الأول -


عن ابن عبـاس رضي الله عنهما، قال : حدثني على بن أبى طالب رضي الله عنه، قال : لما أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يعرض نفسه على قبائل العرب، خرج وأنا معه وأبو بكر الصديق رضي الله عنه، حتى دفعنا إلى مجلس من مجالس العرب.. – إلى أن قال -: ثم دفعنا إلى مجلس آخر، عليهم السكينة والوقار، فتقدم أبو بكر، وكان مقدماً في كل خير، فسلم وقال :

ممن القوم ؟

فقالوا : من شيبان بن ثعلبة.



فالتفت أبو بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : بأبي أنت وأمى يا رسول الله ما وراء هذا القوم غرّ، هؤلاء غرر قومهم، وفيهم مفروق بن عمرو، وهانئ بن قبيصة، والمثنى بن حارثة، والنعمان بن شريك. وكان مفروق بن عمرو قد غلبهم جمالاً ولساناً، وكان له غديرتان ( ) تسقطان على تربته، وكان أدنى القوم مجلساً من أبى بكر.



فقال أبو بكر : كيف العدد فيكم ؟

فقال مفروق : إنا لنـزيد على ألف، ولن يغلب ألف من قلة.

فقال أبو بكر : وكيف المنعة فيكم ؟

قال مفروق : علينا الجهد، ولكل قوم جد.

قال أبو بكر : كيف الحرب بينكم وبين عدوكم ؟

قال مفروق : إنا لأشد ما نكون غضباً حين نلقى، وإنا لأشد ما نكون لقاء حين نغضب، وإنا لنؤثر الجياد على الأولاد، والسلاح على اللقاح، والنصر من عند الله، يديلنا مرة، ويديل علينا أخرى.
لعلك أخو قريش ؟

قال أبو بكر : وقد بلغكم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فها هو ذا.

قال مفروق : قد بلغنا أنه يذكر ذلك. قال :
فإلى ما تدعو يا أخا قريش ؟

قال صلى الله عليه وسلم:
» أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأنَّي رسول الله، وأن تؤونى وتنصروني، فإن قريشاً قد تظاهرت على أمر الله، فكذبت رسله، واستغنت بالباطل عن الحق، والله هو الغني الحميد«.

فقال مفروق بن عمرو :
إلى ما تدعونا يا أخا قريش ؟

فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم:
{ قل تعالوا أتلُ ما حرم ربكم عليكم ألا تُشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون } ( ).

قال مفروق :
وإلى ما تدعو يا أخا قريش ؟

فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم:
{ إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون } ( ).

فقال مفروق : دعوت والله يا أخا قريش إلى مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال. وكأنه أحب أن يَشركه في الكلام هانئ بن قبيصة. فقال: وهذا هانئ بن قبيصة، شيخنا، وصاحب ديننا.

فقال : قد سمعت مقالتك يا أخا قريش، وإني أرى إن تركنا ديننا واتبعناك على دينك لمجلس جلسته إلينا ؛ زلة في الرأي، وقلة فكر في العواقب، وإنما تكون الزلة مع العجلة، ومن ورائنا قوم نكره أن نعقد عليهم عقداً، ولكن ترجع ونرجع، وتنظر وننظر. وكأنه أحب أن يشركه في الكلام المثنى بن حارثة. فقال : وهذا المثنى بن حارثة، شيخنا، وصاحب حربنا.

فقال المثنى : قد سمعت مقالتك يا أخا قريش، والجواب هو جواب هانئ بن قبيصة في تركنا ديننا، واتباعنا إياك على دينك، وإنما أنزلنا بين ضرتين.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
» ما هاتان الضرتان ؟ «.

قال : أنهار كسرى، ومياه العرب، وإنما نزلنا على عهد أخذه علينا كسرى، لا نحدث حدثاً، ولا نؤوي محدثاً، وإني أرى هذا الأمر الذي تدعو إليه، مما تكرهه الملوك، فان أحببت أن نؤويك وننصرك مما يلي مياه العرب، فعلنا.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
» ما أسأتم في الرد إذ أفصحتم بالصدق، وإن دين الله لن ينصره إلا من أحاطه الله من جميع جوانبه. أرأيتم إن لم تلبثوا إلا قليلاً حتى يورثكم الله أرضهم وديارهم وأموالهم ويفرشكم نساءهم، أتسبحون الله وتقدسونه ؟ «.

فقال النعمان بن شريك : اللهم نعم.

قال فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم:
{ إنَّا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً * وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً } ( ).
ثم نهض رسول الله صلى الله عليه وسلم، قابضاً على يد أبي بكر وهو يقول :
» يا أبا بكر أية أخلاق في الجاهلية، ما أشرفها، بها يدفع الله بأس بعضهم عن بعض « ( ).

فرسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه القصة يدعو هذا الوفد الذي قدم للحج، قبل الهجرة للمدينة، بتلاوة آيات من القرآن عليهم، بل إنه يجيب على أسئلتهم بذكر الآيات التي فيها الجواب عما سألوا، فلذا كان الأثر فيهم واضحاً عندما قال مفروق بن عمرو : دعوت والله يا أخا قريش إلى مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال.



يتبع



*************