تلك النزلة المهجورة الصغيرة القابعة في ممرٍّ بين جبلين رماديين يُعانقان السحاب، والتي تسقط عليها شمس الظهيرة، فتُضيء سكونها كما تُضيء وجهَ نائمٍ بكهفٍ بعيد، كان يسكنها إلى منتصف الخمسينيات من القرن العشرين جماعةٌ من عمَّال الحفائر الأثرية البلديين وعوائلهم، إلى أن انتهَت آخر البعثات العلمية التنقيبية الأوروبية في المنطقة الأثرية القريبة من هذه النزلة، التي عاش فيها هؤلاء ثلاثين عامًا، وتحرَّكت عَربات الدفع الرباعي تُقلُّ العلماء الغربيين إلى القاهرة وصورَهم وخرائطَهم، ومن خلفهم سيارة مصفحة شَحنوا فيها النفائس الأثرية، آخر ما استخرجوه من هذه الناحية، وبعد ذلك بشهرٍ تحرَّكت في الظلام الحالك قافلةٌ من العربات الهالكة والأنعام العِجاف، تحمل أهل النزلة إلى بلدهم الفقير بالجنوب، بعد أن ودَّعوا ذكرياتهم ومَرابع طفولتهم.
في النزلة المهجورة كان العجوز الذي خلَّفته القافلة غلامًا في يوم من الأيام هنا منسيًّا، كان عند الحوض والصنبور، قابعًا وحده تحت ظلِّ سحابةٍ في ساعة العصر التي بدأ الرمل فيها يَفقد شيئًا من لظاه تحت خُفَّيه، كان هناك مُؤمِّلاً صابرًا عند فم الصنبور النحاسي العتيق، وتحته الحوض الحجري الذي يشتمُّ فيه ريحَ مياهٍ كانت هنا في زمنٍ بعيد، ووسوسة أصوات الصِّبية المختلطة الذين كانوا يلعبون معه يومًا ما ها هنا.
يفتح الصنبور للمرة السابعة في عصر هذا اليوم، مثلما يفعل كلَّ يوم، ينتظر المياه بعينين متلهِّفتين، وشفةٍ مرتعشة، بشَبق الحنين والإصرار العنيد، والمياه المنقطعة التي كانت تَخرُّ في الزمن البعيد، ويتلألأ من تحتها الحصَى الذي انعكسَت عليه شمس الصباح المُبهجة، ما عادت أبدًا، راحتْ كما راح الغابرون بأسرارهم وزلاَّتهم.
لا ينسى أبدًا أن يُغلق الصنبور بعد كل محاولة، يَسمح له إغلاقه أن يأمُل في مفاجأةٍ حين يفتحه من جديد، مثل كل مرة، هذا الذي راح الغابرون عنه بليلٍ وما عادوا، يغلق الصنبور؛ لينتظر من بعدها ذاك الأمل الذي يشاغب دائمًا خلف كل مُغلَق.
الرجل العجوز الصابر عند الحوض والصنبور، والذي تتناثر من حول حوضه الجافِّ العشراتُ من عبوات المياه البلاستيكية الفارغة من أشكالٍ وأسماء عديدة ومن أزمنة مختلفة في هذه البيئة العذراء، يصل إلى سمعه الضعيف صوت محرِّك سيارة قوي، كسيارات الصيادين والمستكشفين التي تمرُّ من عالمه دائمًا، يتجاهل الصوت بكبرياء مهشَّمٍ، ويُدير وجهه ناحية البيوت الخاوية التي شاخ النخل في أفْنيتها، وانهالت الرمال على أبوابها الخشبية المغلقة، وإلى بُرقع أمِّه الشابَّة الأرمل، والقُرط الكبير الذي على أنف أمِّه، والكحل الغجري الكثيف على عيني أمِّه، والحجر البُني الذي كانت تحكُّ به باطنَ قدَميها، وقميصها الأحمر الساتان، والخياط الذي كثيرًا ما كان ينسى الإبرة والكستبان، وجراب الثعبان الذي انحلَّ في الليلة قبل الأخيرة عند مَرقده المفضَّل فوق السطح وقد كان يقِظًا يدَّعي النوم، قد أرَّقته كثيرًا تلك الهَمهماتُ الصيفية من تحته، ووجه الخيَّاط المصدوم حينما رآه في الصباح في الطُّرقات بخيرٍ يأكل خبزًا، يمد الخيَّاط يده إليه بسقاية الخروب، اشرَب، هذا الخرُّوب الذي تحبُّه، اشربْ، اشربْ، يتردَّد الغلام طويلاً، ثم يمدُّ يديه الخائفتين عجوزًا؛ ليأخذ بعض عبوات المياه المعبَّأة -من ركَّاب سيارة الدفع الرباعي التي وقفت عنده- وبعض العصائر، ويُدير وجهه عنهم مرةً أخرى، فيفتحون الباب الخلفي، ويتركون له بعض الطعام الجافِّ على مقربةٍ منه بشيءٍ من الحذر والتقدير، يفتح عبوةً من دون أن ينظر إليها، كانت عيناه على الدرب الذي ذهب فيه الغابرون، ما زال إلى الآن يتمنَّى ألاَّ يَفقدوه، ويعودوا لالتقاطه من النزلة المهجورة، ما زالت أمُّه غضَّة تضع قُرطًا كبيرًا على أنفها، وتحكُّ باطن قدميها بالحجر، تكاد تُدميهما، والشاب الأجرد المأمون الذي لا يغار الناس منه ما زال ينسى الإبرة والكستبان، ويعود وحْده؛ ليَلتقطهما بعد خروجه معه من الدار، تاركًا إياه في لعب الصِّبيان، اشرَبْ، اشربْ، هذا الخرُّوب الذي تحبه، يرمي العبوة مفزوعًا، تتلاحق أنفاسه وسط صدمة الأغراب، حتى يفيق من ماضيه، يحمل أخرى بهدوء، يتيقَّن من أنها مغلقةٌ بالبلاستيك الشفَّاف، يشرب قليلاً بكبرياء مَن لم يعترف بالهزيمة، ثم يَفزع ويرميها، تتلاحق أنفاسه، يَهدأ، يُدقِّق في عبوةٍ أخرى ويَفحص غلافها، ويشرب منها، يَهزون رؤوسهم يُطمئنونه، يَهز رأسه أنه بخير، وعلى عينه دمعةٌ واحدةٌ تجلَّطتْ، يضع العبوة بجانبه، يميل على الصنبور مرة أخرى، يجرِّب فتحه، إنه ما زال يُفضِّل أن يشرب من الصنبور، ولا يشرب من يد الناس، يهز رأسه رافضًا صوتًا يوسوس في ضميره: اشرَبْ، اشربْ.
يُحنِّن فوهة الصنبور بأصابعه، كأنه يحنِّن ضَرْعَ بقرةٍ عَجفاء، يحنِّن وشفتاه مشتاقتان لشربٍ لا يُقدِّمه أحد، استمرَّ في هذا وقتًا وهو لا يبالي بمراقبتهم له، يَهزون رؤوسهم متأسفين لحاله، تندفع سيارتهم بصوتٍ مزعجٍ وتثير غبارًا، وهم من داخلها ما زالوا يتأمَّلونه، لتمضي بهم قليلاً بالموازاة للماسورة العتيقة التي تصبُّ عند حوض الرجل الغريب، لدقيقةٍ لا أكثر، حينما رموا نظرةً أليمة من خلف الزجاج المُظلل لنبْعِها الخرافة، للطرف الآخر المُنبت من ماسورة الصنبور الذي يلثم العدم والخَواء.
مواقع النشر