قد خضعت للمملكة المعينية وأصبحت واحدة من مناطق نفوذها، وتعد المملكة المعينية من أقدم الممالك العربية الجنوبية التي وصلتنا بعض أخبارها عن طريق المكتشفات الأثرية. ظهرت في شمالي اليمن وازدهرت وامتد نفوذها في الفترة ما بين 1300 ـ 630 قبل الميلاد، وقد ذكرها بعض الجغرافيين الغربيين، مثل (تيودورس) الصقلي (وسترابون) الروماني، أما المؤرخون والجغرافيون العرب فلم تصلهم أخبارها. يقول عنها ياقوت الحموي معين: اسم حصن باليمن ... ومدينة باليمن تذكر في براقش ... قال عمرو بن معد يكرب:
يـنــادي مــن بـراقــش أو مـعين فأسـمع واتـلأب بنا مـليع
وتدل الآثار المكتشفة أن المملكة المعينية كان لها صلات وثيقة مع جاراتها تحولت إلى نفوذ وسيطرة، فامتدت سلطتها من جنوبي اليمن إلى الحجاز وحتى فلسطين.
وقد وجد المنقبون كتابات معينية تذكر أن يثرب ومؤان، وعمون، وغزة كانت جزءاً من المملكة المعينية وأرضاً خاضعة لها، وأن ملوك معين كانوا يعينون حكاماً عليها باسمهم ويلقب الحاكم (كبر) أي كبير، ويتولى الحكم باسم الملك، ويجمع الضرائب ويحافظ على الأمن. وهذا يعني أن المعينيين سيطروا على يثرب في فترة تمدد مملكتهم، أي منذ الألف قبل الميلاد، وعينوا عليها حاكماً من أهلها ـ كما كانوا يفعلون في مناطق نفوذهم الأخرى ـ لتأمين طريق تجارتهم البرية، ولم تكن سلطتهم على المدينة تتعدى الضريبة السنوية المفروضة عليهم، فضلاً عن حماية قوافلهم، ولا نجد في الكتابات القليلة عن معين أي ذكر لحروب خاضوها مع أهل يثرب، ولا أحداثاً متميزة. وجل ما نجده إشارات تبين أن سيطرتهم كانت على الحجاز بأكمله.
ونظراً لضعف هذه السيطرة ظل المجتمع اليثربي مجتمعاً زراعياً ورعوياً في الغالب، ولم يشهد أية تغييرات كبيرة، اللهم إلا المزيد من الاستقرار والانتعاش والفوائد التي تأتي بها قوافل التجارة العابرة.

يثرب في عهد مملكة سبأ

ظهرت مملكة سبأ في عهد الدولة المعينية في اليمن، ثم قوي السبئيون واستولوا على معين وورثوا نفوذها وامتد سلطانهم إلى يثرب أيضاً. وكان يشبه نفوذ المعينيين فلا يتعدى تعيين حاكم على يثرب ـ من أهلها غالباً ـ وحماية قوافل التجارة العابرة .. لذلك لا نجد تغييرات في حياة أهل يثرب، فقد ظلوا مشغولين بزراعتهم وتربية مواشيهم، واشتغل بعضهم بتأمين لوازم القوافل التجارية العابرة واستفادوا من التجارة معها.
عاصرت مملكة سبأ حكم سليمان بن داود عليه السلام والتقت ملكتها به وآمنت بما يدعو إليه كما تبين الآية الكريمة (... وأسلمتُ مع سليمان لله رب العالمين ... سورة النمل الآية44).
وقد عمّرت مملكة سبأ كما أخبرنا القرآن الكريم إلى أن وقع سيل العرم، حيث ضعفت وانهارت وخرج منها ـ قبل السيل بقليل ـ قبائل الأوس والخزرج الذين استوطنوا يثرب كما سنرى في فقرة تالية

يثرب والكلدانيون

ظهرت الدولة الكلدانية في العراق وكانت عاصمتها بابل، وقد ازدهرت ومدت نفوذها إلى مناطق واسعة في القرن السابع قبل الميلاد ووصلت في فترة من الوقت إلى الحجاز.
وقد عثر في خرائب مسجد حـّران الكبير على نقش يتحدث عن أعمال الملك الكلداني (نبونيد)، وفيها أنه خرج إلى شمالي الجزيرة العربية واستولى على تيماء واستقر بها، ثم استولى على المدن المجاورة وضمها إليه، وهي: ددانو (مدينة قديمة معروفة ذكرتها الأسفار العبرانية)، وبداكوا (فدك)، وخبرا (خيبر)، واتريبوا (يثرب)، وظلت خاضعة لحكم هذا الملك عشر سنوات. ونبونيد هو آخر ملوك الدولة البابلية الكلدانية، حكم لمدة 16سنة (من سنة 556 ـ 539ق.م) قضى عشر سنوات منها في شمالي الجزيرة العربية تاركاً عاصمته بابل تحت حكم ابنه (بلشازار)، ثم عاد إلى بابل ليدهمهم الملك الفارسي قورش سنة 539 ق م وينهي دولتهم ويجعلها ولاية تابعة لأمبراطوريته.
وقد صالح أهل يثرب الملك نبونيد ودخلوا في طاعته سلماً بعد أن ضعف سلطان الدولة السبئية ودفعوا الضرائب التي كان يجبيها السبئيون منهم إليه.
أحضر نبونيد معه بعض القبائل الكلدانية والأسرى اليهود إلى المنطقة، وأسكنهم فيها وأعطاهم بعض الأملاك التي نزعها من أصحابها العرب وحماهم بقطعات من جيشه، وكان يخطط لإلحاق المنطقة كلها بمملكته. ولكن الخطة لم تنجح ومات مشروعه مع عودته إلى بابل. غير أن أكثر المستوطنين الجدد بقوا في المنطقة وامتزجوا مع أهلها، ويستدل الدكتور جواد علي على ذلك بوجود بعض الألفاظ الكلدانية في لغة أهل يثرب والمناطق الأخرى التي تقع إلى الشمال منها وخاصة في الزراعة.