كيف تصنع لنفسك تاريخاً؟
التاريخ سلسلة من الحلقات المتصلة والمترابطة وكثير منا عندما يذكر التاريخ يستحضر الماضي مباشرة وما به من أمجاد وانتصارات تفوق الوصف والتخيلات، فما بالنا اليوم وقد توقفنا عن صناعة تاريخ لنا ولأمتنا الإسلامية، أمة الانتصارات والفتوحات، أمة المشارق والمغارب، أمة كانت وستكون هي وأبناؤها صنّاعا للتاريخ...
حقاً ما أعظمه من عملٍ أن نصنع التاريخ، التاريخ المجيد الذي يفخر به الناس بعد مئات السنين، ويعملون على التواصل معه، والارتباط به واستكمال مسيرته دون توقفٍ أو تباطؤٍ أو تراجعٍ...
ولا أعني بصناعة التاريخ خلقه وإيجاده من العدم؛ فهذا من شأن رب العالمين تبارك وتعالى، وإنما أعني به صناعة أحداثٍ تؤتي نتاجاً مباركاً في تحقيق أهدافٍ للأمة الإسلامية؛ تؤثر في حاضرها ومستقبلها، وتضيء الجوانب المظلمة فيها، وتحي ما مات من آمالها، ومرّ من انتصاراتها، وطُمس من أحلامها، دون انتظارٍ لأحدٍ أن يسبق؛ فالمسلم هو أجدر وأقرب من يكون الصانع لتاريخه السابق لغيره..
ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة والاتباع الجميل حيث ضرب أروع الأمثلة في السبق والريادة والشجاعة وعدم الانتظار؛ روى البخاري رحمه الله عن أنس رضي الله عنه قال: ... فَزِعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَانْطَلَقَ النَّاسُ قِبَلَ الصَّوْتِ، فَاسْتَقْبَلَهُمُ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم قَدْ سَبَقَ النَّاسَ إِلَى الصَّوْتِ وَهْوَ يَقُولُ: ((لَنْ تُرَاعُوا، لَنْ تُرَاعُوا)).. (رواه البخاري (5686)، ومسلم (6146)).
فهنا صلى الله عليه وسلم لم يسبقه أحد إلى الحدث، ولم ينتظر أن يقوم به أحد - فأصحابه كثر ولن يتأخروا أو يتباطؤا رضي الله عنهم جميعاً - بل ذهب صلى الله عليه وسلم وكأنه لا يوجد في المدينة سواه!!
ولكن الآن وفي ظل التجهيل بإسلامنا وقيمنا ومبادئنا واحترامنا لأنفسنا أصبح السبّاقون لصناعة التاريخ فضلا عن المبادرين والساعين لصناعته قلة قليلة جدا، والله المستعان.
نعم فهو مطلب ليس من السهل الحصول عليه والوصول إليه، ولكن لنأخذ بالأسباب والنتائج وآليات الصناعة أقصد آليات صناعة الرجال.
فنصنع تاريخاً لأنفسنا من أجل تحقيق آمال أمتنا وتضميد بعض جراحها التي ما زالت تسيل منها الدماء بل تُقذف قذفاً؛ فصناعة تاريخ لي هو نفسه صناعة تاريخ لأمتي التي أنا جزء منها وهي كلٌّ لي، فكيف تهون النفس على الإنسان أن يكون كأنه غير كائن، كأنه غير إنسان حقيقي، فهو في طريق لا يعلم سبب وجوده فيه ولا هدفه، ولا يعلم إلى أين سيأخذه هذا الطريق هل إلى المجد المنتظر أم إلى الحضيض وسفال الفِكَر؟
واعلم أن هناك من الناس من هم حولنا يصنع تاريخاً لنفسه يومياً ولكن تاريخاً مزيفاً لا يترك بصمات فهو لا يشغله من أي الأبواب يدخل فهدفه الدخول ولو على حساب دينه ومعتقده وولائه وبرائه هدفه صناعة تاريخ لنفسه بدون هدف أو دافع سوى حب النفس وشهرة الصيت وجمع المال، أنانية ظاهرة جلية واضحة، وحيْد عن الطريق القويم، ليته يرجع لعل الأمة تتباه به يوماً من الأيام، حقاً لعلها تتباه به...
فمن دخلوا بوابة التاريخ كُثُر منهم: المجرمون والعصاة بل والمرتدون، وأدعياء العلم، والطغاة، والثوار، وأباطرة الحرب والمال، والممثلون والراقصون، واللاعبون..
منهم الدول، والممالك، والفرق, والجماعات, والطوائف, والأحزاب... وقائمة طويلة لا تنتهي من غثاء الأمة وفضالة رجالها!!
فالخوارج والشيعة حفلت بهم الكتب، والمعتزلة والأشعرية شغلوا الناس بفلسفاتهم وأفكارهم وكلامهم, والمغول والصهاينة دخلوا التاريخ من باب وحشي دموي, والبهائية دخلوه من باب الخيانة والاستعمار الإنجليزي، وغيرهم ممن مضوا دون إنجاز، دون صناعة حقيقية لتاريخ أنفسهم.
نعم ليس كل من دخل التاريخ صنعه كما يرضي رب العالمين، وكما نريد لأمتنا الأبيّة؛ فليس كل من كًُتب اسمه في الكتب أو الصحف أو المجلات أو ظهر في وسائل الإعلام بنى حضارة أو ترك أثراً أو بصمة أو ذكرى طيبة أو أسس مبدأ أو دافع عن قضية إسلامية.
أقول هذا ونحن في عصر التقدم العلمي والتقني؛ التكنولوجيا والفضائيات والشبكات العنكبوتية (الإنترنت)، أقول هذا وفي قلبي بل وفي قلب كل مسلم مخلص لدينه مرارة الأسى والحسرة وذلك حيث قامت إحدى الدول التي يدين أغلبها بالإسلام بتكريم مرتدٍ كافرٍ وإعطائه جائزة تقديرية لجهوده الباطلة ونواياه الفاسدة ضد دين الإسلام ثوابته ومقدساته، أليس مثل هذا ممن يعتبر ورقياً صَنع تاريخا مزيفاً لنفسه؟!!
أليس هذا ممن لُمّع وجهه من فلاشات الكاميرات وتسليط الأضواء؟ أليس هذا ممن كذب على مستمعيه وقرائه وأتباعه؟ أليس هذا ممن حرّف وانحرف؟ أليس هذا ممن ساق وانساق ومال واستمال؟ أليس هذا ممن بهرته الهتافات والحشود وتصفيق الجهال وأعمته السرادقات ومد البسط الحمراء حتى سكر وثمل من الشعارات فتجشأ قذراً وردةً وكفراً؟ {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [آل عمران: 178]، {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نزدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى:20].
فعلى هذا النكرة ومن شابهه أن يعلموا جيدا بأن التاريخ لن يتغير ولن يضيفهم بين دفتيه إلا على سبيل أنهم عاصون لله ولرسوله، منحرفون عن الدين القويم والفكر السليم، كما عليهم أن يعرفوا أن صناعة التاريخ لها رجالها الذين يصنعونه بدينهم واستقامتهم وطاعتهم لرب الأرض والسموات؛ فليست بصدفةٍ أو هي مهنة يمكن لمن يشاء أن يمتهنها، لكنها عزيمة وإصرار وطموح وآمال وإبداع نفوس خلقها الله لذلك وبث فيها من القوة والصبر والتضحية وبذل النفس والمال والولد فصناع التاريخ {... رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 23]
وهي مهمة كانت من مهمات الأنبياء والصديقين والشهداء والتابعين والرجال المخلصين من أهل الاستقامة والخير والتقوى أمثال: نور الدين زنكي، وصلاح الدين الأيوبي، وقطز، وأورخان غازي، ومحمد الفاتح، وعمر المختار، وعبد الله عزام، وأحمد ياسين، وخطاب، وشامل باسييف وغيرهم الكثير والكثير، حقاً إنهم (أقمار في زمن الظلمة).
{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ} [فاطر:10]
أليست رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة فمن سيبدأ بهذه الخطوة أنا أنت هو هي؟ من سيكون له السبق في أن يصنع لنفسه تاريخاً له ولأمته؟ ألا تعلم أن للوقت دوره المؤثر في صناعة التاريخ بعد أن تنحى عن دوره فقط في تسلسلها؟!! فبادر ولتكن أنت الأسبق {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26]
قال أحدهم: (أما الرجل الصانع للأحداث فهو رجل أحداث، أفعاله هي نتائج طاقات وملكات، ذكاء حاد وإرادة قوية وشخصية بارزة أكثر مما هي نتائج حوادث عارضة ناجمة عن مركزه).
ونزيد على قوله بدايةً وقبل كل ذلك: توفيق من الله ومنّ منه على صاحبه بأن يكون من صناع التاريخ.
ولكي يصنع المسلم لنفسه تاريخاً ولأمته يجب عليه عدة أشياء منها:
• أن يتجرد من مخاوفه الدنيوية كالخوف على الجاه والسلطان والمال والأهل والولد، ويعلي من همته فهو مقبل على صناعة تاريخ بأكمله ويا له من شرفٍ ((إن الله تعالى يحبُّ معاليَ الأمور وأشرافَها، ويكره سفسافها))؛ (رواه الطبراني 3/131، وصححه الألباني)
• أن يتجنب أهواءه وحساباته الضيقة فهو ليس يهدف بصناعة التاريخ هدف ذاتي، بقدر ما هو يهدف إلى إنجاز وصناعة تاريخ لأمته يدفعها إلى النور بعيدا عن الانجرار إلى الظلمة ويسمو ويعلو بها بعيدا عن الدنو {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40]
• أن يوسع تفكيره المحدود ويعمق نظرته السطحية؛ فتفكيره منصب وموجه لأمته، وصناعة تاريخه؛ ويعلم بأن التدين المنعزل عن الحياة تديُّنٌ مرفوض، لا يُقبَل من صاحبه، إذ ذات الصلاح لا يُنقذ الإنسان من فساد الدنيا، ومن مسؤوليته عن هذا الفساد، {وَمَا كانَ ربُّكَ ليُهْلكَ القُرى بِظُلْمٍ وأهلُهَا مُصِْلحُون} [هود: 117].
• أن يدرس العلوم الشرعية؛ كالعقيدة والفقه، والحديث، وغيرها، وكذلك العلوم الحياتية التي تحتاجها الأمة ولا تستقيم الحياة بدونها التي تساعده على صنع تاريخه وتاريخ أمته، فالحياة في تطور دائم، والحاجات تتجدد وتختلف من عصر إلى عصر.
وعليه فتضافر العلم مع العمل يثمر تغييرًا في السلوك، فسمة الإسلام هي الوَحْدة بين الشعور والسلوك، بين العقيدة والعمل، بين الإيمان القلبي والإحسان العملي، بذلك تستحيل العقيدة منهجًا للحياة كلها، وبذلك تتوحد الشخصية الإنسانية بكل نشاطها واتجاهاتها، وبذلك يستحق المؤمن هذا العطاء كله؛ {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 112]
• أن يعلم بأنه من المستخلفين في الأرض قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} [النور:65]
• أن يعمل على نشر المفاهيم الإسلامية الصحيحة مفاهيم النصر والاستعلاء والتقدم وأن تكون كلمة الله هي العليا وكلمة ما سواه هي السفلى حيث تُوجِد المناخ الجيد، وهو بدوره يُبْرز أحسن ما في الإنسان! لا المفاهيم الخبيثة القاتلة مفاهيم الهزيمة النفسية التي جعلت من الفعالية والمسارعة والإحساس بالمسؤولية حالات فردية، وطفرات شاذة، بعد أنْ كانت منهجًا عاماً للأمة كلها!
• أن يضع نصب عينيه بعضاً من السنن الإلهية العامة للنصر وهي:
أن النصر من عند الله لا من عند غيره: قال تعالى: {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ} [آل عمران: 126]
الإخلاص: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5]، وهذه هي قاعدة دين الله على الإطلاق: عبادة الله وحده، وإخلاص الدين له، والميل عن الشرك وأهله.. (في ظلال القرآن (8/80)).
فالإخلاص هو الذي تقبل به الأعمال وترفع به الدرجات وهو سبب الفوز في الدنيا والنجاة في الآخرة.
التوكل على الله سبحانه وتعالى في كل الأمور؛ {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159].
الثبات وعدم الوهن: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا...} [آل عمران: 146]؛ فلن يأتني الوهن ممن حولي من المثبطين ودعاة التغريب والمرتدين والعلمانيين ولو كثروا فأنا عازم لا محالة على صناعة تاريخٍ لي ولأمتي.
الصبر: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24].
ولقد تعمق مفهوم الصبر في نفوس الصحابة.. فها هو الصحابي الجليل عمير بن الحمام رضي الله عنه يردد وهو يقاتل في بدر:
ركضاً إلى الله بغير زاد --- إلا التقى وعمل المعاد.
والصبر في الله على الجهاد --- وكل زاد عرضة للنفاد.
غير التقى والبر والرشاد
الإيمان بالله وتقواه: لأن النصر لا يتحقق على يد جنود يقاتلون بلا إيمان، {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128]
تجنب النزاع والشقاق: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46]
إرادة الجهاد: قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ وَلَمْ يُحَدِّثْ بِهِ نَفْسَهُ مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ نِفَاقٍ)) (رواه مسلم (1910)).
إعداد العدة: الإعداد في حقيقته هو الأخذ بالأسباب {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال:60]، أي: كل ما تقدرون عليه من القوة العقلية والبدنية وأنواع الأسلحة ونحو ذلك مما يعين على قتالهم؛ فدخل في ذلك أنواع الصناعات التي تعمل فيها أصناف الأسلحة والآلات من المدافع والرشاشات، والبنادق، والطيارات الجوية، والمراكب البرية والبحرية، والحصون والقلاع والخنادق، وآلات الدفاع، والرأْي والسياسة التي بها يتقدم المسلمون ويندفع عنهم به شر أعدائهم، وتَعَلُّم الرَّمْي، والشجاعة والتدبير. (تفسير السعدي (ص324))
ومن صور الإعداد:
الإعداد الديني والروحي: ويأتي بإعداد الأفراد الربانيين بقوة الإيمان، وقوة الشكيمة والعزيمة، وحب الشهادة في سبيل الله عز وجل، وجعل الآخرة أحب إليه من الدنيا، وكثرة الدعاء والإلحاح على الله والإخلاص والإيمان بالقضاء والقدر قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن: 11] فتقوى عزيمته للجهاد في سبيل الله، ويقوى كَلَبه على أعداء الله وأعداء رسوله صلى الله عليه وسلم.
الإعداد التربوي والعلمي: بالتفرغ لأصحاب القدرات المتميزة في مجال العلم والتربية والدعوة والإعلام والسياسة والاقتصاد والمال، وإعدادهم، والاهتمام بمراكز المعلومات والبحوث وهي من أهم حاجات العصر.
العِلْمُ يَبْنِي بُيُوتًا لا عِمَادَ لَهَا وَالجَهْلُ يَهْدِمُ بَيْتَ العِزِّ وَالكَرَمِ
التخطيط والإدارة: والاستعداد بقوة لأمر مستقبلي {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص: 77]
الإعداد الاقتصادي: بوصول الأموال إلى قبضة المسلمين، وتحكم المنظومة الإسلامية في الاقتصاد العالمي، ومن خلاله يتحقق الاكتفاء الذاتي للأمة.
الإعداد الإعلامي: وهو ذو أهمية خطيرة لتزويده الناس بالمعلومات والحقائق، ودفع عجلة التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وإحداث التغيير فيها للأفضل، والمحافظة على شخصية المجتمع بكل معتقداته وآدابه وتراثه وتاريخه..
الإعداد الأمني: بتشكيل الأجهزة الأمنية ومكاتب المعلومات التي تقدم للقيادة التقارير لوضع الخطط المناسبة؛ فاستطلاع أخبار العدو ومعرفة مواطن الضعف فيه ومواقع آليته ومنشآته يوصل للتخطيط السليم المؤدي إلى الظفر به.
الإعداد العسكري: بأخذ القوة من الرمي، ومعرفة أساليب القتال والجهاد في سبيل الله عز وجل.
عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يقول: ((وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ أَلاَ إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْىُ أَلاَ إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْىُ أَلاَ إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْىُ)) (رواه مسلم (5055)) والرمي يكون حسب آلات كل عصر وما يناسبه كالمدافع على اختلاف أنواعها والقنابل والصواريخ والطائرات والدبابات..
مداولة الأيام بين الناس: {وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران: 140]، من الشدة إلى الرخاء، ومن الرخاء إلى الشدة، ومن النصر إلى الهزيمة، ومن الهزيمة إلى النصر، {إن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 140].
وهذه السنة نافذة بحسب ما تقتضيه سنة تغيير ما بالأنفس: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الأنفال: 53].
وهنا يضع الله عز وجل أيدينا على سر عظيم، وهو ارتباط المداولة بين الأمم والدول والمجتمعات مع التغيير النفسي والذاتي في الأمة؛ فسقوط الحضارات ونهوضها، والأمم في ارتفاعها وهبوطها، مرتبطة بهذا التغيير النفسي في مسارها عبر التاريخ والحاضر والمستقبل، وهي سنة ماضية ثابتة لا تتغير ولا تتبدل.
حقاً: فلا نامت أعين الجبناء...
قال مصطفى السباعي رحمه الله: الشباب يصنعون التاريخ بقلوبهم، والعلماء يصنعونه بعقولهم، والحكماء يصنعونه بأرواحهم، فإذا تعاون القلب والعلم والروح على صنع التاريخ، كان تاريخًا لا ينطفئ نورُه، ولا تخبو ناره، وكذلك صنعنا التاريخ أول مرة.
فالتمكين قادم لا محالة له ولمن على جادته من القادمين لصناعة تاريخهم وتاريخ أمتهم ولكن علينا بأسبابه من الاتباع وترك الابتداع، علينا بكل الأسباب التي توصلنا إليه مهما كانت العقبات والتحديات ومهما كانت المحن والابتلاءات فمع كل محنةٍ نجد منحًا وعطايا.
فمحن النبي صلى الله عليه وسلم مع المشركين وهو يصبر ويدعو ربه وينافح عن الدين فكانت منحه بأن يكون سيد ولد آدم وخير البشر وأفضل الخلق وحبيب الرحمن ويكون دين الإسلام هو الدين عند الله {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ} [آل عمران:19]
ومحنة المسلمين وهم يتسللون مستخفينَ من مكة إلى المدينة تركوا وطنهم وهم له محبون فكانت منحتهم صنع تاريخ البشرية، ووضع حجر الأساسِ لقيام الدولة الإسلامية.
ومحنة الحديبية وعدم ذهابهم للبيت العتيق وحزنهم الشديد لذلك؛ فكانت المنحة بعدها بالفتح المبين لمكة.
ومحنة الردة التي قام لها الصديق الرجل الذي وزن قدر أمة في وقته، تحولت إلى منحة يوم أن أعلنها صريحة مدوية: ((وَاللَّهِ لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ)) (رواه البخاري (1335))، وكشف الله المرتدين وعاقبهم بأيدي المؤمنين.
ومحنة آلاف الأسرى من بلاد الروم والفرس التي فتحَها المسلمون؛ فدخل الإسلام بلادهم فإذا هم يتبوءون نعيمَ الهداية، ويحرزونَ فوز الآخرة.
ومحنة التتارُ الذين أطبقوا على الأمة وقتلوا في بغداد وحدها مليوني مسلم تقريبا؛ فكسر الله أعداءه في عين جالوت وعاد للأمة مجدها ودخل التتار في الإسلام وأصبحوا شوكة في أعناق الكافرين.
وهكذا {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} [النساء: 19]. {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216].
ولنعلم أن من صنعوا تاريخهم أناس ليسوا خلقا من عالم آخر بل بشرا مثلنا أكثرهم عاصر ظروف القهر والظلم والاستبداد، ولكن الفارق بينهم وبين جميع الناس أنهم كانت لديهم الإرادة والنية والجد والمثابرة لتغيير واقعهم إلى الأفضل والأحسن، مع الاستعداد الدائم لدفع الثمن مهما كانت تكلفته...
واعلم أن الخير ما زال في هذه الأمة ما دامت الحياة {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110]
يقول سيد قطب: "وهذا ما ينبغي أن تدركه الأمة المسلمة؛ لتعرف حقيقتها وقيمتها، وتعرف أنها أخرجت لتكون طليعة، ولتكون لها القيادة، بما أنها هي خير أمة، والله يريد أن تكون القيادة للخير لا للشر في هذه الأرض، ومِن ثَم لا ينبغي لها أن تتلقى من غيرها من أمم الجاهلية، إنما ينبغي دائمًا أن تعطي هذه الأممَ مما لديها، وأن يكون لديها دائمًا ما تعطيه، ما تعطيه من الاعتقاد الصحيح، والتصور الصحيح، والنظام الصحيح، والخلق الصحيح، والمعرفة الصحيحة، والعلم الصحيح، هذا واجبها الذي يُحَتِّمه عليها مكانها، وتحتمه عليها غاية وجودها، واجبها أن تكون في الطليعة دائمًا، وفي مركز القيادة دائمًا، ولهذا المركز تبعاته، فهو لا يؤخذ ادِّعاءً، ولا يسلَّم لها به إلا أن تكون هي أهلاً له، وهي - بتصورها الاعتقادي، وبنظامها الاجتماعي - أهلٌ له، فيبقى عليها أن تكون بتقدمها العلمي، وبعمارتها للأرض - قيامًا بحق الخلافة - أهلاً له كذلك، ومن هذا يتبين أن المنهج الذي تقوم عليه هذه الأمة يطالبها بالشيء الكثير، ويدفعها إلى السبق في كل مجال، لو أنها تتبعه وتلتزم به، وتدرك مقتضياتِه وتكاليفَه، وفي أول مقتضيات هذا المكان أن تقوم على صيانة الحياة من الشر والفساد، وأن تكون لها القوة التي تمكنها من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فهي خير أمة أخرجت للناس".
فالأمة في حاجة إلى علماء فقهاء، يفقهون تزكية النفوس، وصياغة العقول، وتوحيد الجهود، ويفقهون قوانين بناء وانهيار المجتمعات، وقوانين التغيير، لا خطباء يدغدغون المشاعر والعواطف، ويَدَعُون الأمة تتلهى بالأماني دون أن تفقه كيف تجابه التحديات التي تواجهها.
فالمسلمون في عصرنا إنّما سقطوا وبعدوا عن صناعة تاريخ لهم ولأمتهم؛ لأنّهم اتّبعوا الشرق والغرب، اتبعوا كل ناعقٍ، بينما عندهم الإسلام وهو الأفضل من مناهج الغرب ومن مناهج الشرق، ولا صلاح لهم ولا للبشرية إلاّ بالرجوع إلى الإسلام، فإنّه الدين الوحيد، المطابق للعقل، والفطرة، والبرهان، والمنطق.
أسأل الله أن يستعملنا في طاعته، ويجعل منا صناعا للتاريخ بما يرضيه عنا...
والحمد لله..
مواقع النشر