جدة، عبد السلام (درة) نعيش اليوم في عالم يموج بالدعوات البراقة والمبادئ الخادعة ما بين سياسية وقومية ووطنية واقتصادية وعسكرية وسلمية. هذا علي المستوي العالمي. وأما علي المستوي المحلي للمجتمعات الإسلامية. فعلي الرغم من الصحوة الدينية المرئية والمشاهدة بين الشباب خاصة والكبار عامة إلا أننا نلاحظ ما يكدرها ويضعفها ألا وهو الخلافات المذهبية في الأمور الخلافية. فهذا سلفي وهذا خلفي.



وهذه جمعية أنصار سنة وتلك جمعية دعوة الحق وأخري جمعية شرعية ولو التزمنا بأدب الحوار الذي أرساه القرآن الكريم في قوله تعالي: "ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ.." آية 125 من سورة النحل، وقوله تعالي: "وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ" آية 33 من سورة فصلت - لزال الخلاف.

ولقد كانت حياة الأنبياء والمرسلين -عليهم الصلاة والسلام- تطبيقاً عملياً لهذا الحوار القرآني:



1- فهذا إبراهيم الخليل -عليه السلام- كان حريصاً علي هداية أبيه ونصحه بالإقلاع عما هو فيه من كفر وضلال فخاطبه بكل لطف وأدب قائلاً كما حكت الآيات من 42 إلي 45 من سورة مريم.
يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً.
يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطاً سويا.
يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا.
يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا
.



فهذه النصائح الأربعة التي قدمها إبراهيم -عليه السلام- إلي أبيه مصدرة بهذا النداء -يا أبت- الذي يدل علي التوسل والاستعطاف. والاعتراف بالأبوة.

وبالرغم من التزام إبراهيم -عليه السلام- الأدب مع أبيه في التخاطب مراعاة لجانب الأبوة إلا أن أباه رد عليه بالتهديد بالرجم إن هو استمر علي الطعن في الآلهة والنصح له فقال: ".. لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ ۖ وَٱهْجُرْنِى مَلِيًّا..." آية رقم 46 من نفس السورة. فلم يبادل إبراهيم -عليه السلام- أباه غلظة بغلظة بل قابل السيئة بالحسنة فقال له: "سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا" آية رقم 47 من نفس السورة.

2- وأمر الله تعالي موسي وهارون -عليهما السلام- أن يقولا لفرعون قولاً لينا لعله يتذكر أو يخشي مع أنه طاغية عنيد قال تعالي:
"اذْهَبَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ ۞ فَقُولَا لَهُۥ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُۥ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ" الآيتان 43 و44 من سورة طه.

ولذا وعظ أحد الواعظين الخليفة هارون الرشيد فأغلظ له في الكلام فقال له هارون الرشيد: يا أخي أرفق بنا فقد أمر الله تعالي من هو خير منك حين أرسله إلي من هو شر مني أن يقول له قولاً لينا.

3- الرسول محمد -صلي الله عليه وسلم- كان يعلم يقيناً أنه علي الحق المبين وعلي الهدي الكامل وأن أعداءه من كفار مكة علي ضلال وباطل إلا أن الله تعالي علمه أن يخاطب فيهم العقول والقلوب ولا يصدمهم بحقيقة كفرهم وعنادهم استمالة لقلوبهم إلى الدين الجديد الذي دعاهم إليه وأملاً في أن ترق له قلوبهم. ويصور الله تعالي لنا هذا الحوار في قوله تعالي:
"قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ ۖ قُلِ ٱللَّهُ ۖ وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِى ضَلَٰلٍۢ مُّبِينٍۢ ۞ قُل لَّا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ ۞ قُلۡ يَجۡمَعُ بَيۡنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفۡتَحُ بَيۡنَنَا بِٱلۡحَقِّ وَهُوَ ٱلۡفَتَّاحُ ٱلۡعَلِيمُ" الآيات من 24 إلي 26 من سورة سبأ.

4- ضرب الرسول -صلي الله عليه وسلم- أروع المثل في أدب الحوار حينما جاءه شاب يطلب منه أن يرخص له في الزنا روي أبو أمامه -رضي الله عنه- أن فتي من الأنصار أتي النبي -صلي الله عليه وسلم- فقال يا رسول الله أئذن لي بالزنا فأقبل القوم عليه فزجروه فقال النبي -صلي الله عليه وسلم- قربوه وقال للشاب ادن فدنا منه فقال له: أتحبه لأمك؟ قال: لا والله -جعلني الله فداءك- يا رسول الله. قال: ولا الناس يحبونه لأماتهم. قال: أفتحبه لابنتك؟ قال: لا والله -جعلني الله فداءك- يا رسول الله قال: ولا الناس يحبونه لبناتهم قال: أفتحبه لأختك؟ قال: لا -جعلني الله فداءك- يا رسول الله قال: ولا الناس يحبونه لأخواتهم. قال: أفتحبه لعمتك؟ قال: لا -جعلني الله فداءك- يا رسول الله قال: ولا الناس يحبونه لعماتهم. قال: أفتحبه لخالتك؟ قال: لا -جعلني الله فداءك- يا رسول الله قال: ولا الناس يحبونه لخالاتهم. قال: فوضع يده علي صدره وقال: اللهم طهر قلبه وأغفر ذنبه. وحصن فرجه. فلم يكن شيء بعد ذلك أبغض إليه من الزنا. رواه أحمد في مسنده.

فهذا أدب الحوار كما هو في القرآن الكريم وكما طبقه رسُــل الله -صلوات الله وسلامه عليهم-.