النقرس.. داء لم يعد مقتصرا على الأثرياء
انتشاره ازداد ثلاثة أضعاف خلال العقود الماضية



[align=justify]واشنطن: آرثر ألين - عندما كتب الشاعر والطبيب البريطاني ريتشارد بلاكمور عن النقرس عام 1726، وصفه بأنه «نكبة العظماء والأثرياء وميسوري الحال». وكان يعرف أن هذا الداء يقتصر على الشريحة العليا من المجتمع: إذ من سواهم يستطيع تناول اللحوم الحمراء المشوية ولحم الطرائد يوميا بعد غمرها في مواد لنقعها؟ وكانت اللوحات الفنية توضح السمات الدالة على مكانة المرء الاجتماعية الراقية من خلال تصويره ممدا على أريكة ورجلاه الملفوفة بالضمادات واللتان تؤلمانه موضوعة على مقعد بلا ظهر.
داء الجميع

* لكن في أميركا، لا ينبغي لك أن تتمتع بمكانة اجتماعية رفيعة حتى تعيش في رخاء، فالجميع بدءا من عمال المصانع إلى الموظفين معرضون للإصابة بداء النقرس. وقد أوضحت أحدث الدراسات زيادة معدل انتشار المرض بمقدار ثلاثة أمثال منذ نهاية السبعينات، حيث يعاني نحو 80 في المائة من الأميركيين من هذا الداء. وتزداد نسبة الإصابة به بين النساء، وهو ما يخالف الاعتقاد السائد.

وترجع زيادة انتشار المرض إلى تغير نمط الحياة، فنحن نعيش في «ظروف سهلة» بمعنى أن أكثرنا يستطيع شراء بروتين حيواني ومشروبات غازية. ويعاني ثلث البالغين الأميركيين تقريبا من السمنة التي تمثل عاملا من عوامل الإصابة بمرض النقرس على حد قول غاري كورهان، اختصاصي الأمراض الوبائية بجامعة هارفارد. وقد أوضح عمله مع هايون تشوي، اختصاصي الأمراض الروماتيزمية، أن تناول مشروبين غازيين أو أكثر من المشروبات المحتوية على عصير الذرة الذي يحتوي على نسبة عالية من الفركتوز يعرض لخطر الإصابة بمرض النقرس.

ومن المفارقة أن يكون ارتفاع متوسط العمر أحد الأسباب الأخرى لمرض النقرس، فبعض العقاقير التي تبقي على حياة الأميركيين رغم إصابتهم بارتفاع ضغط الدم والكلى وما غير ذلك من الأمراض مثل «ناياسين» (فيتامين بي - 3) و«ثيازيد»، ومدرّات البول مثل هيدروكلوروثيازايد والفورسيميد (لازيكس) التي اتضح أنها تزيد مستوى حمض اليوريك في الدم. ويمكن لزيادة حمض اليوريك أن تؤدي إلى الإصابة بمرض النقرس.

ويقول روبرت تيركيلاتوب، رئيس الأمراض الروماتيزمية بقسم الأطباء البيطريين في المركز الطبي بسان دييغو: «كلما طالت مدة تناول العقاقير المدرّة للبول والأنواع الأخرى من الأدوية، زادت نسبة حمض اليوريك في الدم بما يؤدي إلى زيادة احتمالات الإصابة بمرض النقرس».

ومن العوامل الأخرى تزايد اهتمام صناعة الأدوية بالمرض مع تزايد حالات الإصابة به. فمع توفير شركات الأدوية لعقاقير جديدة يتزايد وعي الناس بالمرض وأعراضه على حد قول بيشينس وايت، أستاذ بكلية الطب بجامعة جورج واشنطن ونائب رئيس مؤسسة التهاب المفاصل.

حمض اليوريك

* يعد مرض النقرس مرضين بوجه من الأوجه: الأول هو ارتفاع نسبة حمض اليوريك في الدم الذي يحدث عندما لا يقوم الجسم بتكسير البورينات purines وهي وحدات الحمض النووي التي توجد بكثرة في أنواع معينة من اللحوم والمحار والبيرة. وتحدد سرعة تحلل البورينات وسرعة التخلص من حمض اليوريك خارج الجسم عن طريق الكلى، مستوى حمض اليوريك في الدم. وتختلف هذه العوامل حسب العوامل الوراثية والعقاقير التي نتناولها لعلاج حالات مثل ارتفاع ضغط الدم والسكري وأمراض الكلى.

عندما تتشبع أنسجة بعينها بالحمض، تتشكل أجسام بلورية مثل نوع من السكر لا يذوب تماما في الشاي! ويعتمد التبلور على درجة الحرارة وهو ما يفسر سبب حدوث أكثر من نصف مراحل النقرس الأولى في مفصل إبهام القدم، حيث تقل درجة حرارة أقدامنا عن باقي أجزاء الجسم بمقدار خمس درجات وإصبع إبهام القدم على وجه الخصوص تكون أكثر برودة لأنها أكثر بروزا. كذلك يشير تيركيلاتوب إلى أن هذا المفصل يكون أكثر عرضة لتكون بلورات اليوريات بسبب الضغط الواقع عليه من المشي.

النقرس

* ويستجيب جهاز المناعة لتكون بلورات النقرس في المفاصل ويسمى هذا الالتهاب بالتهاب المفاصل وهو ما يجعل مرض النقرس مؤلما. وفي المراحل المتقدمة من مرض النقرس تتكون البلورات على هيئة كتل بيضاء طبشورية تسمى حصى في كل مكان بالجسم بدءا من أصابع القدم ومفاصل المرفق وصولا إلى أصابع اليد والرسغ والأذن.

ليس كل من يسرف في الشرب والأكل يصاب بمرض النقرس، لكننا نشفق على الذين يفعلون ذلك. ومن بين العظماء الذين أصيبوا بهذا الداء آكلو للحوم الحمراء مثل تشارلز داروين وتوماس جيفرسون وإسحاق نيوتن وهنري الثامن.

ومنذ سنوات قليلة، أخذ علماء التاريخ البشري المستحاثي عينة من خنصر الإمبراطور الروماني تشارلز الخامس الذي كان يعرف عنه إصابته بمرض النقرس وتم الاحتفاظ بها في أحد الأديرة بإسبانيا. واكتشفوا أن إصبعه مليئة ببلورات من اليوريا متآكلة ذات نتوءات متجمعة على شكل حصى في عظامه التي تعود إلى القرن السادس عشر. مسكين تاشرلز، فمملكته كانت ممتدة من الأميركتين إلى المحيط الهندي، لكنه لم يكن يستطع أن يمتطي حصانا! ووصف بلاكمور في كتابه الذي صدر عام 1726 الذين يعانون من مرض النقرس بأنهم «ذوو بشرة زهرية قوية». وبحسب جون فيلدينغ، وهو من أصحاب متجر بقالة «برود برانش ماركت» البالغ من العمر 37 عاما، قد يفسر هذا تهديد المرض لصناعة الأغذية التي تتسبب في الإصابة بمرض النقرس. ويقول فيلدينغ الذي ظهرت عليه أعراض المرض لأول مرة عندما كان في الثلاثين من العمر: «كل طاه يعاني من زيادة في الوزن مصاب بمرض النقرس. لقد تناولت صينية كبيرة من كبد الدجاج وشربت عددا كبيرا من زجاجات البيرة. واستيقظت في منتصف الليل إثر شعور بحرقة في إبهام قدمي اليسرى. وكانت الملاءة تبدو مثل ملاءة من حديد تضغط على قدمي».

لقد كان جدّ فيلدينغ لأمه مصابا بالمرض نفسه الذي يمكن أن يتوارثه أفراد العائلة. وأضاف فيلدينغ الملتحي والذي يخفي 40 رطلا (الرطل يساوي 453 غراما تقريبا) إضافيا كان يتمنى لو لم يكن يحملها: «إنه لهذا السبب فإن المرض مرتبط بالمتعة». وقالت تريسي ستانارد شريكة فيلدينغ في العمل: «هذا هو أنت، شخص منغمس في الملذات».

لكن لا يصح هذا الوصف في كل الأحوال، فبعض المصابين بمرض النقرس تكون أجسامهم متوسطة الحجم. وفي الوقت الذي لا يشيع هذا المرض بين السيدات قبل سن انقطاع الطمث نظرا للحماية التي يوفرها لهم هرمون الأستروجين، ينتشر المرض بين السيدات من كبار السن. ويقول وايت من مؤسسة التهاب المفاصل: «إنك ترى سيدات تجاوزن الخمسين مصابات بمرض النقرس وتزداد النسبة بين السيدات اللاتي تجاوزن الثمانين مقارنة بالرجال لأن السيدات يعشن في الغالب مدة أطول من الرجال».

عقاقير قديمة وجديدة

* أصيبت جيرالدين وايت، موظفة فيدرالية متقاعدة تبلغ من العمر 67 عاما وتعيش في بالتيمور، بمرض النقرس عام 2005 بسبب مرض في الكلى نتج عن علاج لمرض الذئبة. ظلت جيرالدين تعاني لمدة ثلاث سنوات من آلام في أصابع قدميها ويديها ومعصميها وركبتيها.

وفي الواقع فإن عقاقير معالجة النقرس قديمة قدم المرض نفسه. وعُرف أحد تلك العقاقير وهو مسكن مستخرج من الزعفران يسمى «كولشيسين» في القرن الثامن عشر حتى أن بن فرانكلين، الذي كان مصابا بمرض النقرس، كتب عنه أطروحة كاملة. لكن «كولشيسين» colchicine لا يعالج المشكلة الرئيسية. وكانت جيرالدين تعاني حساسية من أكثر العقاقير المعالجة لحمض اليوريك وهو «ألوبيورينول» allopurinol. لكن عام 2006 اشتركت في تجربة على عقار جديد يسمى «بيغلوتيكاس» pegloticase (كريستيكسا Krystexxa) الذي يحفز انحلال حمض اليوريك.

وفي غضون ستة أشهر من بداية العلاج ذابت البلورات المتكونة في يدي ورجلي جيرالدين وأصبحت قادرة على العودة إلى حياتها الطبيعية. لكن يُنصح بتناول عقار «بيغلوتيكاس» إلا في 3 في المائة فقط من حالات الإصابة بالمرض. وثمن العقار باهظ وله أعراض جانبية وليس فعّالا في كثير من الأحيان. لكن ربما يفيد في حالات بعض المرضى الذين لا يستطيعون تناول الألوبيورينول أو العقاقير الشراب الأخرى المستخدمة في علاج حمض اليوريك.

منذ توقف جيرالدين عن تناول عقار «بيغلوتيكاس» ظلت نسبة حمض اليوريك في الدم طبيعية من خلال تناول عقار جديد هو «فيبوكسوستات»febuxostat (ألوريك Uloric). وذُهل هيربرت باراف، طبيب الأمراض الروماتيزمية المعالج لها والمقيم في ويتون، من النتائج التي حققها عقار «بيغلوتيكاس» وزاد عدد المشتركين في تجربة العقار. وقال: «عادة ما يستغرق التخلص من بلورات اليوريات من خمس إلى ست سنوات، لكنه لم يستغرق في حالتها سوى بضعة أشهر».

وهناك عقار آخر في السوق يسمى «كولكريس» Colcrys وهو تركيبة معدلة من «الكولشيسين». لكن يصل ثمن القرص منه إلى 8 دولارات في حين أن ثمن القرص من العقاقير التي تشبهه ولم تعد متوفرة في السوق 6 سنتات فقط. وعادة ما يثير ارتفاع سعر عقار «كولشيسين» قلق بعض مرضى النقرس الذين لا يتمتعون بتأمين صحي بحسب واين غرودي، عالم أمراض وراثية في لوس أنجلوس.

خفض الوزن

* وأدى توفر العقاقير الجديدة وصعوبة اتباع نظام غذائي إلى تغيير الوصفات الطبية التي يعطيها الأطباء لمرضى النقرس. ويقول باراف: «عمليا، لن يكون اتباع نظام غذائي، علاجا ناجعا إلا إذا تم فقدان الوزن بشكل كبير. يتبع البعض نظام غذائي محدد لعلاج النقرس». ويقول باراف أستاذ الطب بجامعة جورج واشنطن لمرضاه الذين تم السيطرة على مستوى حمض اليوريك في دمائهم من خلال تناول العقاقير إنهم يستطيعون تناول ما يريدونه من الأطعمة ما دامت خالية من الكحول. ويقول باراف: «هل تحب السلطعون ومستوى حمض اليوريك في الدم طبيعي؟». وأضاف أن فقدان الوزن طريقة جيدة لعلاج حالات مختلفة، لكن النظام الغذائي القائم على تناول كمية محدودة من البورينات ليس ضروريا لعلاج النقرس.

وتصح كلمات بلاكمور عن الوقاية من مرض النقرس، حيث يقول إن «الاعتدال في الأكل والحد من تناول المشروبات الروحية القوية وممارسة التمرينات الرياضية والحد من الانغماس في الملذات من الوسائل التي تقي من شر هذا المرض».

* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»[/align]